على هامش الدورة الرّابعة للمنتدىَ البرلماني المغربي الإسباني بمدريد عرفت العلاقات المغربية- الإسبانية، على امتداد تاريخهما الطويل الحافل، مدّا وجزرا، وطبخا ونفخا، وفتقا ورتقا. فكما شهدت هذه العلاقات العديد من الحروب، والمواجهات، والمشادّات، والمشاكسات، والمنابذات، والمناكفات، والتحدّيات، والإخفاقات، فقد عرفت كذلك تقارباً، وتفاهماً، وتلاحماً وتآزراً، وتعاوناً مثمراً في مختلف المجالات . لقد أصبح التعاون والتفاهم والتعايش والتداني بين البلدين الجارين المغرب وإسبانيا اليوم أمرا محتوما لا مندوحة لنا عنه، كما أصبح التغلّب على المشاكل، وتسوية الخلافات، وتجاوز الأزمات، وتذليل العراقيل والصّعاب أمرا لا مناص منه كذلك. إنّ المغرب واسبانيا بحكم الموقع الذي فرضته عليهما الجغرافيا، والمصير الذي هيّأه لهما التاريخ، والماضي الذي تقاسماه، وأقاما دعائمه ورونقه معا، والثقافة المشتركة التي نسجا خيوطها سويّا، وانصهرا في بوتقة حضارة واحدة متألقة، كلّ ذلك يجعل منهما – كما قيل ويقال دائما في هذا الصدد- بلدين محكوم عليهما بالتفاهم والتقارب، وهما مدعوّان- أكثر من أيّ وقت مضى - لزيادة تمتين عرى الصّداقة، وتوثيق أواصر المودّة، في هذه المرحلة الجديدة من علاقاتهما الثنائية نظرا لتشعّب وتعدد القضايا العالقة بين البلدين في مختلف المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والأمنية وسواها من القضايا الثنائية الشائكة التي تكتسي طابع الصراع أو النزاع مثل مسألة سبتة ومليلية، والجزر والجيوب المحاذية للأراضي والسواحل المغربية التي لمّا تزل واقعة تحت الهيمنة أو السيطرة الإسبانيةّ في زمن لم يعد فيه اليوم مكان لمثل هذه المفاهيم الاستعمارية البالية والبائدة. والحالة هذه ينبغي للبلدين النظر إلى ماضيهما القريب، والبعيد بنظرة واقعية براغماتية، بل يجب عليهما طيّ صفحة المواجهات، ونبذ العقد والأحقاد، وإقصاء الضغائن والمنابذات، ومحو الرّواسب السلبية التي ما زالت عالقة على جدران ذاكرتيهما الجماعية، وتاريخهما المشترك، واستخراج، ونشر، وتأصيل العناصر الصّالحة والإيجابية لموروثهما الحضاري والتاريخي، والثقافي، واللغوي، وبداية عهد جديد تذوب فيه ومعه الخلافات، وتقلّص معه المسافات، في عصر أصبحت تنشأ فيه التكتّلات والتجمّعات الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والإنسانية بين الدّول، وتتبلور بشكل لم يسبق له مثيل وذلك بهدف خلق مفهوم "عولمي" جديد في مختلف ميادين الحياة ومرافقها المعاصرة. البلدان الجاران يدركان هذا جيّدا، كما أنّ هذا الاقتناع، وهذه البداهة لا يغيبان ولا ريب عن كبار المسؤولين في البلدين وعن مختلف المحللين، والسياسيّين، والكتّاب، والمتتبّعين لمسار العلاقات بين الطرفين وتطوّرها، وتذبذبها بين أخذ وردّ ، ومدّ وجزر، وصعود وركود. التطوّر الهائل الذي أصبح يعرفه المغرب في الوقت الرّاهن في مختلف المجالات من محاولة استكمال بناء مؤسّساته الديموقراطية، والتّوق نحو إجراء اصلاحات جذرية في مختلف الميادين السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعلمية وفي مجال حقوق الإنسان وصون كرامته (مع التعثّرات وبعض العراقيل التي ما فتئت تشهدها الساحة السياسية المغربية بشكل يبعث على القلق في هذه المجالات جميعها)، كلّ ذلك كفيل- في حالة تحقيقه لهذه المرامي والغايات- بأن يجعله يصبو للسّير قدماً بخطىً حثيثة ليتبوّأ مكانه بين مصافّ الامم كبلد عصري حديث، مع تشبّثه بقيمه، ومبادئه، وثوابته الأصيلة، وماضيه العتيد. زمن الزّهو الاستعماري قد ولىَّ إنّ وضع التجافي والتباعد، الذي طبع العلاقات المغربية الإسبانية منذ عقود خلت، يرجع في الأساس الي موروثات تاريخية، وعوامل عدّة لا تخفى على أحد في الضفتين المتجاورتين المطلتين الواحدة على الأخرى ، لقد آن لجيراننا أن يعرفوا ويتيقنوا أنّ زمن المقولة الشهيرة والمأثورة " السّاحل خالٍ من المغاربة" (No hay moros en la costa ) كنايةً على مثل دارج عندهم كثيراً ما تلوكه ألسنة الإسبان يفيد بعدم وجود الخطر على سواحلهم قد ولّىّ، ومضى بدون رجعة، فالعقليات قد تبدّلت، والأجيال الحاضرة قد ارتقت سلاليم الوعي والانفتاح والتعايش، وقبول الآخر، واستيعاب التنوّع الثقافي والهويّاتي، وتقبّل التعدّد العرقي أصبح أمرا واقعا في مختلف أصقاع وبقاع المعمور. ينبغي علي جيراننا التحلّي بروح العصر، والنظر الى الأمور بواقعية وتبصّر وحكمة، فزمن الزّهو الاستعماري قد مضى لحاله وانصرم بلا رجعة، ينبغي عليهم قبول النزاعات ومعالجتها بجرأة، وموضوعية، هذه النزاعات التي فرضت على البلدين قهرا وقسرا في زمن لم تكن مفاهيم السيادة والحرية والانعتاق قد تبلورت، والنظرة الشوفينية الضيّقة لم تعد تجرّ على البلدين سوى التعنّت والعناد، وجيراننا الإسبان مشهورون بالعناد، ولهم فيه اليد الطولى، والباع الممدود، وهو ما يطلق عليه سكّان الرّيف (الذين يعرفون الإسبان جيّداً، ولهم معهم معايشات، وصَوْلات وجولات.. ! ) ب: "تاغنّانت" فحتّى "هِتلر" شهد لهم بذلك، فقد أبى وامتنع ذات مرّة في أن يلتقي من جديد بالجنرال فرانكو بعد لقائه الأوّل به خلال الحرب الكونية الثانية، حيث قال عنه قولته الشهيرة في هذا القبيل: "أفضّل أن يُنزع لي ضِرس بدون بنج على أن ألتقي ثانية بهذا الرجل.. !." هذا العناد ربّما هو الذي جعلهم يتماطلون، ويتمنّعون حتى الآن في تقديم اعتذار علني من إسبانيا عن استعمالها للأسلحة الكيمياوية الفتّاكة ظلما وعدوانا في حرب الرّيف التحرّرية الماجدة حتى اليوم . إنّ وضعية العلاقات المغربية الاسبانية في الوقت الرّاهن، تدعونا وتحذونا إلى معاودة إلقاء نظرة تأملية متأنية، وإعمال النظر في بعض القضايا المهمة في المرحلة الحسّاسة من تاريخ هذه العلاقات، وما واكبها من أحداث وطنية ودولية وجهوية لا بدّ أن يكون لها ولا شك تأثير على رسم مسارها، وتحديد معالمها حتّى تصل إلى ما هي عليه الآن. طموح وتطلّع البلدين في تطوير هذه العلاقات والرقيّ بها إلى أعلى وأرقى المستويات لا يتوقّف باعتبارهما بلدين جارين متعانقين جغرافيا، آخى بينهما التاريخ، وانصهرا في بوتقة إشعاع حضاريّ وثقافيّ فريد في بابه في تاريخ الشعوب، يرسم مصيرهما التعاون الوثيق الذي لا محيد لهما عنه، ومن ثمّ تلك القولة المشهورة والمأثورة التي طالما ردّدتها الألسن في البلدين في مختلف المناسبات: إنّ المغرب وإسبانيا بلدان محكوم عليهما بالتفاهم.. !. إنّ عامّة الناس، وصفوة المثقفين في كلا جانبي المضيق لا يلبثان من تكرار هذا التعبير المتداول، فعلى الرّغم من أنّ هذه الصّيغة مضبوطة وصادقة إلاّ انّها مع ذلك لا ينبغي أن تشطّ بنا بعيدا، فالصداقة بين البلدين لا يمكنها أن تترعرع في ظلّ أو شكل حكم مفروض بواسطة قدرية جغرافية وحسب، بل لا بدّ لنا أن نخطو خطوات أخرى إلى الأمام بعزم وإرادة. إنّ كلا من القطاعات الاقتصادية والسياحية، والمبادلات التجارية، ومخططات التعاون والمشاريع الصناعية المشتركة إلخ، لا بد أن يواكبها تفاهم وتناغم سياسي براغماتي خصب، وأن يطبعها تبادل ثقافي متنوّع ومكثف يزيد بلداننا تعارفا، وتقاربا أكثر من ذي قبل ، لابد من نسج، وتعميق وتوثيق المزيد من أواصر المودّة بيننا، ومن توفير الاحترام المتبادل بين الجانبين. التعدّد الثقافي بين البلدين الحديث عن التعدّد الثقافي والتوّع الحضاري في المغرب وإسبانيا يحلو ويطول، والتاريخ لا يُقرأ في هنيهة، إنّ الزّائر الذي يأتي لبلادنا أو الذي يزور إسبانيا يلمس التاريخ والعمران المتشابه حيّا نابضا قائما في كل مظهر من مظاهر الحياة، دراسة هذا التاريخ، والتعمّق فيه واستخراج العناصر الصالحة منه أمر لا مندوحة لنا عنه، وهو أمر ينبغي أن يولى أهميّة قصوى، وعناية فائقة، وتتبّعا متواصلا من طرف الدولتين والمثقفين، والكتّاب، والمفكرين، والخواصّ، ومن لدن مختلف الجهات العلمية والتاريخية والمرافق التربوية والتعليمية التي تعنى بهذه المواضيع للتعريف بهذه الذخائر، في البلدين، ونشر الوعي وتأصيله بشأنها لدى أبناء جلدتهما ليكون المستقبل الذي يتوقان إليه مستقبل رقيّ وأوج، وإشراق، وتلاق وتلاقح بين ماض عريق، وحاضر واعد، ولعمري إنّ لفي ذلك تجسيدا وتجسيما للعهود الزاهرة التي عاشها أجدادنا في شبه الجزيرة الإيبيرية والمغرب على حدّ سواء على امتداد العصور الحافلة بالعطاء الثرّ، والتعايش والتسامح، والإشعاع الثقافي والعلمي الباهر الذي شكّل ولا يزال جسرا حضاريا متواصلا بين الشرق والغرب، وبين مختلف الأجناس، والإثنيات، والمِلل، والنِحل، والديانات في هاذين الصّقعين الجميلين وهما المغرب وإسبانيا. هذا ومن العلامات المضيئة لهذا الانفتاح والتنوّع الحضاري، والتبادل الثقافي والتثاقفي العديد من العلماء، والمفكرين، والفلاسفة، والفقهاء، والشعراء والفنانين والموسيقيّين الذين عاشوا في الأندلس ثم انتقلوا إلى المغرب والعكس صحيح، والأمثلة كثيرة، وافرة، ومتعدّدة، والأسماء لا حصر لها في هذا القبيل، وحسبنا أن نشير في هذا المقام إلى اسميْن بارزيْن في التاريخ المشترك للمغرب والأندلس، وهما: الفيلسوف الجهبذ، الفقيه العلاّمة ابن طفيل صاحب "حيّ ابن يقظان"، وتلميذه قاضي إشبيلية، وعالمها، وطبيبها، وفيلسوفها الذائع الصّيت أبو الوليد محمّد بن رشد اللذان استقبلتهما حاضرة مراكش بحفاوة منقطعة النظير، وبوّأتهما أعلى الأرائك، وأرقى المراتب، وملكتهما من أعنتها وقيادتها فاستطاب لهما العيش فيها واسترغداه، وأصبحا صاحب الأمر في البلاد، ولقد وافتهما المنية في مراكش . المثّقفون المغاربة والإسبان وإحياء لهذا الماضي المشترك المشرق، واسترجاعا للإشعاع الحضاري والثقافي والإبداعي الذي تقاسمه البلدان على امتداد العصور والدهور اضطلعت ثلّة من المثقفين المغاربة والإسبان في العقود الأخيرة بدور طلائعي في تطوير وتفعيل وتقوية العلاقات الإسبانية المغربية، فمنذ أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم نشرت مجموعة من المثقفين، والكتّاب، والأدباء، والمفكّرين المغاربة والإسبان- بمبادرة خاصّة منهم- بيانا صحافيا جريئا في إحدى الصّحف الإسبانية الكبرى الواسعة الانتشار، وفى بعض وسائل الإعلام الأخرى حيث طالبوا بضرورة تحريك وتفعيل العلاقات الإسبانية المغربية على مختلف المستويات، وقد وقّع على هذا البيان 40 مثقفا من المغرب، و46 مثقفا من إسبانيا. من الموقّعين المغاربة: المهدي بنونة، محّمّد شقور، محمّد شبعة، لسان الدين داود، عبد الكريم غلاب، محمد بن عيسى، مصطفى اليزناسني، محمّد العربي الخطّابي، محمّد محمّد الخطّابي (كاتب هذه السطور)، عبد الكبير الخطيبي، عبد الله العروي، محمّد اليازغي، محمّد المليحي، محمّد العربي المساري، سيمون ليفي، محمّد الصبّاغ، علي يعته.. إلخ. ونذكر من الإسبان: خوان غويتيسولو، فرناندو أرّابل، بيدرو مونطافيث، خورخي سينبرون، فاثكيث مونطالبان، فيكتور موراليس، وآخرون. وقد طالب هذا البيان بضرورة إعطاء نفس جديد للعلاقات الثنائية بين البلدين، وإذكاء روح التعاون والتفاهم والحوار بينهما في مختلف المجالات السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، والإنسانية.. إلخ. وقد أفضت هذه البادرة المبكّرة في ذلك الإبّان إلى تأسيس "جمعية المثقفين الإسبان والمغاربة" التي نظمت في البلدين ندوات وطاولات مستديرة دورية مهمة حول مختلف اوجه التعاون الثقافي، والأدبي، والعلمي، والتاريخي وسواه بين البلدين. كما أسّست بعد ذلك "لجنة ابن رشد" التي تضمّ هي الأخرى نخبة من كبار المثقفين والأدباء والمفكرين، والشخصيات السياسية والإعلامية في كلّ من إسبانيا والمغرب، والتي عقدت غير قليل من الاجتماعات والندوات في البلدين لتسليط الاضواء على العديد من المواضيع والقضايا الحيوية التي تحظى باهتمام الطرفين سواء فيما يخصّ تاريخهما الحافل، وحاضرهما الواعد، ومستقبلهما المشترك. هذا فضلا عن تأسيس العديد من الجمعيات الإسبانية المغربية سواء في المغرب أو إسبانيا ذات الصّبغة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والفنية التي اصبح عددها يتنامى يوما بعد يوم، والتي تعمل هي الأخرى على تقريب الهوّة بين البلدين، والتعريف بطاقاتهما الخلاقة لتأكيد مزيد من التفاهم والتعايش بينهما في مختلف الميادين، وفى مقدّمة هذه الجمعيات النشيطة "جمعية الصّحافيين، المغاربة الناطقين باللغة الإسبانية" التي تضمّ نخبة مهمة من مثقفينا اللامعين الذين لهم باع طويل، ودراية واسعة بلغة سيرفانطيس وآدابها وثقافتها، إلاّ أنّ هذه الجمعية وسواها تصطدم دائما بعثرة قلّة ذات اليد، وندرة الإمكانيات المادية وضآلتها إن لم نقل انعدامها. وفى الاتجاه نفسه ودعما وترسيخا لهذه الجهود كان قٌد أعلن في المغرب منذ بضع سنوات كذلك عن تأسيس "منتدى الحوار المغربي الإسباني" بمبادرة من جماعة من المثقفين ورجال الأعمال والسياسة المغاربة، وكانت هذه البادرة قد جاءت لتؤكّد في بلاغها: "تعبيرا عن اقتناعها الرّاسخ بأهمية العلاقات بين بلدين جارين، وضرورة تطويرها وتنويعها، يربطهما التاريخ والجغرافية، بما يساهم في إعداد هذه العلاقات لولوج عهد جديد، موسوم بطابع التعاون الشامل في مختلف المجالات، وذلك بإقامة وإرساء قواعد ثابتة ودائمة للحوار والتفاهم والتعايش بين الطرفين، ولكن ووأسفاه.. بعض هذه الجمعيات اندثرت، وامّحت، وتلاشت، وشلّت، وذهبت أدراج الريّاح.. ! الصّراع ضدّ الجّهل والد العاهل الإسباني فليبي السادس خوان كارلوس الأوّل خلال إحدى زياراته للمغرب السابقة كان قد قال: "إنه من الضروري أن نتعارف أكثر فيما بيننا، فما أفدح الجهل المتفشّي فينا، ينبغي أن نمحي من رؤانا المشتركة جميع الصّور المشوّهة، والأفكار المسبقة الخاطئة، كما ينبغي أن نقصي عنّا جميع الرواسب، وأن نقضي على بعض التأويلات التي تحول دون تعرفنا ونطردها من أذهاننا، أظن أنّ إسبانيا والمغرب ليسا ورثة القليل، ولقد طبعت فكرهما معرفة عامة كجارين عاشا على امتداد التاريخ واحدا بجانب الآخر، ولقد فرّقهما الجهل أحيانا بشكل يجاوز كل حدّ". ولا شكّ في أنّ نجله العاهل الإسباني الحالي فليبي السادس مقتنع بهذه الأفكار، ومتشبّع بمدى أهميتها وجدواها في الظروف الرّاهنة التي تجتازها البلدان. وكان الكاتب الإسباني الراحل خوان غويتيسولو يشير إلى: "أنّ المهمّة الملقاة على عاتقنا لهي مهمة واسعة ومتشعبة، إذ ينبغي على إسبانيا أن تعمل على إعادة نشر لغتها وثقافتها في مجموع منطقة شمال إفريقيا، ففي الوقت الذي تفتح فيه للثقافة واللغة الفرنسية في البوتقة المغربية مجالات واسعة، فإنه ينبغي على إسبانيا أن تسير في نفس التيار، وتعمل على نشر كتبها هناك، وإيفاد الأساتذة والمحاضرين، وإقامة جولات مسرحية، وتنظيم عروض سينمائية، وعلى المغرب من جانب آخر أن يقوّي حضوره الثقافي بإسبانيا، وتبيان الصورة الحقيقية للثقافة المغربية الغنية للرّأي العام الإسباني بنشر أعمال كتّابه وفنّانيه وفولكلوره الثريّ، كما أنه على الأوساط الثقافية الإسبانية أن تجري حوارا مستمرا ودائما مع النخبة المثقفة المغربية ودعم كفاحها من أجل مغرب قويّ وعادل وديمقراطي". حضور دبلوماسي متواصل إنّه لمن الواضح أنّ الإرث التاريخي والثقافي والحضاري المشترك لكلّ من المغرب وإسبانيا يعتبر أرضية صلبة، وحقلا خصبا جعلا هذين البلدين ينفردان بخصوصيّات قلّما نجدها لدى سواهما من البلدان الأخرى؛ وهو ما أفضي إلى خلق نوع من الاستمرارية الدائمة والمتواصلة في علاقات البلدين منذ الوجود الإسلامي بشبه الجزيرة الإيبيرية، وبإسبانيا على وجه الخصوص، ونزوح الموريسكييّن عنها، ثم منذ القرن السابع عشر عندما بدأ التبادل الدبلوماسي الفعلي بين البلدين بشكل انفرد به المغرب، وكان له قصب السّبق بالنسبة لباقي البلدان العربية والاسلامية، بل وبالنسبة حتى لكثير من بلدان العالم الأخرى حيث كانت البعثات الدبلوماسية، والرّحلات المغربية هي البعثات الوحيدة التي زارت، واستقرّت بإسبانيا منذ وقت مبكّر بدءا أو انطلاقا من بعثة ابن عبد الوهّاب الغسّاني سفير السلطان المولى إسماعيل خلال حكم العاهل الاسباني كارلوس الثاني (1691-1690)، ومرورا بالزياني (1758)، وأحمد المهدي الغزال (1766)، وابن عثمان المكناسي (1779)، والكردودي (1885) إلخ. هذه الاتصالات المبكّرة والمتواصلة الحلقات بين المغرب وإسبانيا خلقت نوعا من الاستمرارية زادها العنصر الجغرافي القائم متانة وقوّة وتواصلا، هذا فضلا عن العنصر الحضاري والثقافي الذي يعدّ عنصرا فريدا في بابه كذلك في تاريخ الأمم.. كلّ هذه العوامل والخاصّيات ميّزت علاقات البلدين على امتداد الحقب والعهود باعتبارهما جارين متقاربين، ولعمري أنّ هذا التقارب والتواصل والحوار الدائم القائم الذي لم ينقطع، ولم يفتر قطّ عبر القرون، لهو خير رصيد وضمان لبناء مستقبل واعد حافل بالآمال والتطلعات والعطاءات . إنّ القولة المأثورة: "إنّ المغرب يضاهي دوحة عظيمة، جذورها ضاربة في عمق التراب الإفريقي، وتتنفّس أغصانها وأوراقها اليانعة في الربوع الأوربية "ستظلّ حقيقة ماثلة لا مراء فيها، فالصّداقة المتينة القائمة بين البلدين، والتعاون المثمر الذي يجمع بينهما يعكسان مقدار الرّغبة الصّادقة التي تحدوهما لزيادة بلورة طموحهما، وتوسيع وتعميق هذا التعاون في شتى المجالات والقطاعات السياسية، والتجارية، الاقتصادية، والسياحية، ومخططات التعاون، والمشاريع الاستثمارية الصناعية الكبرى المشتركة إلخ. كلّ ذلك يواكبه تبادل ثقافي خصب، وتعاون علمي مكثف يزيد بلداننا تعارفا وتقاربا، وإشعاعا، وتألّقا، ويعمل على زيادة تمتين أواصر الصداقة والمودّة، وتوفير الاحترام المتبادل بينهما. لقد حوّل كلّ من إسبانيا والمغرب على امتداد التاريخ منطقة حوض المتوسّط إلى فضاء ثقافي خصب، كان له تأثير بليغ على أوربا، وشمال إفريقيا، ومختلف البلدان المجاورة، كما جعلت "الأندلس" في عزّ أوجها منهما بلدين متقاربين ومتشابهين في العديد من المظاهر الحضارية، والثقافية، واللغوية، والأدبية وفى مختلف الأشكال الفنيّة، والتصاميم المعمارية، هذه التأثيرات كانت مشتركة ومتبادلة بين البلدين إلى حدّ بعيد، حتى أصبح المغرب بحقّ البلد الإفريقي المسلم الذي ينفرد بعلائق تاريخية وطيدة، وخصوصيّات ثقافية مميّزة مع جارته إسبانيا قد يعزّ نظيرها. المغرب وإسبانيا مصدر إلهام ومثلما كانت إسبانيا مصدر إلهام وإبداع للعديد من الكتّاب العالميين، فقد كان المغرب كذلك مصدر إلهام للعديد من كبار الكتّاب والمبدعين مختلف أنحاء العالم وبشكل خاص الإسبان منذ "لوبي دي فيغا" إلى خوان غويتيسولو، مرورا ب فرانسييسكو دي بييّا إسبيسا، وخوسّيه كادالسو، وبيريث غالدوس، وفيسينطي أليكساندري، وأطونيو غالا، وسواهم وهم كثير. فرائد المسرح الإسباني" لوبي دي فيغا" قد تعرّض للمغرب في مسرحيته "طائر الفينيق". وفرانسيسكو دي بيّيا إسبيسا عاش في مدينة العرائش من أشهر أعماله :"قصر اللؤلؤ"، و"بني أمية"، و"باحة الريّاحين". وفيما يتعلق بخوسّيه كادالسو فإنّ المستشرق الرّوسي "كراشوفسكي" يرى أنّ رحلة أحمد إبن المهدي الغزال سفير السلطان سيدي محمد بن عبد الله لدى العاهل الإسباني كارلوس الثالث هي التي أوحت له بكتابة رسائله الشهيرة "رسائل مغربية" التي نشرها 1789، والتي يمكن مقارنتها بالرسائل الفارسية لمونتيسكيّو. وأمّا بينيتو بيريث غالدوس فقد خلّد مدينة تطوان في روايته "عايطا تطّاوين" وربما منه جاء لقبها الحمامة البيضاء إذ يصفها بهذا الاسم في هذه الرّواية قبيل دخول الجنرال أودونيل إليها 1860. وفيسينطى ألكساندري (الحاصل على نوبل في الآداب) فقد عبّر عن إعجابه وانطباعاته عن المغرب في رسالته الشهيرة التي تحت عنوان: "الرسالة المغربية" وهي رسالة أدبية حميميّة طويلة موجّهة إلى الشاعرة الإسبانية ترينا مركادير، وقد سجّل فيها ذكرياته حول زيارته لمدينة تطوان، حيث يصف أسواقها، ودورها، وأزقّتها، ومحلاتها، وأناسها، وصنّاعها، التقليدييّن. وأنطونيو غالا معروف بصلاته الأدبية والإبداعية بالمغرب ومشاركاته في جامعة المعتمد ابن عبّاد الصيفية بأصيلة الذي كان أوّل عميد لها، وخوان غويتيسولو الكاتب الإسباني الغنيّ عن التعريف الذي أقام سنوات بعيدة بمدينة مراكش وكتب عنها العديد من الأعمال الرّوائية الشهيرة، ويكفيه فخرا أنّه أسهم بقسط وافر في إقناع منظمة اليونسكو العالمية بالاعتراف ب"ساحة جامع الفنا" بمرّاكش كتراث شفاهي إنساني عالمي غير مادي. في كتاب "قصص الحمراء" للكاتب الأمريكي المعروف واشنطن إرفينغ قصّة تحت عنوان "المنجّم العربي" بطلها هو الملك المغربي "ابن حبوس" الذي حكم مملكة غرناطة. ويؤكّد النقاد الثقات أنّ هذه القصّة نظرا لجاذبيتها وعنصر الإثارة فيها سرعان ما تسلّلت إلى التراث الرّوسي عن طريق بوشكين الذي نظمها شعرا في حكاية "الديك الذهبي". ونجد هذا التثاقف أو المثاقفة كذلك في أعمال العديد من الفنّانين والرسّامين الإسبان الكبار سواء هؤلاء الذين أقاموا في المغرب، أو هؤلاء الذين لم يزوروه قطّ، فقد وضعوا لوحات رائعة حول المغرب، بل إنّ بعض هؤلاء الفنانين الإسبان رسموا جميع السفراء المغاربة الذين تمّ إيفادهم إلى إسبانيا ضمن بعثات دبلوماسية في تواريخ متفاوتة من الزمن، والذين سبقت الإشارة إلى بعضهم آنفا. والمغرب هو البلد الوحيد الذي ظهرت فيه مجلّتان كانتا تصدران باللغتين الإسبانية والعربية، وهما مجلّتا "المعتمد"، و"كتامة" اللتان كان يديرهما أواسط الخمسينيات من القرن الفارط في تطوان كلّ من ترينا ميركادير وخاثنطو لوبث كورخي. ومنذ ما ينيف عن قرن من الزّمان كان المفكر الإسباني خواكين كوستا يتساءل متعجّبا: "أن لماذا يدير كلّ منّا (إسبانيا والمغرب) ظهره للآخر"، نفس المثقف كان يقول: "إنّ المغاربة كانوا أساتذتنا، ونحن مدينون لهم بالاحترام، كانوا إخواننا، وواجب علينا محبّتهم، وكانوا ضحايانا ونحن مدينون لهم بإصلاح هذا الشطط". ومن العلامات المميّزة التي تطبع تاريخ البلدين العديد من المآثر العمرانية الرائعة التي تنتشر في مختلف مدنهما، وحواضرهما الألفية، منها على سبيل المثال لا الحصر لاخيرالدا بإشبيلية، والكتبية بمراكش، وحسّان بالرباط. ولقد ظلت العلاقة بين هذه المنارات الثلاث متينة منذ أقدم العصور لا تغيّرها تقلبات الأزمنة، ولا تنال منها السّنون، تربطها روابط الأخوّة التي يشدّ حبلها التاريخ الطويل المشترك، ويوثق عراها الجوار الطبيعي في الإخاء، والمناخ، والطبائع، والعادات، والتقاليد والمحبّة المتأصّلة، والاحترام المتبادل، وهذه المنارات خير دليل على هذا التعايش والتناغم والتثافف والتكامل بين البلدين، إذ لا يمكن لمراكش أن تنسي تلك البعثة الفنيّة التي أوفدتها إشبيلية لتصميم صومعة الكتبيّين وبنائها، وعلى رأسها الحاج يعيش، والمهندس علي الغماري تلميذ المهندس المعماري الكبير أحمد بن باسّو الذي صمّم وبنى لاخيرالدا. ولقد تفتّقت في هاتين الصّومعتين عبقرية الفنّانين الإشبيلييّن والمراكشيّين، واللتين ما زالتا تستقطبان اهتمام السيّاح من كلّ صوب، وتحظى بإعجابهم، وانبهارهم إلى يومنا هذا. الحديث عن إسبانيا والمغرب والتعايش والتقارب والتثاقف العميق الحاصل بينهما يحلو ويطول، والتاريخ لا يقرأ في هنيهة، إنّ دراسة هذا التاريخ والتعمّق فيه، واستخراج العناصر الصالحة المشتركة بين بلدينا منه أمر لا مندوحة لنا عنه، جيراننا الإسبان تفطنوا لهذا، وهم يبذلون جهودا محمودة لمعرفته، والتعريف به في كلّ مناسبة لنشر هذا الوعي وتأصيله لدى أبنائهم ليكون المستقبل الذي نتوق إليه مستقبلَ تعاونٍ وتآزر، وتفاهم وتقارب، بين ماضٍ عريق، وحاضرٍ مشرق، ومستقبل واعد. * سفير سابق، عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- (كولومبيا)