قبل ثماني سنوات، وبالضبط في الثالث من شهر ماي سنة 2010، غادرنا هرم فكري مغربي كبير، رحل عنا الأستاذ محمد عابد الجابري، المفكر الذي كثر القول منه وفيه، منه، لأنه كان صاحب إنتاج غزير شمل عدة مجالات من الإبداع الفكري، من إشكالات الفلسفة إلى القضايا التربوية، ومن أسئلة السياسة إلى المسألة الدينية، مرورا بقضايا الفكر العربي الحديث والمعاصر؛ إنتاج عز نظيره في مقاربة إشكاليات التراث والحداثة في علاقتها بالواقع السياسي والثقافي في العالم العربي. وقد بدل الراحل في هذا الإنتاج جهدا استثنائيا تمكن من خلاله من كشف منهجي جديد في قراءة التراث، مقدما أطروحة جديدة قادته إلى صياغة مشروعه الفكري الضخم: "نقد العقل العربي". بقدر ما كثر القول من الأستاذ الجابري، كثر القول فيه أيضا إلى درجة يصعب علينا مواكبة هذا القول والإحاطة به، فهو يتطلب لوحده عملا بيبليوغرافيا مستقلا قد يشمل مكتبة شبه قائمة بذاتها، منها كتب مستقلة أنجزها باحثون متخصصون، ومنها مقالات ودراسات متفرقة في الصحف والمجلات والدوريات، ومنها أيضا ندوات ومؤلفات جماعية وضعت خصيصا لقراءة أعماله، ومنها أخيرا مناقشات وسجالات مع مفكرين معروفين. كل هذا الجدل حول الجابري ومشروعه يرجع في نظرنا إلى كونه جعل من أسئلة الحداثة والموقف من التراث أسئلة سياسية ملحة؛ لقد نقل الفلسفة إلى قلب السياسة، مؤكدا أن الإشكالات الفلسفية هي في العمق أسئلة سياسية؛ بل إن قدر الفلسفة، في نظره، أن تكون ضمير السياسة. هكذا نظر الجابري، وهكذا فكر وكتب، وهذا ما تعلمناه منه؛ تعلمنا أن المشكل الذي نعاني منه ليس الاختيار بين التراث أو الحداثة، بل المشكل هو بناء حداثة خاصة بنا انطلاقا من تجديد تراثنا من داخله، وقد رسم معالم إستراتيجية اعتبرها كفيلة بتحقيق ذلك، وفي إطارها اشتغل منذ كتابه "نحن والتراث"، مؤكدا، في هذا الصدد، أنه لا يمكن لحداثة على المستوى العربي أن تجد طريقها إلا بإنشاء مرجعية ثقافية عربية عامة تشكل المرجعية الأم التي ترتبط بها جميع المرجعيات الفرعية، فضلا عن المذاهب الدينية والفكرية، وهو أمر لن يتم إلا بتحقيق هدفين أساسيين : الأول هو إعادة كتابة تاريخنا الثقافي. ولن نتمكن من ذلك إلا ب"تحريره من الزمن السياسي الممزق من خلال إعادة الوحدة له وترتيب أجزائه والكشف، في صيرورته، عن مواطن التجديد والتقدم، وبناء تاريخيته بوضع السابق فيه واللاحق، والقديم والجديد في مكانهما من التطور التاريخي، ومن ثم إقامة جسور بيننا وبين أعلى مراحل تطوره وتقدمه". هذه العملية، أي ربط صلة وصل بين حاضرنا وبين أعلى مراحل التقدم في تراثنا، هي التي حاول الجابري القيام بها في مشروعه النقدي حول التراث العربي والإسلامي، إذ أبرز لنا الكيفية التي يمكن من خلالها الارتقاء بتراثنا وجعله يستجيب لاهتماماتنا المعاصرة، ويشكل بالتالي حلقة الوصل بين ماضينا وحاضرنا، الحلقة التي تجعل منه مرجعية لنا، في الاتفاق والاختلاف، في الاقتباس والإبداع. وبدون هذه المرجعية يبقى التراث في الماضي مقطوع الصلة بالحاضر. الثاني يتجلى في التأصيل "الثقافي" لقيم الحداثة، ويشرح لنا الجابري ذلك قائلا: "يجب أن نعمل على تبيئة وتأصيل قضايا الحاضر، قيم الحداثة وأسس التحديث، في ثقافتنا، وذلك بإيجاد أصول لها تستطيع تأسيسها في وعينا، وعينا الديني والأخلاقي، وعينا الثقافي العام". لم يكتف الجابري بالتنظير لهذه المهمة، بل مارسها في عدة مؤلفات، لأنه يرى أن هذا النوع من التأصيل "الثقافي" سيساعدنا على تجاوز الانشطار والازدواجية التي تعيشها ثقافتنا ومجتمعاتنا. فقد يبدو للوهلة الأولى أن التطور الاقتصادي والاجتماعي سيلعب دورا هاما في التخفيف من حدة هذه الازدواجية، لكنها مع ذلك لها بعد ثقافي خاص في مجتمعنا العربي، وهو البعد الذي يمكن إدراكه إذا قمنا بمقارنة ثقل الثقافي عندنا، من عقيدة وشريعة ونظام فكر وتقاليد وعادات، وبين ثقله في مجتمعات أخرى كالمجتمعات الأوربية. يقول الجابري في هذا الصدد: "ليس صحيحا أن "الثقافي" عندنا مجرد عنصر في بنية فوقية تابعة للقاعدة المادية للمجتمع، بل الصحيح أن يقال إنه عنصر في بنية كلية يتبادل فيها "الفوقي" و"التحتي" المواقع أو يتداخلان بصورة تجعل من كل منهما فاعلا ومنفعلا في الوقت نفسه، ثابتا ومتغيرا في الآن نفسه، وهذا ما يزيد من استقلالية الثقافي، ويجعل التجديد فيه شرطا للتجديد في ميادين أخرى". إن محاولة التجديد هذه، من خلال إنشاء مرجعية ثقافية عربية عامة تحرر ماضينا الثقافي وتؤصل قضايا الحاضر، هي المهمة التي نذر الجابري حياته الفكرية لها، حتى صار له في كل جامعة وبلد مريدون.. كثرة هؤلاء تشي بقوة حضوره وتأثيره، ولا نبالغ إن قلنا إن فكره ساد على جيل بأكمله، وإن كلا من مثقفي الثمانينيات والتسعينيات كانت لهم، على الأقل، مرحلة جابرية، وإن الرجل غدا منذ ذلك الحين سلطة فكرية وثقافية راسخة؛ لهذه الأسباب وغيرها فرض حدث وفاته، قبل ثماني سنوات، صمتا على الفكر العربي المعاصر.. صمت قاس مربك في آن، لأن رحيله ترك فراغا قاسيا لا يعوض، وقد بدا ذلك واضحا في ما جرى ويجري الآن في المنطقة العربية من أحداث جسام تسائل العقل العربي الذي كشف الجابري بنيته وآليات اشتغاله. ولا نملك في الأخير إلا أن نقول، من جديد، عزاؤنا واحد في هذا الفقيد الكبير.