أحداث ماي الإرهابية، ذكرى تعود تفاصيل خيوطها المتشابكة إلى يوم الجمعة 16 ماي 2003، عندما اكتوت مدينة الدارالبيضاء بنيران أول عملية إرهابية "مدروسة" ومخطط لها، ستخلف على إثرها "الأيادي الغادرة" العشرات من الضحايا الأبرياء، وسيقفز إلى واجهة الأحداث الوطنية والدولي، شبح الإرهاب ليخيّم على المشهد العام في المملكة، التي ستشهد بعد ذلك التاريخ سلسلة من التفجيرات الانتحارية الأخرى التي هزت أكثر من مدينة مغربية. اليوم، وبعد مرور 15 سنة على تلك التفجيرات، يتبيّن أن العقل الأمني المغربي شَهِدَ تغيّراً استراتيجياً كبيراً في التعامل مع الخطر الإرهابي، فأحداث الدارالبيضاءومراكش قادت إلى إعادة بناء هذا العقل على قواعد جديدة في تشخيص المخاطر الإرهابية، تنطلق من التدخل الاستباقي في تفكيك الخلايا النائمة "Loups garous"، واستنفار كل الوحدات الخاصة لتطويق الإرهاب ومكافحته. 16 ماي.. عندما اهتزت الدارالبيضاء! كلّ شيء كان يبدو عادياً في تلك الأمسية الصيفية، المؤرخة في يوم الجمعة 16 ماي 2003، حتى سُمع دوّي انفجارات قوية هزَّت مناطق مُتفرقة من العاصمة الاقتصادية من المملكة. وقبل هذا التاريخ بسنوات، كان المغاربة يَحتفظون بذكرى أليمة غير "مسبوقة"، عندما قام عدد من الملثمين الجزائريين من جنسية فرنسية، ومعهم مغاربة، بالهجوم المسلح وتفجير فندق أطلس أسني الشهير في مدينة مراكش سنة 1994، مخلفين مقتل ما لا يقل عن ثلاثة سياح أجانب. ومباشرة بعد وقوع الحادث وتورط الجزائريين فيه، قرر المغرب، كرد فعل، قطع علاقاته مع الجارة الشرقية، لتغلق الحدود في وجه الشعبين الشقيقين. كانت الهجمات الإرهابية التي عرفتها مدينة الدارالبيضاء الأسوأ من حيث الخسائر البشرية، والأكثر دموية في تاريخ المملكة، القصة بدأت من الجغرافيا الضيقة من أحزمة البؤس في العاصمة الاقتصادية للمملكة، وبالضبط من حي سيدي مومن، بعدما خرج منها 14 "جهادياً" ليلة الجمعة 16 ماي من عام 2003، بشكل مخطط له مسبقاً، إلى أماكن حيوية مختلفة من العاصمة الاقتصادية، هي فندق "فرح" ومطعم "كازا ذي إسبانيا" والمقبرة اليهودية، ومطعم "لابوزيتانا"، حاملين أحزمة ناسفة لتنفيذ هجمات انتحارية على شاكلة "كاميكاز". ووفقاً للروايات الرسمية، خلفت هذه الهجمات الانتحارية مقتل 45 شخصاً، من بينهم 11 انتحارياً وثمانية أوروبيين (ضمنهم ثلاثة إسبان)، في حين وضعت السلطات يدها على ثلاثة من الانتحاريين الذين تراجعوا عن تنفيذ المخطط الإجرامي. وقد أشارت أصابع الاتهام إلى ضلوع جماعة ممن تسمى "السلفية الجهادية" في الحادث، واعتقل أكثر من 2000 مشتبه فيه، في حملة أمنية اعتبرها العديد من المراقبين "عشوائية" ولم تنطلق من خطة واضحة تزكي مشروعيتها. ولم تتبن أي جهة تلك التفجيرات، ولم تعلن إلى حدود الآن الجهة الحقيقية المسؤولة عن الحادث. البيضاء من جديد.. مرةً أخرى، تأبى مدينة الدارالبيضاء إلا أن تلبس وشاح السواد من جديد، بعدما اهتزت يوم 11 مارس من سنة 2007 على وقع تفجير "انتحاري" في أحد محلات الأنترنت بحي سيدي مومن، معقل 14 مهاجماً نفذوا هجمات انتحارية أسفرت عن سقوط 45 قتيلا في الدارالبيضاء عام 2003، جاء متزامناً مع الذكرى الثالثة لتفجيرات القطارات في العاصمة الإسبانية مدريد التي أسفرت عن سقوط 191 قتيلا. وتعود تفاصيل الحادث الأليم إلى إقدام رجل يخفي متفجرات تحت ملابسة على تفجير نفسه في مقهى للأنترنت في الدارالبيضاء؛ ما أسفر عن سقوط ثلاثة قتلى. وبحسب روايات الأمن، فإن "الرجل تشاجر مع مالك مقهى الانترنت، والانفجار وقع أثناء تبادل اللكمات"، لكن الأمن لم يستبعد إمكانية أن الرجل كان يخطط لهجوم في وقت ما. وفي فجر الثلاثاء 10 أبريل، صحا سكان حي الفداء، أحد الأحياء الفقيرة بالعاصمة الاقتصادية، على صوت رصاص عقِبه انفجار مُدوّ، ليكتشفوا أنه كان بين ظهرانهم ثلاثة انتحاريين مفترضين، كانوا يختبئون منذ أكثر من شهرين في شقة متواضعة استأجروها لتجهيز أنفسهم، السلطات تبحث عنهم. وكانت النيابة وجهت اتهامات إلى 31 شخصاً في هجوم 11 مارس على المقهى. ووفقا للمعطيات الرسمية، فإن "المهاجمين ربما كانوا يخططوا لتفجير سفن أجنبية في ميناء الدارالبيضاء ومعالم مغربية أخرى، منها فنادق في مراكش وأكادير. "أركانة".. الإرهاب يعود إلى مراكش يعود شبح "الإرهاب" ليطل من جديد على المدينة الحمراء، التي كانت قد اكتوت بنيرانه سنة 1994، بعدما تعرض فندق أسني الشهير لهجوم انتحاري نفذه مغاربة وجزائريون. ففي سنة 2011، سيُسمع دوّي انفجار عنيف، غير بعيد عن ساحة جامع "الفنا"، وبالضبط بالطابق الأول من مقهى اركانة الشهيرة، مخلفا مقتل 17 مواطناً مغربياً وأجنبيّاً، وإصابة 21 شخصا. لقد أبت الأيادي الغادرة إلا أن تحول جنبات مقهى "أركانة" إلى برك دماء أهدرت في لحظة طيش، وقضت المحكمة على "عادل العثماني"، المتهم الرئيس في تفجير المقهى عن بعد، بالإعدام، وبالمؤبد في حق "حكيم الداح"، ومن سنتين إلى أربع سنوات في حق سبعة آخرين متورطين في العملية نفسها. العقل الأمني والتدخل الاستباقي من الواضح اليوم، بعد مرور 15 سنة على أحداث الدارالبيضاء الإرهابية، وما تبعها في سنة 2007، وأحداث أركانة في 2011، أن العقل الأمني المغربي شَهِدَ تغيّراً استراتيجياً كبيراً في التعامل مع الخطر الإرهابي، فأحداث الدارالبيضاء قادت إلى إعادة بناء العقل الأمني المغربي على قواعد جديدة في تشخيص المخاطر الإرهابية. وهذا ما يخلص إليه رئيس المركز الأطلسي للدراسات الاستراتيجية والتحليل الأمني، عبد الرحيم المنار السليمي، الذي يرى أن "بناء نموذج التدخل الأمني الاستباقي مكَّن السلطات الأمنية المغربية من تفكيك ما يفوق 180 خلية منذ أحداث الدارالبيضاء". ويعتقد الأستاذ الجامعي أن "هذا النموذج الأمني هو الذي أسّس للمدرسة الاستخباراتية المغربية وبات مطلوب عالمياً"، مورداً أنه "بعد 15 سنة، ما زالت درجة الخطر الارهابي مرتفعة؛ فالمغرب يواجه محاور تهديدية متعددة مرتبطة بخطر الداعشيين المغاربة الذين يحاولون العودة من مناطق النزاع بخبرات قتالية أخطر من نموذج القاعدة، ويواجه محيطا جغرافيا تهديديا خطيرا يتمثل في داعش أوروبا والداعشيين مزدوجي الجنسية وداعش ليبيا ومنطقة الساحل والصحراء، إضافة إلى داعش الجزائر الذي يتطور يومياً في ارتباطه بأنصار الشريعة في ليبيا وتونس". الخطر الداخلي؟ كما أن الخطر الداخلي لم يَنتَه، بحسب السليمي، لكون التجنيد انتقل من الميدان إلى الإنترنيت، كما أنه لا توجد ضمانات حول برامج المصالحة التي يروَّج لها ويدفع بها البعض لكونها لم تنجح في أية تجربة في العالم. وقال: "الحرب على الإرهاب تجري اليوم في الإبحار على الإنترنيت، ويبدو أن المدرسة الاستخباراتية المغربية في محاربة الإرهاب طوّرت نموذجها وباتت لها القدرة العالمية في التصدي للخطر داخلياً وإقليمياً ودولياً عن طريق التعاون الاستخباراتي والقدرة على الوصول إلى المعلومة وتحليلها والتدخل بناء عليها". ورغم تراجع نفوذ تنظيم الدولة الإسلامية في الشرق الأوسط وانكماش قوته القتالية في عدد من بؤر التوتر، يعتقد السليمي أن "الخطر ما زال قائماً، لأننا سنكون في مواجهة جيل جديد من الإرهابيين يجمع بين ثلاثة أجسام: جسم إيديولوجي حامل للفكر التكفيري، وجسم قتالي قادر على قيادة حرب الشوارع والأماكن العامة، وجسم تكنولوجي قادر على بناء تنظيم عبر أدوات التواصل والتجنيد والتخطيط عبر الإنترنيت، هذه هي الأخطار القائمة حالياً"، يقول الخبير الأمني ذاته.