منذ " تحرير" المشهد السمعي البصري، برزت في التداول السياسي و الإعلامي المغربي مقولة مضللة تقول بالتعددية الإعلامية السمعية البصرية بفضل السماح بإنشاء قنوات إذاعية أو تلفزيونية. و قد ساهم الإطلاق التدريجي لعدد من القنوات الإذاعية في تكريس هذه المقولة داخل التداول الإعلامي و بدا البعض يضرب المثل بالمغرب في الانفتاح و التعدد و تطور المشهد السمعي البصري. في البداية، لا بد من الإشارة إلى محدودية هذه المقولة على المستوى الإذاعي. فقد أعرب المتتبعون للإذاعات الجديدة عن خيبة أمل كبرى في "التحرير" التنظيمي، ما دامت هذه الوسائط لم تقدم شيئا ذا بال يبرز بالملموس وجود تعددية إعلامية حقيقية.كما عابوا عليها الابتعاد عن تقديم خدمات اجتماعية و تثقيفية للمستمعين و الجري وراء الأهواء الاشهارية للمعلنين الذين صاروا يتحكمون في تصور/تصميم البرامج و إعدادها و مضامينها حتى تستجيب لخططهم الاتصالية و التسويقية، ناهيك عن الأخطاء المهنية و التجاوزات المسجلة على مستوى تنشيط بعض البرامج التي قالت الهاكا كلمتها في شانها.إلا أن هذا لا ينفي الدينامية الجديدة التي فرضتها و وجود كفاءات قادرة على تقديم خدمات إذاعية جيدة و مفيدة للمستمعين. و هذا ما بدأت طلائعه الأولى تظهر هنا وهناك "على أمواج الأثير"( هذه العبارة تذكرني بحميمية إذاعة طنجة و الإذاعة الوطنية في الثمانينيات و التسعينيات). أما على الصعيد التلفزيوني، فلم ترخص الهاكا لحد الآن لأية قناة خصوصية مغربية من شانها أن تساعدنا على تبيان درجة التحقيق الفعلي للتعددية الإعلامية.بالمقابل، يروج الساسة المغاربة لفكرة أن التلفزيون العمومي يعكس في برامجه التعددية السياسية الوطنية، و هذا ما تنسبه ( التنسيب) تقارير الهاكا و المتابعات الإعلامية الرصينة و أراء الفاعلين السياسيين من داخل المعارضة و حتى من صفوف الأغلبية.من ثمة، يطرح سؤال كيفية مقاربة الموضوع في سياق غياب التعددية الإعلامية التلفزيونية حتى على مستوى الشكل أو الكم؟ ما هي المجالات التي من شانها تسليط الضوء على مظاهر محدودية تدبير التعددية داخل التلفزيون العمومي الواحد/المتعدد، و خاصة القناتين الأولى و الثانية؛ ما دامت "ميدي 1 تي في" تعمل على التكريس التدريجي لهويتها الجديدة؟. من اجل بلوغ هذا المسعى، اقترح التطرق لموضوع النشرات الإخبارية من اجل تبيان الأحادية الإعلامية في مقاربة القضايا الوطنية، و بالتالي انتفاء شروط ظهور أصوات متعددة تعكس التعددية السياسية داخل البلاد.في هذا السياق، لا بد من التذكير بالوضع الاعتباري للتلفزيون المغربي الذي يفترض فيه تقديم خدمات سمعية بصرية عمومية و وفق مقتضيات دفتر تحملات موقع عليه و ملزم للقناتين العموميتين العامتين الجامعتين ( قبل قدوم ميدي 1 تي في). و هذا ما يفترض عدم الانسياق الأعمى وراء الأحادية الإعلامية للسلطة السياسية و العمل على عكس التعددية السياسية و الثقافية داخل القناة الواحدة، و بالتالي تمكين تيارات الرأي المختلفة من " المرور" و تجسيد تعددية إعلامية داخلية إن صح التعبير. من ثمة، لا تساهم تعددية القنوات العمومية في ضمان تعددية المضمون الإعلامي. و هذا ما يظهر جليا في النشرات الإخبارية التي تقدم رؤية شبه موحدة تعكس رؤية السلطة السياسية أو تكون بمثابة امتداد لها، و لا تظهر الرؤى و الأصوات المغايرة إلا في حالات قليلة، و خاصة إبان الانتخابات المحلية و التشريعية. و لعل غياب سياسة تحريرية مهنية مستقلة يزيد من صعوبة الوضع، حيث يصبح من "البديهي" تقديم الرؤية الرسمية في كل روبورتاج أو تقرير، و من دون حتى تحمل عناء تقديم الرؤية المعارضة أو المنتقدة أو المشككة. و لا يتم اللجوء لذلك إلا في الروبورتاجات الخاصة بمشاكل خاصة بالجماعات و المدن او عند تغطية بعض وقفات و احتجاجات السكان أو العمال او المتضررين من اجراء ما... و كثيرا ما لا يتناول التلفزيون المغربي أحداثا داخلية ما دام أولو الأمر لا يرغون في ذلك، حتى و إن ملأت الدنيا و شغلت الناس( أحداث صفرو ،سيدي ايفني، مسيرات شعبية هنا و هناك،احتجاجات و مسيرات...حركة 20 فبراير، فضائح مالية أو فساد في الجماعات المحلية....). كما تتم معالجة "الأخبار الدولية" من منظور يعكس في الأول و الأخير موقف السلطة السياسية، و لا يعبر في اغلب الأحيان عن رأي الصحافي الذي اعد التقرير أو ناجم عن سياسة تحريرية مستقلة أو يعبر عن رأي الاتجاه الغالب في الرأي العام المغربي ( أحداث غزة، العراق، الثورات العربية في سوريا و ليبيا و اليمن...). و على صعيد القضايا الوطنية المحلية، فإنها تركز على تغطية الأنشطة الرسمية للمؤسسات الدستورية و الوزارات والأحزاب؛ خاصة في القناة "الأولى" التي بدأت تولي بعض الاهتمام بالمشاكل و الانشغالات المحلية، لكن بطريقة محتشمة و ما تزال تتلمس طريقها نحو التغيير. و على الرغم من العمل الذي قامت و تقوم به القناة الثانية لعكس انشغالات الساكنة المحلية في المدن و البوادي و أعالي الجبال ؛من خلال روبورتاجات تتطرق لمشكلات معينة تؤثر على الحياة اليومية للمواطنين ( طرق، ماء، صحة، تعليم...)، إلا أن المرور العابر لأصوات المواطنين لا يعكس سياسة تحريرية واضحة لتفعيل تعددية حقيقية؛ اللهم العمل على الضغط إعلاميا على المقررين السياسيين في الجماعات و الوزارات و المكاتب لحل مشكلات المواطنين هنا و هناك. ذلك أن التحكم في الجهاز التلفزيوني ما زال واقعا لا يرتفع، ما دام أن هناك احتكارا للجهاز و تحكما في الأصوات التي يسمح لها بالمرور و الأشخاص و الهيئات التي "تعطى لها الكلمة" ( نوعية الضيوف المشاركين في البرامج الحوارية، ضيوف بلاطو نشرة الأخبار..)، على الرغم من الانفتاح الواضح على الشباب و النساء، خاصة في سياق المتغيرات الجديدة التي فرضتها "الثورات العربية". كما يظهر غياب التعددية الإعلامية في أحادية الرؤية المقدمة للواقع، ما دامت البرامج و الفقرات "المتنوعة" تقدم رؤية نمطية تعكس الرؤية المهيمنة للواقع الاجتماعي و الاقتصادي و الثقافي. فحتى لو تم احترام بعض الشروط المهنية لضمان " التعددية" في تيارات الرأي التي تعطى لممثليها الكلمة،و حتى لو سلمنا بالقيمة الإعلامية و المهنية لبعض البرامج، فإنها على مستوى الاقتصاد السياسي تظل رهينة الرؤية المهيمنة حول : المغرب، المشروع المجتمعي، القيم و الثوابت، المقولات الأساسية للتفكير السائد و المهيمن...و بالتالي نحن أمام أحادية الإطار المرجعي السياسي و الثقافي و رؤية العالم و الواقع و المجتمع. لقد فرضت "ميدي1 تي في" على القناتين التقليديتين إعادة النظر في طرق تدبير التعددية (السياسية على الأقل) بفضل جودة و مهنية برامجها الحوارية و تغطياتها الإخبارية. و اذكر على سيل المثال تعاطيها المتميز مع الاستفتاء على الدستور، و ما سبقه من خطاب ملكي و لحقه من مناقشات...حيث ظهر بالملموس أن الوافد التلفزيوني العمومي الجديد لا يحمل "عقد" الماضي و لا يلتزم بالعادات التلفزيونية السيئة الموروثة عن عهد "أم الوزارات". و هذا ما يظهر على الخصوص من خلال المسافة التي يضعها الصحافيون و الصحافيات مع ممثلي الأحزاب، حيث لا يأخذون موقف السلطة السياسية كوحي منزل لا يناقش أو يساءل... كما يمكن النظر لغياب التعددية من زاوية علاقة المشاهد بالمنتوج التلفزيوني و بالبرمجة، حيث نادرا ما يملك الاختيار بين برنامجين أو فقرتين مهمتين، و الحال انه يختار اقلهما ضررا. فقد يحدث أن تبث الأولى برنامجا حواريا ( "حوار" أو "قضايا و آراء " الجديد..)، فيما تبث الثانية شريطا سينمائيا.. و هو تنوع أكثر منه تعدد، مادات القنوات العمومية تبرمج "أحادية" تركية مكسيكية أناء الليل و أطراف النهار تساهم في تنميط تلقي التخييل التلفزيوني و رؤية العالم المقدمة لمشاهدي تلك المسلسلات الطويلة.. و تلك قصة أخرى. لقد أكد هربرت شيلر أن " شرط التعددية الخالي تماما من أي تنوع حقيقي هو الذي يوفر أسباب القوة للنظام السائد و لتعليب الوعي". و هذا ما يسمح بالقول إن التلفزيون العمومي يساهم في تعليب الوعي المغربي بالواقع و يقدم رؤية للعالم و الواقع المغربي يراد تمثلها و إعادة إنتاجها على مستوى القيم و المعتقدات و المواقف و السلوك.من ثمة، لا مناص من إعمال تعددية حقيقية تتجاوز الشكليات و تنزاح عن ديكتاتورية نسب المتابعة التي تيسر تنميط الذوق و الثقافة التلفزيونية و تدفع بالتالي إلى تكريس "الحزب التلفزيوني الوحيد" في نسخته العولمية التي يتكالب فيها المال و السياسة لقتل الخدمة السمعية البصرية العمومية الحقيقية.