شهد العقد الماضي تقدما اقتصاديا واجتماعيا ملحوظا في مسار تنمية اقتصاديات إفريقيا جنوب الصحراء. ونتيجة هذه الإنجازات الإقتصادية والإمكانيات المتاحة، تغيرت وجهة نظر السياسيين المغاربة، وكذا نخبة رجال الأعمال اتجاه المنطقة. وعلى الرغم من الإختلافات الصارخة في بنيات الإقتصاد، ومعدلات النمو الإقتصادي، ودرجة الإستقرار السياسي بين بلدان جنوب الصحراء الكبرى، فإن المنطقة لديها إمكانيات اقتصادية مستقبلية حقيقية . ومنذ 2003،حققت(دول إفريقيا جنوب الصحراء) نموا سنويا متوسطا،قدره 5 في المائة، وهذا في حد ذاته إنجاز هام،لاسيما في وقت تكافح فيه اقتصاديات متقدمة كثيرة من أجل النمو. ووفقا لصندوق النقد الدولي، فإنه من المتوقع أن تنمو اقتصاديات بعض هذه البلدان بنسبة 6 في المائة سنويا؛ وهي "بوركينافاصو"،وجمهورية "الكونغو الديمقراطية"،و"كوت ديفوار"،و"غينيا الإستوائية"،و"سيراليون". وتتحكم في التقدم الإقتصادي الإفريقي أساسا : زيادة الأسعار الدولية للسلع الأساسية، وتوسع الطبقة الوسطى (السكان)، والتحضر،كما أن هذه الإتجاهات الثلاث ستستمر بجعل إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى واحدة من أسرع الإقتصاديات الإقليمية نموا على مدى العقود القادمة. استفاد النمو الإقتصادي خلال السنوات الماضية ، وبالأخص 15 سنة الماضية، من الزيادة الكبيرة في أسعار النفط والسلع الأساسية، مما جعل استفادة الدول المصدرة له كبيرة، مثل نيجيريا؛ كما أن العديد من بلدان غرب إفريقيا غنية بالمواد الطبيعية، مثل "الغابون"، وجمهورية "الكونغو"، و"كوت ديفوار" و"سيراليون". ولا تقتصر الموارد الطبيعية لغرب إفريقيا على الهيدروكربونات، بل تشمل أيضا المعادن الأخرى، مثل خام الحديد، والمعادن الثمينة والمواد الزراعية. وتجدر الإشارة إلى أن النمو الإقتصادي لدول إفريقيا جنوب الصحراء، يستمد قوته أيضا من مصادر متنوعة أخرى، كالسياحة والصناعة التحويلية، كما أسهمت الإمتدادات الديموغرافية والتحضر في عملية النمو، حيث بلغ عدد سكان المنطقة 924.7 مليون نسمة سنة 2014. وتعتبر إفريقيا جنوب الصحراء ثاني أكبر منطقة في العالم من حيث عدد السكان بعد آسيا. ومن المتوقع أن يزيد عدد السكان إلى أكثر من الضعف بحلول عام 2050 ، ليصل إلى نحو ملياري نسمة. ويرجع غالبا هذا الإرتفاع في معدل النمو إلى ارتفاع معدلات الخصوبة بمعدل 5.2 طفل لكل امرأة (مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ 2.5)، كما أن إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى هي القارة الأكثر سرعة فيما يخص التحضر. وفي عام 2014، بلغت نسبة السكان الذين يعيشون في المناطق الحضرية 37% (345.6 مليون نسمة). وبحلول عام 2050، سيعيش نحو 1.1 بليون نسمة في المدن. وفي سنة 2035 سيكون نصف الساكنة تقريبا في المناطق الحضرية . وقد شكل الطلب المحلي جزءا مهما في سيرورة هذا النمو. وقد توسعت الطبقة الوسطى في إفريقيا، بما في ذلك شمال إفريقيا – بشكل كبير على مدى العقدين الماضيين-؛فوفقا لتقرير صادر عن مصرف التنمية الإفريقي، تضاعفت الطبقة الوسطى في الفترة ما بين 1990 و2010، من 157 مليون إلى 326 مليون نسمة . ويشمل ذلك الأفراد الذين بتراوح دخلهم بين 2 إلى 20 دولار في اليوم . ومن المتوقع أن تستمر الطبقة الوسطى في النمو، وستصل إلى 1.1 مليار نسمة (42% من السكان) بحلول عام 2060. وأسهم نمط الحياة الأكثر ثراء والمرتبط بالطبقة الوسطى في زيادة الاستهلاك المحلي في العديد من الدول الإفريقية. وهناك عامل آخر يدفع النخب السياسية والإقتصادية المغربية لتنويع العلاقات الإقتصادية للبلاد، من خلال تقوية العلاقات مع الدول السريعة النمو، وهو عدم الثقة طيلة مدة الأزمة الإقتصادية في أروبا، وتداعياتها المحتملة على المغرب، وغيره من الشركاء التجاريين التقليديين في شمال إفريقيا وأروبا . إن الأثر السلبي للأزمة الإقتصادية التي عرفها الإتحاد الأروبي، شملت الإقتصاد المغربي باعتباره شريكا له، وتمثل ذلك في انخفاض الإستثمار الأجنبي، وعودة المهاجرين المغاربة ، وتقلص مستوى بعض الصادرات. إن الطموحات الإقتصادية الخارجية المغربية، هي أيضا استجابة ملحة لرغبة القادة الأفارقة في المساعدة الخارجية والاستثمار الأجنبي، من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية المطلوبة لتلبية التوقعات المتزايدة لشعوبهم. وتحرص حكومات دول غرب إفريقيا على تحديث اقتصاداتها من خلال تعزيز قدرتها التنافسية، وتنوعها الاقتصادي من أجل جعلها أكثر قدرة على مقاومة تقلبات أسعار السلع الأساسية. وترى النخب السياسية والتجارية المغربية في هذا التوسع من الاستثمارات العامة في غرب إفريقيا، وفي صعود الطبقة الوسطى، مجموعة متنوعة من الفرص التجارية، مما شجعها على إنشاء محطات للإنتاج وقنوات لتوزيع السلع الاستهلاكية، فضلا عن الانخراط في بناء مشاريع البنية التحتية ، وهو ما يتضح من خلال المشاريع الاستثمارية التي أعلنتها الجهات العمومية والخاصة على مدى السنوات الخمس الماضية. ومن الأمثلة الدالة على ذلك، استثمارات شركة "الضحى" كفاعل عقاري مغربي في بناء مساكن منخفضة التكلفة بكل من "مالي"، و"الكونغو برازافيل"، و"الكاميرون"، فضلا عن إنشاء مصانع للإسمنت في "الكاميرون"، و "كوت ديفوار"، و"غينيا كوناكري"، و"الغابون"، و" بوركينافاصو"، و"الكونغو برازافيل". إن ما يميز السياسة الخارجية المغربية الحالية تجاه إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، بالمقارنة مع سابقاتها، هو أنها متماسكة ومركبة، مع توفرها على دعم قوي من القصر الملكي المغربي. فملف التقارب مع الدول الإفريقية يعالج على مستوى القصر، وهو بيد الملك والوفد المرافق له (المحيط الملكي)، وتضطلع وزارة الخارجية والوزارات الأخرى بدور ثانوي في تطوير هذه العلاقة الناشئة، فدورهم يقتصر على تنفيذ ما يكلفون به، وتنفيذ اتفاقيات التعاون المتفق عليها سلفا. وتتميز الإستراتيجية المغرية في تعاملها مع إفريقيا بكونها استباقية، فقد قامت المؤسسات المغربية بدراسة ومتابعة وتحليل إمكانات السوق الإفريقية، وهذا يختلف تماما عما كان معمولا به على عهد الملك الراحل الحسن الثاني، إذ كان الأمر يقتصر على جلب الدعم الديبلوماسي الإفريقي لقضية الصحراء. و جدير ذكره، أن هذه الصيغة المعاملاتية مع إفريقيا لا تعني إهمال ذاك الدعم الديبلوماسي، بل تؤكده وترغب فيه وتحقق أهدافه، ولكن بموازاة وبشكل متكامل مع الجوانب الإجتماعية والإقتصادية والأمنية. واستندت صياغة استراتيجية المغرب الكبرى تجاه إفريقيا، إلى الخبرة الإستثمارية للمؤسسات المالية للبلد في إفريقيا الناطقة باللغة الفرنسية. وقد عززت البنوك الثلاث الرائدة في المغرب ("التجاري وفابنك" – "البنك المغربي للتجارة الخارجية"- "البنك الشعبي المركزي")، وجودها المصرفي في العديد من البلدان الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى منذ 2005. ويحتل المقرضون المغاربة حاليا، مناصب قيادية ضمن المشاريع المصرفية الإفريقية التي تشمل الأصول وتغطية الشبكة الإقليمية والجهوية ؛ ف"التجاري وفا بنك" لديه 414 فرعا في 11 بلدا في غرب، ووسط إفريقيا .وبعد استحواذ "البنك الشعبي المركزي" على "بنك أطلنتيك الإيفواري" سنة 2012، من خلال الإستحواذ على حصصه السابقة بكل من "البنك الشعبي المغرب – إفريقيا الوسطى"، و"البنك الشعبي المغرب– غينيا"، فإنه سجل حضوره ب 7 دول من الإتحاد النقدي (المالي) والاقتصادي لغرب إفريقيا. وأما "البنك المغربي للتجارة الخارجية"، فإن حصته في "بنك إفريقيا" تصل إلى 72.6% مع تغطية جغرافية واسعة. وبحلول سنة 2014، أصبح هذا البنك (BMCE) موجودا ب 16 بلدا، ويبلغ مجموع فروعه 461 فرعا؛ كما أنه البنك المغربي الوحيد الذي يتواجد بإفريقيا الناطقة بالفرنسية، وكذا بإفريقيا الناطقة بالإنجليزية، مع وجود خطة للتوسع بهذه الأخيرة ، في وسط وشرق إفريقيا. وقد ألهمت التجربة التوسعية الملحوظة للأبناك المغربية بدول غرب ووسط إفريقيا، الشركات المغربية للبحث عن فرص للإستثمار في مجموعة من القطاعات. وقد أسهمت المعلومات والاتصالات التي قامت بها هذه المؤسسات في هذه البلدان الإفريقية من صياغة سياسة خارجية مغربية جديدة تجاه إفريقيا جنوب الصحراء. إن هيمنة العناصر الاقتصادية في مشاركة المغرب المستمرة مع البلدان إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وطبيعة اتفاقيات الاستثمار والشراكة الاقتصادية التي تم توقيعها حتى الآن، هي مؤشر على مساهمة الاستثمارات المصرفية في المغرب في وقت مبكر. وعموما فقد استفاد المسؤولون عن صياغة السياسة والإستراتيجية المغربية تجاه إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، من رؤى مفصلة عن فرص الأعمال التجارية في هذه البلدان الإفريقية.والسؤال الذي يطرح بحدة الآن: ماهو الجديد /المختلف ؟ يتوفر المغرب على خبرة هائلة في مجموعة متنوعة من الميادين والمجالات اللازمة لتنمية البلدان الإفريقية؛ فالمغرب خلال 15 سنة من حكم الملك محمد السادس، حظيت مؤسساته،سواء بالقطاع الخاص أوالعام،بخبرة كبيرة ومهارات متميزة. وتركزت الشركات المغربية في قطاعات متنوعة من الخدمات المصرفية والزراعية والعقارية والصيدلانية، مما سمح لها بالتوسع على الصعيد الدولي. وجعلت بعض المؤسسات المغربية الرائدة مثل "الضحى"، و"كوبر فارما المغرب"، و"المكتب الوطني للكهرباء" من وصولها إلى أسواق إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، جزءا هاما من إستراتيجيتها الدولية. ووقعت العديد من هذه الشركات عقود لبناء وحدات للتصنيع في الخارج خلال السنوات الثلاث الماضية. ويمثل توسع المكتب الشريف للفوسفاط في إفريقيا- والذي هو في ملكية الدولة- نموذجا للإستراتيجية الإقتصادية الجديدة للمغرب تجاه إفريقيا. ومع تزايد عدد السكان وإمكانات الإنتاج الزراعي، أصبحت إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى على نحو متزايد، سوقا هاما لهذا المكتب، الذي هو منتج عالمي للأسمدة الفوسفاطية. وأنشأ المكتب الشريف للفوسفاط وحدة إنتاجية جديد بالجرف الأصفر( وهي منطقة صناعية،وميناء جنوب مدينة الدارالبيضاء)، تصدر كل إنتاجها لدول إفريقيا جنوب الصحراء. ووضع المكتب منتجات خصبة محددة ومناسبة لتربة دول غرب إفريقيا، مثل الأسمدة "التراكتيكية" "Teractive"،المخصصة للمحاصيل المحلية؛ كالقطن، والكاكاو، والذرة. وللإشارة، يعتبر "ساحل العاج" أكبر منتج للكاكاو، تليه "غانا"، بالإضافة إلى "نيجيريا" و"الكامرون"، إذ يبلغ نصيب هذه الدول مجتمعة 70 % من الإنتاج العالمي . وفي مارس 2014، وقعت شركة المكتب الشريف للفوسفاط، والشركة الإستوائية للمعادن الغابونية (وهي في ملكية الدولة)، اتفاقية شراكة لتطوير صناعة تصنيع الأسمدة، ستهم البلدين، وتخصص لتلبية طلب دول إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. والهدف المنطقي وراء انجاز هذا المشروع المشترك، هو استغلال أوجه التكامل بين مصادر الفوسفاط والغاز الطبيعي في كلا البلدين. وتنص اتفاقية الشراكة على بناء مصنع للأمونيا في "الغابون"، يستخدم المواد الأولية للغاز الطبيعي، ووحدة لإنتاج الأسمدة الفوسفاطية. وتعهد المغرب ببناء مرفقين للحامض الفوسفوري، ووحدة لإنتاج الأسمدة الفوسفاطية في المغرب. إن شراكة المكتب الشريف للفوسفاط مع الغابون، تدفعها الرغبة في الاستفادة من أسواق جديدة في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، والحاجة إلى الحصول على مواد الغاز الطبيعي التي تشكل مدخل هاما لإنتاج الأسمدة. ويرمز هذا المشروع إلى نوع الشركات التي تقيمها المؤسسات المغربية الخاصة والعامة، الراغبة في السعي لتحقيق الثروة، وتحقيق التنمية الإقتصادية في جميع أنحاء القارة. *أستاذ باحث في التاريخ المعاصر-عضو مركز "رقي" للأبحاث والدراسات