مقدمة الأغنية: "حتى لقيت اللي تبغيني عاد جايا تسول فيا .. يا ملي كنت أنا وحدي فين كنت وْنتيا" استطاعت هذه الأغنية الشعبية البسيطة أن تكتسح المجال الإعلامي والفني داخل المغرب وخارجه في زمن قياسي؛ رغم بساطة تكاليفها، ورغم أن صاحبها، يونس البولماني، شخصية مغمورة في الوسط الفني، بل إن كثيرا من المتتبعين حاولوا أن يمسكوا بأسرارها الخفية، التي جعلتها تتملك الغالبية العظمى دون إحساس بالملل، فتعددت التحليلات والتأويلات الانطباعية. من هنا، ارتأينا أن نقوم بدراسة بنيوية لمقدمتها، التي هي لازمتها المتكررة والعمود الفقري لبنائها العام، علنا نعثر على ما لم يعثر عليه غيرنا من أسرارها المكنونة. لقد بنيت هذه اللازمة على ثنائية التقابل على المستوى الدلالي، فهناك زمن الحاضر (حتى لقيت) في مقابل زمن الماضي (يا ملي كنت) المرتبط بالذات الشاعرة المعبرة عن تغير أحوالها من المعاناة (أنا وحدي) إلى الفرح والسعادة (لقيت اللي تبغيني)، كل ذلك تقابله ثنائية تغير أحوال الآخر المخاطب المؤنث (المحبوبة)، فقد صارت هذه الأخيرة مهتمة بأمر الشاعر في الحاضر، بعدما كانت غير مبالية به في الماضي. والأكثر من ذلك أن هذا المضمون يحمل في طياته أنفة وعزة نفس وكبرياء. وهي من العملات التي صارت نادرة في زمننا هذا، ولعل المتلقي كلما أنصت إليها استشعر نوعا من الراحة النفسية والإحساس بعودة كرامته، التي قد يكون فقدها في قصة عشق سابقة، بل قد تعطيه نشوة بانتصار وهمي، وكأن البولماني أضحى مدافعا عن كبرياء كل المضطهدين عشقا، ففي نظره "كلشي مَّحْنْ". من جهة أخرى، هيمنت الجمل الفعلية الدالة على التغير والتحول في الزمان وفي الأوضاع والأحوال النفسية المرتبطة بالعشق، والمتأرجحة بين ثنائية الوصال والحرمان (جايا تسول فيا ≠ فين كنت وْنتيا)، وكان توقيت الأفعال المرتبطة بالمحبوبة توقيتا سيئا، ففي الوقت الذي كان الشاعر في أمس الحاجة إليها؛ لم تعره أي اهتمام (يا ملي كنت أنا وحدي فين كنت وْنتيا)، غير أنها ستتدارك الأمر في زمن آخر هو زمن الحاضر، ولكن بعدما تحسنت أحوال الشاعر عاطفيا، ولم يعد في حاجة إلى اهتمامها (حتى لقيت اللي تبغيني). وما دامت هذه الكلمات تؤثث أغنية بإيقاعات موسيقية، فإن الجانب الصوتي ساهم في الرفع من جمالية النغم، من خلال المحسنات البديعية، التي نمقت الإيقاع الداخلي بفضل ظاهرة التكرار، إذ نرصد حضور السجع، فاللازمة تتكون من شطرين، وكل شطر عبارة عن فاصلة تنتهي بالخاتمة نفسها صوتا وحرفا (فِيَّا= نْتِيَّا)، إلى جانب الجناس الاشتقاقي (كُنْتْ "أنا" / كُنْتِ "أنت")، وهناك المقابلة بين معنيين متعارضين (يا ملي كنت أنا وحدي ≠ فين كنت وْ نتيا)، فالمعنى الأول ارتبط بذات الشاعر، في حين ارتبط المعنى الثاني بذات المحبوبة، وهما معنيان يدلان على التنافر والتباعد. وإجمالا، فإن شطري هذه اللازمة يحكمهما التوازي الصوتي إلى جانب تواز تركيبي، إذ يبدأ كل منهما بجملة فعلية تتحدث عن أحوال الشاعر؛ لتردف بجملة فعلية أخرى مرتبطة بأحوال المحبوبة. من جهة أخرى، إذا كان الأسلوب الخبري السردي قد هيمن على غالبية المضمون (أفعال لقيت/ تبغيني/ جايا/ تسول/ كنت...)؛ فإن الشاعر وبكيفية جميلة تشد انتباه المتلقي؛ ختم اللازمة بإنشاء طلبي خرج عن مقتضى الظاهر؛ ليفيد دلالة استلزامية، أفرزها سياق الحدث، وعبر عنها ذلك الاستفهام الإنكاري التعجبي الممزوج بنكهة من السخرية وإحساس بنشوة النصر في "حرب غرامية" (فين كنت وْنتيا؟)، وهي النشوة التي تغنيها تلك القافية المطلقة التي جاء رويها مشبعا بمد الألف (يَّا)، وفي هذا المد المشبع دلالات على الإحساس بالتحرر والانتشاء. هكذا يتضح لنا أن البناء اللغوي العام لهذه الأغنية كان أحد أسرارها الجوهرية، التي ساهمت في تجاوب المتلقي معها بكل هذا التماهي، دون أن ننسى أهمية الجانب المرتبط بالأنغام، والذي لن نتطفل عليه، وسنترك لأهل الاختصاص الموسيقي أمر دراسته؛ لعل ذلك يغني ما توصلنا إليه في جانب البناء اللغوي. *أستاذ ماستر دراسات في الثقافة الشعبية