مجلس النواب يصادق بالأغلبية على الجزء الأول من مشروع قانون المالية لسنة 2025    غسل الأموال وتمويل الإرهاب… وزارة الداخلية تضع الكازينوهات تحت المجهر    الحكومة المغربية تعزز قطاع الدفاع الوطني بإعفاءات ضريبية جديدة    "الأمم المتحدة" و"هيومن رايتس ووتش": إسرائيل ارتكبت جرائم حرب ضد الإنسانية وجرائم تطهير عرقي    الركراكي: المباراة أمام الغابون ستكون "مفتوحة وهجومية"        مصرع 10 أشخاص بحريق في دار مسنين بإسبانيا    جدعون ليفي يكتب: مع تسلم ترامب ووزرائه الحكم ستحصل إسرائيل على إذن بالقتل والتطهير والترحيل    اكادير تحتضن كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي    صحيفة إيطالية: المغرب فرض نفسه كفاعل رئيسي في إفريقيا بفضل "موثوقيته" و"تأثيره"    عامل إقليم الجديدة يزور جماعة أزمور للاطلاع على الملفات العالقة    بوريطة: المغرب شريك استراتيجي لأوروبا .. والموقف ثابت من قضية فلسطين    مثل الهواتف والتلفزيونات.. المقلاة الهوائية "جاسوس" بالمنزل    المنتخب المغربي يفوز على نظيره المصري في التصفيات المؤهلة لكأس أمام أفريقيا للشباب    إقصائيات كأس أمم إفريقيا 2025 (الجولة 5).. الغابون تحسم التأهل قبل مواجهة المغرب    اشتباكات بين الجمهور الفرنسي والاسرائيلي في مدرجات ملعب فرنسا الدولي أثناء مباراة المنتخبين    الحسيمة : ملتقي المقاولة يناقش الانتقال الرقمي والسياحة المستدامة (الفيديو)    تعيين مدير جديد للمدرسة الوطنية للهندسة المعمارية بتطوان    السفيرة بنيعيش: المغرب عبأ جهازا لوجستيا مهما تضامنا مع الشعب الإسباني على خلفية الفيضانات    مقاييس التساقطات المطرية خلال 24 ساعة.. وتوقع هبات رياح قوية مع تطاير للغبار    بحضور التازي وشلبي ومورو.. إطلاق مشاريع تنموية واعدة بإقليم وزان    عنصر غذائي هام لتحسين مقاومة الأنسولين .. تعرف عليه!    وزيرة الاقتصاد والمالية تقول إن الحكومة واجهت عدة أزمات بعمل استباقي خفف من وطأة غلاء الأسعار    لمدة 10 سنوات... المغرب يسعى لتوريد 7.5 ملايين طن من الكبريت من قطر    الدرك الملكي بتارجيست يضبط سيارة محملة ب130 كيلوغرامًا من مخدر الشيرا    المنتخب المغربي الأولمبي يواجه كوت ديفوار وديا في أبيدجان استعدادا للاستحقاقات المقبلة    أزمة انقطاع الأدوية تثير تساؤلات حول السياسات الصحية بالمغرب    هل يستغني "الفيفا" عن تقنية "الفار" قريباً؟    بتهمة اختلاس أموال البرلمان الأوروبي.. مارين لوبان تواجه عقوبة السجن في فرنسا    ‬المنافسة ‬وضيق ‬التنفس ‬الديموقراطي    الارتفاع ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    حوالي 5 مليون مغربي مصابون بالسكري أو في مرحلة ما قبل الإصابة    ألغاز وظواهر في معرض هاروان ريد ببروكسيل    الحكومة تعلن استيراد 20 ألف طن من اللحوم الحمراء المجمدة    صيدليات المغرب تكشف عن السكري    ملتقى الزجل والفنون التراثية يحتفي بالتراث المغربي بطنجة    الروائي والمسرحي عبد الإله السماع في إصدار جديد    خلال 24 ساعة .. هذه كمية التساقطات المسجلة بجهة طنجة    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    نشرة إنذارية.. هبات رياح قوية مع تطاير للغبار مرتقبة اليوم الخميس وغدا الجمعة بعدد من أقاليم المملكة    معدل الإصابة بمرض السكري تضاعف خلال السنوات الثلاثين الماضية (دراسة)    تمديد آجال إيداع ملفات الترشيح للاستفادة من دعم الجولات المسرحية    مركز إفريقي يوصي باعتماد "بي سي آر" مغربي الصنع للكشف عن جدري القردة    الاحتيال وسوء استخدام السلطة يقودان رئيس اتحاد الكرة في جنوب إفريقا للاعتقال    عواصف جديدة في إسبانيا تتسبب في إغلاق المدارس وتعليق رحلات القطارات بعد فيضانات مدمرة    "هيومن رايتس ووتش": التهجير القسري الممنهج بغزة يرقي لتطهير عرقي    إسرائيل تقصف مناطق يسيطر عليها حزب الله في بيروت وجنوب لبنان لليوم الثالث    أسعار النفط تنخفض بضغط من توقعات ارتفاع الإنتاج وضعف الطلب    حفل توزيع جوائز صنّاع الترفيه "JOY AWARDS" يستعد للإحتفاء بنجوم السينماوالموسيقى والرياضة من قلب الرياض    هذه أسعار أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    غارة جديدة تطال الضاحية الجنوبية لبيروت    أكاديمية المملكة تفكر في تحسين "الترجمة الآلية" بالخبرات البشرية والتقنية    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المكسيكي أوكتافيُو باث في تيّاراته السّورياليّة وواقعيّته السِّحريّة
نشر في هسبريس يوم 04 - 05 - 2018

صادف يوم 31 من شهر مارس الفارط (2018) الذكرى الرابعة بعد المئة لميلاد شاعر المكسيك ذائع الصّيت أوكتافيو باث، المزداد بالعاصمة المكسيكية في التاريخ نفسه من عام 1914، والمتوفّى في 19 أبريل 1998.
احتفل العالم الناطق باللغة الإسبانية بهذه المناسبة الثقافية والأدبية والشعرية والإبداعية في إسبانيا، وفى بلده المكسيك وبعض بلدان أمريكا اللاتينية، وشاءت الأقدار أن يتصادف هذا الاحتفال في العالم الناطق بلغة سيرفانتيس في السنة نفسها بالذكرى الرّابعة بعد المئة كذلك لميلاد الرّوائي الأرجنتيني المعروف خوليو كورتاثار الذي وُلد هو الآخر في التاريخ ذاته.
ومعروف في الأوساط الأدبية عند النقاد والدارسين أن عام (1914) هو عام هاذين الكاتبين الكبيرين في أمريكا اللاتينية استذكاراً واستحضاراً لإبداعاتهما الشعرية والرّوائية واسعة الانتشار التي طبّقت شهرتها الآفاق، حيث يتمّ تنظيم لقاءات، ومناظرات، وندوات وطاولات مستديرة، في العديد من الجامعات، والمعاهد المُتخصّصة في مختلف هذه البلدان، فضلاً عن تنظيم قراءات منتظمة لنصوص هاذين المبدعين، وإقامة معارض لمؤلفاتهما، وأعمالهما، ومخطوطاتهما في مختلف الأصناف الأدبية التي أبدعا فيها، بالإضافة إلى إعادة طبع بعض أعمالهما، ونشر إصدارات خاصّة جديدة لكتبهما ودواوينهما.
ونخصّص المقال التالي للشاعر أوكتافيو باث، على أمل العودة في مقالٍ لاحق بحول الله إلى الأرجنتيني خوليو كورتاثار، صاحب الأعمال الرّوائية المعروفة التي حقق بها شهرة واسعة في بلده الأرجنتين، وفى سائر بلدان أمريكا اللاتينية، وانتقلت أعماله الرّوائية إلى بعض اللغات الحيّة المعاصرة.
تيّارات سورياليّة وواقعيّة سِحريّة
يؤكّد النقاد المتخصّصون في الإبداع الشّعري المكتوب باللغة الإسبانية أن الشاعر أوكتافيو باث يعتبر بدون منازع من أكبر شعراء أمريكا اللّاتينية، بل والعالم الناطق بلغة سيرفانتيس. إنّه معروف بشاعر الحبّ، والمرايا، والأحلام، والآهات. هذا الشاعر، الحاصل على جائرة نوبل العالمية في الآداب عام 1990، عمل بدون هوادة على مدّ جسور متينة بين عوالم السياسة والثقافة، والشّعر والنثر، ولم يترك لأيٍّ منها الغلبة على الأخرى. يقول: "أن تحبّ معناه أن تحارب. العالم يتغيّر إذا تحابّ اثنان، وتتجسّدُ الرّغبات، وينسجمُ الفكر، وتخفقُ الأجنحة. الخَمرة هي الخَمرة، والخبز يغدو له طعم الخبز، والحبّ يعني أن تحارب وأن تفتح جميع الأبواب"**.
ويرى النقاد أن قصائد أوكتافيو باث وشطحات خياله، وبنات أفكاره إنّما هي مزيج واتحاد بين ثقافتين اثنتين، هما ثقافتان ثريتان ولكن يصعب التلاقي بينهما، ولكن مع ذلك أعطت كلّ منهما ثمارهما اليانعة، إنهما الثقافة الهندية الأصلية السّابقة للوجود الكولومبي، والثقافة الإسبانية الغربية المعاصرة، وتنعكس أصداء هاتين الثقافتين في مختلف أعماله، سواء الدراسية منها أو الإبداعية الشعرية على وجه الخصوص.
فشِعر باث مبطّن بتيّارات سرياليّة، وواقعية سحريّة، وشطحات صوفية مشرقية. ومثلما فعل بلديُّه الرّوائي المكسيكي الشهير كارلوس فوينتيس عندما حلل شخصية مواطنيه المكسيكيين في روايته "شمس المكسيك الخامسة"، فإننا نجد باث يُضمِّن تحليله ومعالجته لهويّته "كمكسيكي" وأمريكي لاتيني في كتابه الذي يحمل عنوان: "متاهات الوحدة" (1950)، كما أن شعره على وجه العموم مُفعم بأرقّ معاني الحبّ، وأعمق تباريح الجوى والصّبابة، وهو شعر ذو نزعة إنسانية، وطابع غنائي مرح، وأسلوب سلس قشيب، رشيق العبارة، دالّ الإشارة، ذو موسيقى متميّزة.
إننا نجد في آخر قصائده الكبرى التي تحت عنوان "حديث الشجرة" (1987) تأمّلات عميقة حول ملهاة الحياة، ومأساة الموت، وتتأرجح أشعاره بين شفافية البوْح، وعمق الطرْح وهي تقوم على وحدة بنيوية مُتراصّة ومُتماسكة لا انفصام لها.
ترويض اللّغة وتفجيرها
يقول الناقد المكسيكي "إدواردُو مِيلانْ" عن تاريخ الشّعر في أمريكا اللاتينية في القرن العشرين: "إنّه قصّة التناوش، والتشاكس، والتواصل والتداخل في أشكال الحياة في هذه القارّة متعدّدة الوجوه"، لقد جعل الشعراء هذه القارة تتّسم بخصوصية منفردة في العقود الأخيرة؛ إذ جعلوا من هوَس اللغة شُغلهم الشّاغل، وقد أصبحت إشكالية اللغة عندهم نتيجة ذلك تحتلّ مكانة أولوية مرموقة ليس في تحليلاتهم النقدية، أو دراساتهم اللغوية وحسب، بل في "الشّعر" ذاته بشكل خاص، وإذا أردنا أن نعبّر بطريقة أكثر دقّة كان علينا أن نقول لقد عملوا على "تفجير اللغة" واستغلال إمكانياتها، وتوظيف طاقاتها المخزونة، فقد تناول الشّعراء في هذه المنطقة من العالم اللغة الشعرية في ذاتها بشكل مُبهر".
ويؤكّد النقّاد أنه كان لبعض الشّعراء الأوربييّن الكبار تأثير واضح وكبير على شعراء أمريكا اللاتينية، أمثال رامبو، وبودلير، وملارميه، وفى طليعة هؤلاء الشعراء أوكتافيو باث، وقد برز هذا التأثير في ظهور حركة شعرية أطلق عليها "القصيدة الحسيّة" التي ظهرت في الخمسينيات من القرن الفارط في ساو باولو بالبرازيل، أسّسها ثلاثة شعراء هم: أوغوستو دي كاميُو، وديسّيو ليبغناتاري، ورولدو دي كامبُوس.
وقد أحدثت هذه الحركة الشّعرية تأثيرات بليغة في مجموع الشّعر الأمريكي اللاتيني، كان من نتائجها ما أطلق عليه فيما بعد الشّعر أو النثر الملغومين، ووصف أحد شعراء هذه الحركة، وهو رولدو دي كامبُوس "بالشّاعر الذي ليس له نظير بين شعراء أمريكا اللاتينية".
مغامرة هؤلاء الشعرية خلقت اتجاها فكريّاً جديداً في هذه القارة، ويَعتبر النقاد المكسيكيون شعرَ أوكتافيو باث امتداداً وتجسيداً لهذا التيّار المؤثّر؛ بحيث إنّهم لا يستغنون عن شعره لدراسة هذه الحركة، ولقد تجلّى هذا التأثير عنده بشكل خاص في قصيدته المشهورة "الأبيض" التي يعتبرها الناقد المكسيكي إدوارد ميلان أعلى مراحل التنوير الشّعري الأمريكي اللاّتيني الحديث؛ ففي هذه القصيدة تظهر تجلّيات باث اللغوية، إذ تصبح القصيدة عنده انعكاسا للغة ذاتها، بحيث تفوّق فيها باث على الشعراء السابقين المذكورين أعلاه، وارتقى إلى مصافّ مالارميه في الممازجة والمزاوجة بين اللغة والقصيدة.
باث وقصيدة "الأبيض"
كتب باث "قصيدة الأبيض" عام 1966 فى الهند، وفيها ينبش عن جذور حضارة عريقة وتراثها، فالشاعر في هذه القصيدة كمبدع، وكأنّ لسانَ حاله يقول: "أتحدّث فيبدع العالم"، ولكن الذي يبدع في الواقع هي القصيدة. إن ترويض اللغة يعني ضرباً من الانسحاب أو الابتعاد عن العالم. حينئذ يفسح المجال للمجاز ليقوم مقامها كجسر واصلٍ، أو كنوع من التصالح، والتقارب والتداني لفهم العالم، وتفسيره.
كان "هايدغر" ينبّهنا إلى الحقائق الواقعية أو الوقائع الحقيقية في الاقتراب من المجاز الذي يغدو فخّاً لقنص "العالم" أو اصطياد "لحظة" مّا منه. يحدث هذا كما يشير الناقد الفرنسي" جِيلْ دُولُوزْ" في لحظة إشراق، وإبهار، ووضوح، ويكون التناقض الظاهري حسب "هايدغر" هو أن "المقدّس" أو ما لا يمكن، أو ما لا يجوز قوله، هو ذلك الضّوء الذي سبق الضوء الذي يريد الشّاعر أن يتعرّض له، وهو يكمن بالضبط في الظلام، ولذا كان على الشّاعر الذي يبحث عن الظلام في عزّ النهار أن يعمّق رؤيته في النهار، أيّ تحويل الضوء أكثر بريقاً من تلقاء نفسه. إن ذلك الضوء الذي يسبق الظلام يعني نوعاً من مواجهة التوتّر، أو ضرباً من الغنوص، حيث نجد الرؤية أكثر خفوتاً، ولكنها أكثر شفافية، ففي هذه الشفافية وفي هذا التوتّر تندرج قصيدة "الأبيض" لأوكتافيو باث.
الأضداد وتصالحها
بناءً على ما سبق، لا يمكن النظر إلى المجاز كصورة من صور التقارب والتصالح بين الأضداد والمتناقضات؛ فالاستعارة، والمجاز، والكناية التي تظهر في القصيدة أو تجتمع في العبارة التالية: "نهر من الشموس"، تنصهر إلاّ أنّها لا تفضي إلى التواتر والمقابلات، كما أنّها لا تؤدّي إلى أيّ طباقٍ أو مقابلةٍ أو جِناس بين حقائق متغايرة.
إن الاستعارة أو المجاز في قصيدة "الأبيض" هما انعطافٌ، أو ميلٌ، أو ازورار، أو تُكَأَةٌ للّغة، أو هي قفزة في الهواء للانفلات من صمت النهاية، ومن الصّمت الأصلي؛ فالأبيض جزء من الصّمت الأصلي، إنه فجر الإبداع، وكلما ازدادت القصيدة تصاعداً، وتوتّراً، وتناوشاً يزيد معها ضمير "باث" في الغليان، الصّمت الأصلي الذي يعبّر عنه باث بالأبيض يكمن في النهاية أو الغرض، وهو الكامن في ضمير القول الشّعري، وإنّ استمراريته وتصاعده يتصادمان مع أمر مستحيل وهو تجسيد الكلمة والعالم معاً في آن واحد. وانطلاقا من هذه البدهية، فإنّ التبليغ الحقيقي لا وجود له سوى في اللّغة، وتأسيسها على هذا المنظور، فإنّ العالم كمخلوق يصبح مجلوباً، وتغدو القصيدة حينذاك بمثابة مغناطيس له.
القصيدة في هذه الحالة تغدو تقييماً للعالم كوحدة مجازية، وهي تخلق موازنة ظاهرية أو مصطنعة بين القصيدة والعالم، وهنا يحدث أن كلاًّ من القصيدة والعالم في لحظة ما يدخلان في حوار بينهما. هذا المعنى العميق لم يتوفّر حتى لدى "ستيفان مالارميه" الذي كان يعتبر العالمَ رمزاً للّغة. فلدى "مالارميه" نجد اللغة تبتلع، أو تمتصّ، أو تحتوي العالم، في حين إننا واجدون في "قصيدة الأبيض" اللغة هي التي تخاطب هذا العالم.
"أوكتافيو باث" يعتبر العالمَ منذ البداية كوحدة مجازية. عندئذٍ يصبح العالمُ مجازاً في لحظة ناصعة البياض، إنها لحظات صمت؛ ذلك أنّه في الحين، أيّ بمجرّد انطلاق دينامية اللغة، تبدأ الحركة، ولهذا فإنّنا نجد القصيدة تبتدئ كما يلي: البدء / الأساس / البذرة / كامنة مُضمرَة / والكلمة على طرف اللسان.
وهكذا نجد أساساً العالم يبدأ في "الأبيض" باللغة؛ ذلك أن وضع (المجاز، واللغة، والعالم) على قدم المساواة في هذا المعنى يجعل القصيدة لا تواجه العالم وحسب، بل إنها تحتويه كمخلوق جديد، حتى وإن كان العالم سابقاً للقصيدة. إن النصّ الشعري الدرامي لدى "باث" هو تأسيس لصورة العالم، أي إيجاد ما يوازيه أو يقابله، وإيجاد طرف لا يعني بالضرورة إلغاء الآخر، بل يعني نوعاً من التعايش، أو التعاطف، أو التقارب، أو الالتحام بينهما.
جمرات الإبداع
إنّ العواصف، أو الأعاصير في شعر "أوكتافيو باث" تغدو جمرات متّقدة، أو قبسات ساطعة وهّاجة لحظة الكتابة والإبداع، وهنا يبدو لنا ضمير "الشاعر المبدع" ضميراً يعلم عن نفسه أكثر ممّا يعرف عن العالم الخارجي.
إنّ كلّ قصيدة في مواجهتها للعالم هي تجربة لغوية غير هيّنة ولا يسيرة، إنّه يمكننا ضياع التاريخ أو نسيانه، ولكن لا ينبغي لنا فقدان العقل، أو التمييز، فليس هناك فرق بين تقليد قديم، وتقليد قائم. إن الصّورة التاريخية لإلياذة هوميروس تعمل على تأسيس الماضي من جديد، إلاّ أن ذلك لا يمكن تحقيقه إلاّ انطلاقا من حاضر، أن قصائد "أوكتافيو باث" مثل حالة العديد من القصائد المكتوبة باللغة الإسبانية اليوم، هي عودة إلى أشكال شعرية قديمة.
هناك اتّجاه لعودة جنونية إلى عنصر الحكي في القصيدة للتواصل مع الماضي، أي تأكيد الهويّة ومدى التصاقها بالتراث كعنصر من العناصر الصّالحة المتوارثة التي لا غنىً عنها لأيّ مبدع خلاّق؛ ذلك أن البحث عن وسائل تعبيرية جديدة، وعن أغراض مبتكرة ليس فقط في أمريكا اللاتينية بل في العالم الناطق بالإسبانية على العموم أمام ماض زاخر بالعطاء، والابتكار من كلّ نوع، يجعل الشعراءَ المعاصرين يشعرون بمرارة في أفواههم، وهم يتخبّطون في سديم وخضمّ هذا الظلام، إلاّ أنه سرعان ما ينبثق أو ينقشع خيط رفيع أو بصيص من نور بلّوريّ خالص، ممثّلاً في قصيدة "الأبيض" لصاحب "حَجَر الشمس" أكتافيو باث.
من جذور أندلسيّة
يقول أوكتافيو باث عن ذكرياته خلال لقاءاته المبكّرة مع بعض الشّعراء الكبار: "لقد تأثّرتُ كثيراً عندما التقيتُ بشاعر تشيلي الكبير بابلو بيرودا الذي كنت معجباً به أشدّ الإعجاب"؛ إذ أنه تعرّف عليه، وعلى الشاعر الإسباني المعروف "رفائيل ألبرتي" اللذيْن وجّها له الدّعوة للمشاركة في أوّل مؤتمر مناهض للفاشية في إسبانيا عام 1927، حيث عايش فيما بعد أهوالَ وظروف الحرب الأهلية الإسبانية التي سجّلها في قصيدته "لن يمرّوا" (1936) وهو تاريخ اندلاع هذه الحرب الضّروس التي لم تحط أوزارها سوى عام 1939.
كان جدّه ذا ملامح هندية ينحدر من السكّان الأصلييّن للمكسيك، وكانت أمّه تنحدر من أصول أندلسية بجنوب إسبانيا، بدأ باث يقرض الشّعر منذ سنّ مبكّرة بفضل الأجواء الثقافية التي عاش في كنفها، وكان قبل ذلك التاريخ قد نشر كتابه "أصل الإنسان" و"تحت ظلّك الواضح". وعندما عاد باث إلى بلاده شارك بحماس في الحياة السياسية والثقافية، وأسهم بقسط وافر بمقالاته، ودراساته، وشعره في مختلف الجرائد اليومية الكبرى، وفي سواها من المجلاّت الأدبية على وجه الخصوص.
من أعمال باث الإبداعية المعروفة الأخرى: "متاهات الوحدة"، "الحاشية"، "الماضي في وضوح"، "حديث الشجرة"، "سحر الضّحك"، "الشّعر يتحرّك"، "بين الحجرة والزّهرة"، "على ساحل العالم"، "صقر أم شمس"، "حَجَر الشّمس"***، "الماء والرّيح"، "سالاماندرا"، "الرّيح الخالدة"، "الأبيض"، "أبناء الهواء"، وغيرها من الكتب والدواوين الأخرى، بالإضافة إلى أعمال أخرى في مجالات الدّراسات والنقد، والاجتماعيات، والفنون، وهي كتابات تتّسم في مجملها بالعمق والرّمزية والتحليل البليغ. ومن الكتب التي وضعها باث قبيل رحيله كتاب "أخبار قصيرة حول أيام كبيرة"، يحلل فيه فشل الأيديولوجيات الاشتراكية في أوروبا الوسطى والشرقية.
يقول باث عن مذهب السّوريالية: "إنّ تأثير السّوريالية عليّ كان حاسماً كمذهب وليس كموقف، لقد وجدتُ في السّوريالية فكرة التمرّد، وفكرة الحبّ، والحرية وعلاقتهما بالإنسان. إن طبيعتها المغامرة والروحية الجماعية ومحاولاتها المتوالية لتجسيد الزّم، وقرض الشعر، وجعل موضوعها الإنسان قد أخذت بمجامعي".
إنه يقول: "أبحث ولا أجد شيئاً .. أكتب وحيداً .. ليس معي أحد .. يجنّ الليل .. يمضي الحَوْل .. وأهوىِ مع اللحظة .. أسقط إلى القعر .. دون أن يراني أحد .. أدوس المرايا التي تعكس صورتي المهشّمة .. أطأ الأيام .. أطأ اللحظات .. أطأ أفكار ظلّي .. أطأ ظلّي .. بحثاً عن هنيهة.
ويقول في غنائيته الشهيرة: إن شعبي عندما يحتسي القهوة .. يحدّثني عن "خواريث" و"بورفيريُو" .. وتحت اللّحاف تفوح رائحة البارود .. والدي عندما يحتسي كوب نبيذ .. يحدّثني عن "ساباتا" و"فييّا" .. وتحت اللّحاف تفوح رائحة البارود .. ترى عمّن كان بإمكاني الحديث أنا...؟!
*عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا.
** الأشعار الواردة أعلاه ضمن هذا المقال من ترجمة كاتب هذه السطورعن الإسبانية.
*** أدْرِجَتْ ترجمة هذه القصيدة المطوّلة كاملةً فى كتابٍ لصاحب المقال بعنوان: أنطولوجيا حَجَر الشّمس (ثلاثون قصيدة فى الشّعر الأمريكي اللاّتيني المعاصر) الصّادر عن المجلس الأعلى للثقافة (المشروع القومي للترجمة) بالقاهرة عام 2000 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.