على امتداد تاريخهما الطويل الحافل، عرفت العلاقات المغربية- الإسبانية مدّا وجزرا، وطبخا ونفخا، وفتقا ورتقا. فكما شهدت هذه العلاقات العديد من الحروب، والمواجهات، والمشادّات، والمشاكسات، والمنابذات، والمناكفات، والتحدّيات، والإخفاقات، عرفت كذلك تقاربا، وتفاهما، وتلاحما وتآزرا، وتعاونا مثمرا في مختلف المجالات. عهد جديد لقد أصبح التعاون والتفاهم والتعايش والتداني بين البلدين الجارين المغرب وإسبانيا أمرا محتوما لا مندوحة لنا عنه، كما أصبح التغلّب على المشاكل، وتسوية الخلافات، وتجاوز الأزمات، وتذليل العراقيل والصّعاب، أمرا لا مناص منه كذلك. إنّ المغرب وإسبانيا بحكم الموقع الذي فرضته عليهما الجغرافيا، والمصير الذي هيّأه لهما التاريخ، والماضي الذي تقاسماه، وأقاما دعائمه ورونقه معا، والثقافة المشتركة التي نسجا خيوطها سويّا، وانصهرا في بوتقة حضارة واحدة متألقة، كلّ ذلك يجعل منهما – كما قيل ويقال دائما في هذا الصدد- بلدين محكوما عليهما بالتفاهم والتقارب، وهما مدعوّان- أكثر من أيّ وقت مضىَ - لزيادة تمتين عرى الصّداقة، وتوثيق أواصر المودّة، في هذه المرحلة الجديدة من علاقاتهما الثنائية في عهد العاهل الشاب الإسباني فليبّي دي بوربون السادس، الذي لا بد أنه يعي جيّدا أهمية علاقات بلاده مع جاره الأبدي في الجنوب المغرب، ولا جَرَم كذلك أنه سيقتفي خطوات والده العاهل الإسباني الأسبق في إيلاء العلاقات المغربية الإسبانية المكانة المرموقة، والمنزلة المتميّزة التي هي قمينة بها، نظرا لتشعّب وتعدد القضايا العالقة بين البلدين في مختلف المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والأمنية وسواها من القضايا الثنائية الشائكة التي تكتسي طابع الصراع أو النزاع مثل مسألة سبتة ومليلية، والجزر والجيوب المحاذية للأراضي والسواحل المغربية، التي لمّا تزلْ واقعة تحت الهيمنة أو السيطرة الإسبانية في زمن لم يعد فيه مكان لمثل هذه المفاهيم الاستعمارية البالية والبائدة التي لم تعد تسمن ولا تغني من جوع. والحالة هذه ينبغي للبلدين النظر إلى ماضيهما القريب والبعيد بنظرة واقعية براغماتية، بل يجب عليهما طيّ صفحة المواجهات، ونبذ الأحقاد، وإقصاء الضغائن والمنابذات، ومحو الرواسب السلبية التي مازالت عالقة على جدران ذاكرتيهما الجماعية، وتاريخهما المشترك، واستخراج، ونشر وتأصيل العناصر الصّالحة والإيجابية لموروثهما الحضاري والتاريخي، والثقافي، والعلمي، واللغوي، وبداية عهد جديد تذوب فيه ومعه الخلافات، وتقلّص معه المسافات، في عصر أصبحت تنشأ التكتّلات والتجمّعات الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والإنسانية بين الدّول، وتتبلور بشكل لم يسبق له مثيل، وذلك بهدف خلق مفهوم "عولمي" جديد في مختلف ميادين الحياة ومرافقها المعاصرة. البلدان الجاران يدركان هذا جيّدا، كما أنّ هذا الاقتناع، وهذه البداهة، لا يغيبان ولا ريب عن كبار المسؤولين فيهما، وعن مختلف المحللين، والسياسيّين، والكتّاب، والمتتبّعين لمسار العلاقات بين الطرفين وتطوّرها، وتذبذبها بين أخذ وردّ، ومدّ وجزر، وصعود وركود. التطوّر والحراك الهائلان اللذان أصبح يعرفهما المغرب في الوقت الرّاهن في مختلف المجالات من محاولة استكمال بناء مؤسّساته الديمقراطية، والتّوق نحو إجراء إصلاحات جذرية في مختلف الميادين السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعلمية وفي مجال حقوق الإنسان وصون كرامته (مع التعثّرات وبعض العراقيل التي ما فتئت تشهدها الساحة السياسية المغربية بشكل يبعث على القلق في هذه المجالات جميعها)، كلّ ذلك كفيل- في حالة تحقيقه لهذه المرامي والغايات- بأن يجعله يصبو للسّير قدما بخطى حثيثة ليتبوّأ مكانه بين مصافّ الأمم كبلد عصري حديث، مع تشبّثه بقيمه، ومبادئه، وثوابته الأصيلة، وماضيه العتيد. زمن الزّهو الاستعماري إنّ وضع التجافي والتباعد الذي يطبع العلاقات المغربية الأسبانية منذ عقود خلت، بين الفينة والأخرى، يرجع في الأساس إلى موروثات تاريخية، وعوامل عدّة لا تخفى على أحد في الضفتين المتجاورتين المطلتين الواحدة على الأخرى. لقد آن لجيراننا أن يعرفوا ويتيقنوا أنّ زمن المقولة الشهيرة والمأثورة "السّاحل خالٍ من المغاربة" (No hay moros en la costa ) كناية على مثل دارج عندهم كثيرا ما تلوكه ألسنة الإسبان، يفيد بأن الخطر الداهم على سواحلهم قد ولّىَ، ومضىَ بدون رجعة، فالعقليات قد تبدّلت، والأجيال الحاضرة قد ارتقت سلالم الوعي والانفتاح والتعايش، وقبول الآخر، واستيعاب التنوّع الثقافي والهويّاتي، وتقبّل التعدّد العرقي والإْثنِي أصبح أمرا واقعا في مختلف أصقاع وبقاع المعمور لا مندوحة لنا عنه. ينبغي على جيراننا التحلّي بروح العصر، والنظر إلى الأمور بواقعية وتبصّر وحكمة، فزمن الزّهو الاستعماري قد مضى لحاله وانصرم بلا رجعة، ينبغي عليهم قبول النزاعات ومعالجتها بجرأة، وموضوعية، هذه النزاعات التي فرضت على البلدين قهرا وقسرا في زمن لم تكن مفاهيم السيادة والحرية والانعتاق قد تبلورت. والنظرة الشوفينية الضيّقة لم تعد تجرّ على البلدين سوى التعنّت والعناد، وجيراننا الإسبان مشهورون بالعناد، ولهم فيه اليد الطولى، والباع الممدود، وهو ما يطلق عليه سكّان الرّيف (الذين يعرفون الإسبان جيّدا، ولهم معهم معايشات، وصَوْلات وجولات.. !) "تاغنّانت"، فحتّى "هِتلر" شهد لهم بذلك، فقد أبى وامتنع ذات مرّة أن يلتقي من جديد ب"الجنرال فرانكو" بعد لقائه الأوّل به خلال الحرب الكونية الثانية، حيث قال عنه قولته الشهيرة في هذا القبيل: "أفضّل أن يُنزع لي ضِرس بدون بنج على أن ألتقي ثانية بهذا الرجل.. !". هذا العناد ربّما هو الذي جعلهم يتماطلون، ويتمنّعون حتى الآن في تقديم اعتذار من إسبانيا عن استعمالها للأسلحة الكيماوية الفتّاكة ظلما وعدوانا في حرب الرّيف التحرّرية الماجدة، إلاّ أن العديد من المثقفين الإسبان والمغاربة يأملون في أن يُقْدِم العاهل الإسباني فليبي السادس على هذه الخُطوة الشجاعة في مستقبلٍ قريب. إنّ وضعية العلاقات المغربية الإسبانية في الوقت الرّاهن، وفي ظّل هذه الزيارة التاريخية للعاهل الإسباني تدعونا إلى معاودة إلقاء نظرة تأملية متأنية، وإعمال النظر في بعض القضايا الهامة في المرحلة الحسّاسة من تاريخ هذه العلاقات، وما واكبها من أحداث وطنية ودولية وجهوية لا بدّ أن يكون لها ولا شك تأثير على رسم مسارها، وتحديد معالمها حتّى تصل إلى ما هي عليه الآن. طموح وتطلّع البلدين في تطوير هذه العلاقات والرقيّ بها إلى أعلى وأرقى المستويات لا يتوقّف باعتبارهما بلدين جارين متعانقين جغرافيا، آخى بينهما التاريخ، وانصهرا في بوتقة إشعاع حضاريّ وثقافيّ فريد في بابه في تاريخ الشعوب، يرسم مصيرهما التعاون الوثيق الذي لا محيد لهما عنه، ومن ثمّ تلك القولة المشهورة والمأثورة التي طالما ردّدتها الألسن في البلدين في مختلف المناسبات: إنّ المغرب وإسبانيا..بلدان محكوم عليهما بالتفاهم.. !. إنّ عامّة الناس، وصفوة المثقفين في كلا جانبي المضيق لا يملان من تكرار هذا التعبير المتداول؛ فرّغم أنّ هذه الصّيغة مضبوطة وصادقة إلاّ إنّها مع ذلك لا ينبغي أن تشطّ بنا بعيدا، فالصداقة بين البلدين لا يمكنها أن تترعرع في ظلّ أو شكل حكم مفروض بواسطة قدرية جغرافية وحسب، بل لا بدّ لنا أن نخطو خطوات أخرى إلى الأمام بعزم وإرادة. إنّ كلا من القطاعات الاقتصادية والسياحية، والمبادلات التجارية، ومخططات التعاون والمشاريع الصناعية المشتركة الخ، لا بد أن يواكبها تفاهم وتناغم سياسي براغماتي خصب، وأن يطبعها تبادل ثقافي متنوّع ومكثف يزيد بلداننا تعارفا، وتقاربا أكثر من ذي قبل. لا بد ّمن نسج، وتعميق وتوثيق المزيد من أواصر المودّة بيننا، ومن توفير الاحترام المتبادل بين الجانبين. التعدّد الثقافي الحديث عن التعدّد الثقافي والتنوّع الحضاري في المغرب وإسبانيا يحلو ويطول، والتاريخ لا يُقرأ في هنيهة. إنّ الزّائر الذي يأتي لبلادنا أو يزور إسبانيا يلمس التاريخ والعمران المتشابه حيّا نابضا قائما في كل مظهر من مظاهر الحياة. دراسة هذا التاريخ، والتعمّق فيه واستخراج العناصر الصالحة منه أمر لا مندوحة لنا عنه، وهو أمر ينبغي أن يُولىَ أهميّة قصوى، وعناية فائقة، وتتبّعا متواصلا من طرف الدولتين والمثقفين، والكتّاب، والمفكرين، والخواصّ، ومن لدن مختلف الجهات العلمية والتاريخية والمرافق التربوية والتعليمية التي تعنى بهذه المواضيع للتعريف بهذه الذخائر، في البلدين، ونشر الوعي وتأصيله بشأنها لدى أبناء جلدتهما، ليكون المستقبل الذي يتوقان إليه مستقبل رقيٍّ وأوج، وإشراق، وتلاق وتلاقح بين ماضٍ عريق، وحاضرٍ واعد؛ ولعمري إنّ لفي ذلك تجسيدا وتجسيما للعهود الزاهرة التي عاشها أجدادنا في شبه الجزيرة الإيبيرية والمغرب على حدّ سواء على امتداد العصور الحافلة بالعطاء الثرّ، والتعايش والتسامح، والإشعاع الثقافي والعلمي الباهر الذي شكّل وما يزال جسرا حضاريا متواصلا بين الشرق والغرب، وبين مختلف الأجناس، والإثنيات، والمِلل، والنِحل، والديانات في هاذين الصّقعين الجميلين، وهما المغرب وإسبانيا. هذا، ومن العلامات المضيئة لهذا الانفتاح والتنوّع الحضاري، والتبادل الثقافي والتثاقفي العديد من العلماء، والمفكرين، والفلاسفة، والفقهاء، والشعراء والفنانين والموسيقيّين الذين عاشوا في الأندلس ثم انتقلوا إلى المغرب والعكس صحيح، والأمثلة كثيرة، وافرة، ومتعدّدة، والأسماء لا حصر لها في هذا القبيل؛ وحسبنا أن نشير في هذا المقام إلى اسميْن بارزيْن في التاريخ المشترك للمغرب والأندلس، وهما الفيلسوف الجهبذ، الفقيه العلاّمة ابن طفيل، صاحب "حيّ ابن يقظان"، وتلميذه قاضي إشبيلية، وعالمها، وطبيبها، وفيلسوفها ذائع الصّيت أبو الوليد محمّد بن رشد، اللذان استقبلتهما حاضرة مراكش بحفاوة منقطعة النظير، وبوّأتهما أعلى الأرائك، وأرقى المراتب، وملكتهما من أعنتها وقيادتها فاستطاب لهما العيش فيها واسترغداه، وأصبحا صاحبي الأمر في البلاد، ولقد وافتهما المنية فيها. المثّقفون المغاربة والإسبان وإحياءً لهذا الماضي المشترك المشرق، واسترجاعا للإشعاع الحضاري والثقافي والإبداعي الذي تقاسمه البلدان على امتداد العصور والدهور، اضطلعت ثلّة من المثقفين المغاربة والإسبان في العقود الأخيرة بدور طلائعي في تطوير وتفعيل وتقوية العلاقات الإسبانية المغربية، فمنذ أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم نشرت مجموعة من المثقفين، والكتّاب، والأدباء، والمفكّرين المغاربة والإسبان- بمبادرة خاصّة منهم- بيانا صحافيا جريئا في إحدى الصّحف الإسبانية الكبرى واسعة الانتشار، وفى بعض وسائل الإعلام الأخرى، حيث طالبوا بضرورة تحريك وتفعيل العلاقات الإسبانية المغربية على مختلف المستويات. وقد وقّع على هذا البيان 40 مثقفا من المغرب، و46 مثقفا من إسبانيا. من الموقّعين المغاربة: المهدي بنونة، محّمّد شقور، محمّد شبعة، لسان الدين داود، عبد الكريم غلاب، محمد بن عيسى، مصطفى اليزناسني، محمّد العربي الخطّابي، محمّد محمّد الخطّابي (كاتب هذه السطور)، عبد الكبير الخطيبي، عبد الله العروي، محمّد اليازغي، محمّد المليحي، محمّد العربي المساري، سيمون ليفي، محمّد الصبّاغ، علي يعته..إلخ.ونذكر من الإسبان: خوان غويتيسولو، فرناندو أرّابل، بيدرو مونطافيث، خورخي سينبرون، فاثكيث مونطالبان، فيكتور موراليس، وآخرين. وقد طالب هذا البيان بضرورة إعطاء نفس جديد للعلاقات الثنائية بين البلدين، وإذكاء روح التعاون والتفاهم والحوار بينهما في مختلف المجالات السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، والإنسانية..إلخ. وقد أفضت هذه البادرة المبكّرة في ذلك الإبّان إلى تأسيس "جمعية المثقفين الإسبان والمغاربة"، التي نظمت في البلدين ندوات وطاولات مستديرة دورية هامة حول مختلف أوجه التعاون الثقافي، والأدبي، والعلمي، والتاريخي وسواه بين البلدين. كما أسّست بعد ذلك "لجنة إبن رشد" التي تضمّ هي الأخرى نخبة من كبار المثقفين والأدباء والمفكرين، والشخصيات السياسية والإعلامية في كلّ من إسبانيا والمغرب، والتي عالجت العديد من المواضيع والقضايا الحيوية التي تحظى باهتمام الطرفين. هذا فضلا عن تأسيس العديد من الجمعيات الإسبانية المغربية، سواء في المغرب أو إسبانيا، ذات الصّبغة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والفنية التي أصبح عددها يتنامى يوما بعد يوم، والتي تعمل هي الأخرى على تقريب الهوّة بين البلدين، والتعريف بطاقاتهما الخلاقة لتأكيد مزيد من التفاهم والتعايش بينهما في مختلف الميادين. وفي مقدّمة هذه الجمعيات النشيطة "جمعية الصّحافيين المغاربة الناطقين باللغة الإسبانية" التي تضمّ نخبة هامة من مثقفينا اللامعين الذين لهم باع طويل ودراية واسعة بلغة سيرفانطيس وآدابها وثقافتها. إلاّ أنّ هذه الجمعية وسواها تصطدم دائما بعثرة قلّة ذات اليد، وندرة الإمكانيات المادية وضآلتها إن لم نقل انعدامها. وفى الاتجاه نفس، ودعما وترسيخا لهذه الجهود، كان قٌد أعلن في المغرب منذ بضع سنوات كذلك تأسيس "منتدى الحوار المغربي الإسباني"، بمبادرة من جماعة من المثقفين ورجال الأعمال والسياسة المغاربة. وكانت هذه البادرة جاءت لتؤكّد في بلاغها: تعبيرا عن اقتناعها الرّاسخ بأهمية العلاقات بين بلدين جارين، وضرورة تطويرها وتنويعها، يربطهما التاريخ والجغرافية، بما يساهم في إعداد هذه العلاقات لولوج عهد جديد، موسوم بطابع التعاون الشامل في مختلف المجالات؛ وذلك بإقامة وإرساء قواعد ثابتة ودائمة للحوار والتفاهم والتعايش بين الطرفين، ولكن وا أسفاه..بعض هذه الجمعيات اندثرت، وانمحت، وتلاشت، وشلّت، وذهبت أدراج الريّاح.. ! الصّراع ضدّ الجّهل والد العاهل الإسباني فليبي السادس خوان كارلوس الأوّل خلال إحدى زياراته للمغرب السابقة كان قد قال: "إنه من الضروري أن نتعارف أكثر في ما بيننا، فما أفدح الجهل المتفشّي فينا. ينبغي أن نمحو من رؤانا المشتركة جميع الصّور المشوّهة، والأفكار المسبقة الخاطئة، كما ينبغي أن نقصي عنّا جميع الرواسب، وأن نقضي على بعض التأويلات التي تحول دون تعرفنا ونطردها من أذهاننا. أظن أنّ إسبانيا والمغرب ليسا ورثة القليل، ولقد طبعت فكرهما معرفة عامة كجارين عاشا على امتداد التاريخ واحدا بجانب الآخر، ولقد فرّقهما الجهل أحيانا بشكل يجاوز كل حدّ". ولا شكّ أنّ العاهل الإسباني الحالي مقتنع بهذه الأفكار، ومتشبّع بمدى أهميتها وجدواها في الظروف الرّاهنة التي تجتازها البلدان. "إنّ المهمّة الملقاة على عاتقنا لهي مهمة واسعة ومتشعبة، إذ ينبغي على إسبانيا أن تعمل على إعادة نشر لغتها وثقافتها في مجموع منطقة شمال إفريقيا، ففي وقت تفتح للثقافة واللغة الفرنسية في البوتقة المغربية مجالات واسعة، فإنه ينبغي على إسبانيا أن تسير في نفس التيار، وتعمل على نشر كتبها هناك، وإيفاد الأساتذة والمحاضرين، وإقامة جولات مسرحية، وتنظيم عروض سينمائية، وعلى المغرب من جانب آخر أن يقوّي حضوره الثقافي بإسبانيا، وتبيان الصورة الحقيقية للثقافة المغربية الغنية للرّأي العام الإسباني بنشر أعمال كتّابه وفنّانيه وفولكلوره الثريّ، كما أنه على الأوساط الثقافية الإسبانية أن تجري حوارا مستمرا ودائما مع النخبة المثقفة المغربية ودعم كفاحها من أجل مغرب قويّ وعادل وديمقراطي"، كما ردّد أكثر من مرّة الكاتب الإسباني المعروف الراحل خوان غويتيسولو. حضور دبلوماسي متواصل من الواضح أنّ الإرث التاريخي والثقافي والحضاري المشترك لكلّ من المغرب وإسبانيا يعتبر أرضية صلبة، وحقلا خصبا جعلا هاذين البلدين ينفردان بخصوصيّات قلّما نجدها لدى سواهما من البلدان الأخرى، ممّا أفضي إلى خلق نوع من الاستمرارية الدائمة والمتواصلة في علاقات البلدين منذ الوجود الإسلامي بشبه الجزيرة الإيبيرية، وبإسبانيا على وجه الخصوص، ونزوح الموريسكييّن عنها، ثم منذ القرن السابع عشر عندما بدأ التبادل الدبلوماسي الفعلي بين البلدين بشكل انفرد به المغرب، وكان له قصب السّبق بالنسبة لباقي البلدان العربية والإسلامية، بل وبالنسبة حتى لكثير من بلدان العالم الأخرى، حيث كانت البعثات الدبلوماسية، والرّحلات المغربية هي البعثات الوحيدة التي زارت، واستقرّت بإسبانيا منذ وقت مبكّر، بدءا أو انطلاقا من بعثة ابن عبد الوهّاب الغسّاني، سفير السلطان المولى إسماعيل، خلال حكم العاهل الإسباني كارلوس الثاني (1691-1690)، ومرورا بالزياني (1758)، وأحمد المهدي الغزال (1766)، وابن عثمان المكناسي (1779)، والكردودي (1885) الخ. هذه الاتصالات المبكّرة والمتواصلة الحلقات بين المغرب وإسبانيا خلقت نوعا من الاستمرارية زادها العنصر الجغرافي القائم متانة وقوّة وتواصلا، هذا فضلا عن العنصر الحضاري والثقافي الذي يعدّ عنصرا فريدا في بابه كذلك في تاريخ الأمم. كلّ هذه العوامل، والخاصّيات ميّزت علاقات البلدين على امتداد الحقب والعهود باعتبارهما جارين متقاربين، ولعمري إنّ هذا التقارب والتواصل والحوار الدائم القائم الذي لم ينقطع، ولم يفتر قطّ عبر القرون، لهو خير رصيد وضمان لبناء مستقبل واعد حافل بالآمال والتطلعات والعطاءات. عناق الجغرافيا والتاريخ إنّ إسبانيا تمرّ اليوم بظروف صعبة ومعقّدة وبقدر ما يكون المغرب في حاجة إليها، فهي محتاجة إليه كذلك أكثر من أيّ وقت مضى، إنّ الأزمات الخانقة المالية، والاقتصادية، والاجتماعية، والانتكاسات الداخلية، والحراك الجماهيري، والغضب الطلاّبي، والخناق الشعبي على الحكومة الإسبانية بعد الإجراءات التقشفية المقتّرة، والمبالغ فيها التي اتخذتها مؤخرا في مختلف القطاعات الحيوية في البلاد (تربية، تعليم، صحّة، ونظام المعاشات..إلخ) ما اثّر على مستوى العيش في إسبانيا، وخلّف استياء واسعا وتذمّرا كبيرا لدى مختلف الشرائح الاجتماعية الإسبانية على اختلافها، فضلا عن معضلة تفاقم البطالة وتفشّيها التي ضربت رقما قياسيّا (فاقت خمسة ملايين عاطل) خاصّة بين الشباب الإسباني الذي أصبح يقال في حقه مؤخّرا على سبيل الدعابة والمزاح: إنّه لم يعد أمامه في إسبانيا من حّلّ أو منفذ أو لمعضلته – في خضمّ آفة البطالة التي أضحى يتخبّط فيها - سوى ثلاثة مخارج لا غير وهي: البحر، والبر، والجوّ (أيّ الهجرة بحثا عن الرّزق والقوت اليومي في أرض الله الواسعة بحرًا وبرًّا وجوًّا.. !)، وانعكاس كلّ ذلك سلبا على الجالية المغربية الأخرى المقيمة في هذا البلد، فضلا عن حاجة إسبانيا إلى زيادة تقوية وتعزيز وتوسيع استثماراتها في المغرب، خاصّة بعد أن أصبحت تحتلّ في الوقت الرّاهن مكان الصّدارة إلى جانب فرنسا في هذا المجال، والأولى في المبادلات التجارية على صعيد الواردات والصّادرات بين البلدين.. يضاف إلى هذه المشاكل والقلاقل التي تعاني منها إسبانيا اليوم، المطالب الانفصالية لجهة كطالونيا، ناهيك عن معضلة "بلد الباسك"، وتلويح مناطق وجهات إسبانية أخرى برغبتها وتطلعها للسّير في نفس هذا الاتّجاه كذلك، ومعضلة ظهور حزب يميني شوفيني متطرّف وهو "بوكس"؛ فضلا عن التجاوزات والفضائح الفساد التي طالت (الحزب الشعبي) التي مسّت مباشرة جهازه المالي والإداري، وبعض أعضائه. فضلا عن اتّهامات بفضائح مالية، وانتهاكات اختلاسية وضريبية خطيرة لحقت ببعض أفراد الأسرة المالكة الإسبانية، سواء تلك التي لها صلة بصهر العاهل الإسباني "إنياكي أوردانغارين" الذي أودع السجن، أو زوجة هذا الأخير الأميرة" كريستينا. فضلاً عن التعثرات التي تواجه الحكومة الاشتراكية الحالية في عجزها التام عن تفويت ميزانية الدولة حيث صوّت البرلمان الإسباني بذاك يوم 13 فبراير 2019؛ ما يستدعي تنظيم انتخابات رئاسية مبكّرة. كلّ ذلك وسواه يزيد من وجع دماغ (إسبانيا والإسبان) ما يجعل هذا البلد الجار في موقف لا يحسد عليه.. نرجو للزيارة الرّسمية التي يقوم بها العاهل الإسباني فليبي السادس لبلادنا ابتداء من يوم الأربعاء 13 فبراير 2019 كامل التوفيق والنجاح لوضع أسس متينة لمزيد من التفاهم، والتعاون، والتقارب، والتداني بين البلدين، والتغلب على الصّعاب، وتذليل العقبات، وإيجاد الحلول السلمية الناجعة، والعاجلة للمشاكل القائمة، والنزاعات العالقة بينهما، والتي تتطلّب إرادة سياسية صلبة، وثقة قويّة متبادلة، وإيمانا راسخا بمستقبلهما الواعد، ومصالحهما الحيوية المشتركة. * كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا (كولومبيا).