متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر بالرباط يعدّ أول متحف مغربي أسس بعد الاستقلال السياسي للمغرب بهدف أن يكون متحفا. واحتضن، بالرغم من حداثة سنه، معارض لفنانين ذوي صيت واسع في المجال الفني من قبيل بيكاسو وجياكوميتي وسيزار. هسبريس التقت عبد العزيز الإدريسي، مدير متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر، وسألته عن دور هذا المتحف في بناء الوعي الفني بالمغرب، ومدى تفاعل المغاربة معه، وعن سبب تمركز المَعارض التي يحتضنها في العاصمة الرباط. ما هو متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر؟ متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر مؤسسة ثقافية تهدف إلى القيام بدورها المتحفي، بمعنى أنها مؤسسة ثقافية تحاول أن تحترم المعايير المتعامل بها على مستوى التحافة والصيانة والصيانة الوقائية للأعمال وعلى مستوى العرض والبرمجة الثقافية، ومتحف محمد السادس مؤسسة أُحدثت انطلاقا من 2014، على إثر افتتاحها من لدن الملك محمد السادس، واُفتتحت بعمل جبار، كان هدفه تقديم صورة متكاملة عن الفن المغربي من خلال معرض كبير ضم أكثر من 500 عمل و200 فنان؛ وبالتالي أعطى صورة عن الزخم الفني الذي تعرفه الساحة الوطنية. ومتحف محمد السادس هو أول مؤسسة أحدثت أيضا بعد استقلال المغرب، لتكون متحفا؛ لأن المؤسسات الأخرى كانت مؤسسات موجودة من قبل وهي عبارة عن مدائن تاريخية وقصور ومؤسسات، ووظفت كمتاحف، وبالتالي لم تكن بالضرورة متاحف ولم تُخلق لتكون متاحف. في حين أن هذه المؤسسة خلقت لتكون متحفا، وبالتالي متحفا وطنيا يهدف إلى تقديم صورة عامة للعمل على الساحة الفنية الثقافية في المغرب، وفق معايير وضوابط تجعل المؤسسة قادرة على استقطاب معارض كبرى، كما هو الشأن مع المعارض التي أقامتها انطلاقا من المعرض الافتتاحي إلى الآن. وأيضا هي المؤسسة الوحيدة التي استطاعت إلى اليوم على المستوى الوطني، بل على مستوى القارة، أن تستقدم أعمالا لفنانين ذوي حضور عالمي؛ على سبيل المثال لا الحصر نتحدث عن أعمال بيكاسو، جياكوميتي، وسيزار، أو معارض أخرى أقيمت بمعية مؤسسات ثقافية كبرى على المستوى الدولي. كيف استطاع المتحف، في سنوات قليلة بعد تأسيسه، احتضان مثل هذه المعارض؟ المتحف ليكون متحفا لا بد أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط نجملها عموما في أربعة: الشرط الأول هو شرط تنظيم المعرض؛ وهو أن يكون الفضاء قادرا على تنظيم فضاء معين، ولتنظيم فضاء هذا المعرض يجب أن تتوفر شروط الصيانة، ويجب أن تتوفر شروط السلامة للمعروضات، ويجب أن تتوفر شروط علمية وشروط مادية. الشروط العلمية هي أن الفضاء يجب أن يستجيب لمتطلبات العرض من إنارة متخصصة، من تهوية متخصصة، من تكييف، وأيضا الجو داخل الفضاء يجب أن يكون متحكما فيه من أجل صيانة القطع، والحرارة والرطوبة يجب أن يتم التحكم فيهما على المستوى التقني، وعلى مستوى إقامة المعرض يجب أن يكون المتحف متوفرا على ما يصطلح على تسميته ب"الفاسيليتي ريبورت" وهي وثائق تمكن المؤسسة من استقدام معارض كبرى، وهذه الوثائق لا تتوفر لكل المؤسسات، فربما نحن المؤسسة الإفريقية الوحيدة التي تتوفر على هذه الضوابط، وهذه الضوابط أحدثها المؤسس في اليوم الأول لما أقام المتحف. فكر المغاربة في إقامة المتحف بمواصفات المتحف العالمي، بمعنى أن هذا المتحف فيه مقاسات معينة، وأماكن للمعالجة، وأماكن لصيانة التحف، وفضاءات للعرض تستجيب لمتطلبات العرض. ولهذا، فأنت عندما ولجت القاعة مثلا أحسست برطوبة معينة أو بدرجة حرارة معينة تختلف عن درجة الحرارة الموجودة في الشارع؛ لأننا في فضاء أشبه بمستشفى فيه شروط ذاتية وموضوعاتية. وهناك أيضا شروط أخرى مرتبطة، بالرغم من كل هذه المقومات، بكون إذا لم تكن للبلد مقومات تضمن له إقامة هذه المعارض فالمؤسسات الكبرى لن تستجيب لطلباته؛ فإذا لم تتوفر في البلد مثلا الشروط الأمنية وشروط السلامة وشروط التأمين إلى غير ذلك، فكل هذه الشروط هي التي تجعل المتحف قادرا على أن ينظم معرضا ما. ناهيك عن دور آخر، هو دور العلاقات ما بين المؤسسة والقائمين عليها والمؤسسات الدولية، بمعنى أن المؤسسة الوطنية للمتاحف، وهي الراعية الأساسية لمتحف محمد السادس، بفضل علاقات رئيسها الوطيدة بالساحة الفنية وبالمؤسسات الثقافية الكبرى، استطاع أن يوظف هذه العلاقات خدمةً للمجال الثقافي والمجال الفني بالعموم.. لهذا، استطاع بفضل هذه العلاقات أن يستقدم معارض كبرى كما هو الحال بالنسبة إلى المعارض التي أشرنا إليها. ما موقع متحف محمد السادس في بناء الوعي الفني والوعي البصري عند المغاربة؟ أظن أنه من الصعب أن نقيّم مدى مساهمة المتحف في تنمية الوعي الفني أو البصري في المغرب؛ لأن التجربة ما زالت تجربة حديثة، ولكن هناك إرهاصات تبدو من خلال مشاهدة ما يحدث حاليا حولنا في المجال الفني، فنلاحظ أن هناك بداية وعي، وأن هناك اهتماما بالمعارض. إن مدينة كمدينة الرباط التي أريد لها أن تكون عاصمة ثقافية وعاصمة للأنوار، من خلال هذا المتحف ومن خلال الأنشطة التي يقيمها بالموازاة مع مؤسسات أخرى بطبيعة الحال، ولكن من خلال ما يقوم به المتحف، نلاحظ أن هناك طفرة ثقافية تشهدها المدينة. في السنة الماضية مثلا، كان هناك احتفاء بإفريقيا من خلال "إشعاع إفريقيا من العاصمة"؛ فهذا النشاط الكبير، الذي احتفلت فيه الرباط بشكل عام بالثقافة الإفريقية وبالفن الإفريقي على وجه الخصوص، خلّف صدى طيبا. أضف إلى هذا، أن المعارض التي تقام حاليا في المتحف كل معرض منها يستقطب أكثر من 35 إلى 40 ألف زائر خلال مدة وجيزة تتراوح بين شهرين ونصف الشهر إلى ثلاثة أشهر. ومنذ افتتاح المتحف إلى الآن، هناك ما يزيد على 350 ألف زائر للمتحف، بمعدل يفوق مائة ألف زائر سنويا منهم نسبة كبيرة من الطلبة ومن التلاميذ؛ وبالتالي هذه النسب مهمة، وتبين أن المتحف يؤدي دوره التربوي أو يؤدي وظيفته التثقيفية والتعريفية. وهذه فقط بداية، وهذه البداية مشجعة على اعتبار أن كل المدن حاليا تتصل بالمؤسسة الوطنية للمتاحف من أجل المطالبة بإقامة متاحف كبيرة بها على منوال متحف محمد السادس. وبالتالي، فأظن أن هذه ليست بداية وعي؛ فالوعي موجود منذ القديم، ولكن هي بداية اهتمام حقيقي بالفعل الثقافي، والفعل الفني بشكل خاص. هل ينظم المتحف ورشات تكوينية في المجال؟ نعم، المتحف يقوم بورشات تكوينية لفائدة الأطفال، كما يقوم أيضا بورشات لفائدة المشتغلين في مجال المتاحف وفي مجال التحافة وصيانة التحف، كما ينظم ورشات للمهتمين بمجال الوسائطية الثقافية. وبالتالي، المتحف ورشة مفتوحة على طول السنة في وجه الطلبة والأساتذة والمهتمين والأطفال والزوار. وأقول إن المتحف ينتج في كل معرضٍ مجموعة من الوثائق البيداغوجية، وهذه الوثائق البيداغوجية موجهة بالأساس إلى النشء. وبالتالي، فكونها موجهة إلى النشء فهذا يعني أننا نراهن على هذا النشء؛ لأنه من الصعب جدا أن نتحدث فقط مع البالغين أو مع الراشدين.. فأظن أن المراهنة يجب أن تكون على النشء، لكي نخلق لديه الرغبة في استهلاك المنتوج الثقافي بين معقوفتين؛ لأنه يجب أن يصبح المنتوج الثقافي مادة قابلة للاستهلاك بشكل يومي. ولهذا، فهذه المعارض التي يقيمها المتحف تهدف بالأساس إلى تجديد آصرة التواصل، والرابطة بين الجمهور وبين المؤسسة المتحفية، وتهدف بالأساس إلى خلق حاجة إلى استهلاك المنتوج الثقافي لدى المتلقي بشكل يكاد يكون يوميا.. ولهذا، فنحن نشتغل على شقين؛ لأن المؤسسة يجب أن تقف على رجلين لتقف وقفة ثابتة، فهناك جزء ثابت، وهو جزء العرض الدائم المخصص للفن المغربي، وهناك جزء متحرك هو جزء المعارض المؤقتة.. وهذه المعارض المؤقتة بدورها مقسمة إلى صنفين؛ فهناك صنف يهم البرمجة الثقافية الدولية، وشق يهم البرمجة الثقافية الوطنية، بمعنى أن المتحف ينظم سنويا معرضين إلى ثلاثة معارض مخصصة لفنانين دوليين، ولفنانين مغاربة، أمثال الشرقاوي، أو ما نظم سابقا حول التجربة الفنية عند الفنانات المغربيات أو حول تجربة فوزي العتيريس ومحترفات مدرسة تطوان، أو حول فن الشارع الذي أقيم منذ سنتين بالمتحف والذي سيصبح بعد ذلك ما يعرف حاليا ب"جدار" أي الجداريات التي تقام بالرباط، وهذا هو الدور الذي أظن أن المتحف يحاول أن يقوم به. لِمَ يلجأ المتحف إلى وسائط عرض متعددة، بما فيها السينما؟ في واقع الحال، نحن لا نتحدث فقط عن العمل التشكيلي؛ فنحن نتحدث عن العمل التشكيلي، ونتحدث عن العمل الهندسي، ونتحدث أيضا عن الوسائط كالسينما والميلتيميديا (الوسائط المتعددة).. وبالتالي، من الضروري أن نهتم على الأقل بنقط الالتقاء بين هذه الوسائط المتعددة وبين العمل الفني والعمل التشكيلي. والبرمجةُ أيضا تقتضي الانفتاح على جمهور جديد، فعندما نقوم كل أسبوع خلال موسم رمضان للمرة الثالثة على التوالي بتقديم أشرطة سينمائية، فالهدف هو الانفتاح على جمهور يختلف عن الجمهور الذي يأتي يوميا من أجل مشاهدة العمل. أيضا نعتبر أن الجمهور المقيم في مدينة الرباط له الحق في أن يشاهد أشياء أخرى، ما دام قد شاهد العرض الدائم فلا بأس في فتح الفضاء لأنشطة مرتبطة بالفعل الثقافي، وتجعل هذا الجمهور يأتي بشكل يكاد يكون دوريا إلى المتحف للاطلاع على المستجدات وعلى العمل الذي يتم القيام به في المتحف، سواء تعلق الأمر بعرض سينمائي أو محاضرة أو توقيع كتاب يتناول المجال الفني بطبيعة الحال ويتقاطع مع اهتماماتنا، أو بإقامة معرض فني مؤقت أو معرض دائم. ولهذا، كل هذه المعارض والأنشطة تجعل المؤسسة قادرة على أن تقوم بدورها وقادرة على أن تجد لها موقعا في الساحة الثقافية المغربية. ما دور متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر في دعم الفنانين الشباب؟ المتحف في الأساس لما خلق فضاء جديدا سماه فضاء العرض بالطابق السفلي في المتحف، الذي لم يكن في الأصل مبيأً ليكون فضاء مُعدا للعرض ولكن تمت تهيئته ليصبح فضاء يستجيب لمتطلبات العرض، أقامه بالأساس لينفتح على التجارب الشابة. ولكن، يجب أن ينفتح المتحف على التجارب الشابة الواعدة، وليس على كل التجارب؛ لأن المتحف ككل حينما يستقطب عملا فيجب أن يكون قد بلغ مرتبة من النضج، وبالتالي لا يمكن أن نقدم الأعمال غير الجادة أو الأعمال التي ما زالت في طور البحث عن الذات، فهناك مؤسسات أخرى تقوم بهذا الدور، والمتحف بالأساس يتبنى الأعمال التي فرضت نفسها على المجتمع. ولا يمكنني أن أقدم أعمالا لمبتدئ، وأفرضها على الجمهور؛ فهذا يتنافى مع أخلاقيات العمل المتحفي، وبالتالي فعندما يقدم المتحف عملا لفنان فهذا الفنان يكون قد بلغ مرحلة من النضج الفني تجعل عمله يستحق أن يقدم في هذه المؤسسة، بل تجعل الفنان كأنه دخل قاموسا، فكأنه مصطلح جديد دخل قاموسا، وبالتالي لا يمكن أن يدخل القاموس أي مصطلح مهما كان، بل لا بد من لجان متخصصة تدخله القاموس، وتضفي عليه الشرعية لكي يقبل في المجتمع. ما الذي يهدف المتحف إلى التعريف به؟ لما فتح المتحف أبوابه في المرة الأولى كان قد قدم لمحة تحدث فيها عن أهدافه الكبرى، وقال فيها إنه من بين العناصر الأساسية التي سيشتغل عليها هو مسألة دمقرطة الفعل الثقافي؛ فدمقرطة الفعل الثقافي تعني أن يجعل الفعل الثقافي قريبا من المتلقي وقريبا من الجمهور، وتعني أيضا أن ينفتح المتحف على الجمهور، وأن يجعل الفعل الثقافي قريبا من الجمهور؛ ما يعني أن الإنسان المغربي له الحق في أن يرى أعمالا لرواد دونما حاجة إلى التنقل إلى باريس أو بيلباو أو إلى متاحف دولية كبرى ليقف على أعمال طبعت المرحلة الأولى أو الثانية من القرن العشرين، وبالتالي إمكانية استقدام هذا العمل إلى المتحف يؤدي هذا الغرض، فيقرب العمل من الجمهور، ويقدم أيضا صورة على البلد، كما يقدم أيضا صورة عن التطور الذي شهده البلد في مجال التّحافة أو في مجال الصيانة كما قلت وغير ذلك، وهذا معطى أول. المعطى الثاني هو أنه عندما نقدم عملا لا نقدم الأعمال بشكل اعتباطي، فحينما حاولنا أن نقدم الأعمال الأولى منذ البداية، كانت للمعرض الأول علاقة بالمغرب وسميناه "المغرب الوسيط"، بالرغم من أنه لم يكن موضوعا يتناول في الأساس تاريخ الفن الحديث ولا المعاصر، فكان يتناول تاريخ المغرب الوسيط، ولكن نظرا لافتقار المغرب آنذاك لقاعة متخصصة قادرة على الاستجابة لمتطلبات العرض فقد ركبنا هذه المغامرة، وقدمنا هذا العمل، وبالتالي لقي نجاحا، ومكن الطاقم المشتغل في المتحف من أن يتكون، ومكن المتحف من أن يكتسب الشرعية لدى المؤسسات الثقافية الكبرى؛ لأنه كانت هناك مؤسسات على شاكلة "اللوفر" أو "متحف برشلونة" أو "متحف لشبونة" أو غير ذلك من المتاحف الكبرى التي أسهمت في إنجاح هذا المعرض من خلال تمكيننا من بعض التحف المتوفرة لديهم، وبالتالي إذا لم تكن عندك المعايير الكافية من أجل إقناع هذه المؤسسات بأن تُقرضك عملا لتعرضه لمدة معينة؛ فالمؤسسة لن تستطيع الاستجابة لطلبك، وبالتالي كان من الضروري أن نراهن على معارض من هذا القبيل. بعد ذلك، المعارض التي جاءت ك"سيزار" في علاقته بالمغرب، وعلاقته بالمتوسط وفي علاقته بالفضاء المغربي، لأنه اشتغل في المغرب وكان ربما أول فنان فرنسي يسهم في إنجاز عمل معماري داخل فضاء عمراني بالمغرب، وبالتالي كان من الطبيعي أن يجد مكانا له في هذا المعرض. ثم بعد ذلك تقديم جياكوميتي، الذي هو أحد أعمدة الفن في القرن العشرين، وبالتالي لما تجد فرصة لكي تقدم عمل جياكوميتي لا يمكن أن تتردد، بل ما يثلج القلب هو أن الأعمال التي قدمناها، تعرض حاليا في معارض كبرى وكنا سباقين لعرضها والآن تعرض إما في مؤسسات أوروبية أو مؤسسات عربية في دول الخليج، وبالتالي هذه البرمجة الثقافية التي أقيمت كان لها ما لها. بعد ذلك أقيم معرض حول بيكاسو، بيكاسو بطبيعة الحال لأنه كانت سنة بيكاسو على مستوى البحر المتوسط، فكان من الضروري أن نتموقع في خريطة الاهتمام الدولي بمسيرة هذا الفنان. وحينما قدمنا أعماله حاولنا أن نربطها أيضا بواقعنا، فحاولنا أن نجد مسارا لبيكاسو يقدم صورة متكاملة عن عمل بيكاسو لتقريبه من المتلقي المغربي، وحاولنا أن نقدم أعمالا يمكن للمشاهد المغربي أن يراها، وحاولنا أن نقدم أعمالا يمكن أن تكون مقبولة في وسطنا الفني، وفي وسطنا عموما. وحينما نقدم أعمالا للفنانين المغاربة فنحن انطلقنا من تجارب مشتركة وتقديم أعمال لمدارس، وتوجهات، واتجاهات فكرية كبرى سادت في مرحلة معينة، قبل أن ننفتح على التجارب الفردية، وكأننا بذلك كنا نحاول بطريقة بيداغوجية وبطريقة مرنة أن ننتقل وأن نتدرج لكي لا تكون انطلاقتنا قوية، ثم بعد ذلك نعود على أعقابنا خاسئين؛ ولكن كان الهدف هو أن ننطلق في تجربة تكبر بفعل التجارب الأخرى، وتنمو بفعل ما تكتسبه من خبرات. ألا يعتبر وجود المتحف في الرباط ترسيخا للمركزية وبعدا عن دمقرطة العمل الفني لتستفيد جهات أخرى من العروض؟ يجب أن نقول إن هناك مستويات لا بد من احترامها، المستوى الأول هو أن المؤسسة الوطنية للمتاحف التي تقوم بتدبير الشأن المتحفي على المستوى الوطني، لما انطلقت قامت بعملية قراءة استقرائية للواقع من خلال ما هو متوفر؛ فعندها 14 متحفا كانت تابعة لوزارة الثقافة أصبحت تدير شؤونها، وبالتالي قامت بعملية قراءة متأنية للخريطة المتحفية، ثم بعد ذلك قامت بعمل يهدف بالأساس إلى أن تجعل من هذه المؤسساتِ مؤسساتٍ قادرة على إقامة معارض دائمة ومؤقتة، والمؤسسة تستجيب لما تعرفه الساحة الدولية من تطورات في المجال العلمي أو في المجال الفني أو في المجال الثقافي، وبالتالي قامت في البداية بعملية ترميم في ظرف سنتين فقط لأكثر من 7 مؤسسات، وهو عمل جبار. وكان من الضروري أيضا، بعد عملية الترميم، أن تهتم بجانب المعروضات، كي لا يكون هناك تقاطع بين هذه المؤسسات ولكي تكون كل مؤسسة مرتبطة بواقعها والجهة التي تنتمي إليها؛ فلا يمكن أن يكون متحف الرباط شبيها بمتحف طنجة، ولا يمكن أن يكون متحف طنجة شبيها بمتحف العيون، ولا يمكن لمتحف العيون أن يكون شبيها بمتحف مراكش، فكل متحف له خصوصياته المرتبطة بالجهة التي ينتمي إليها، والمرتبطة بالتربة التي أنتجته، وبواقع منطقته، والإمكانات المتوفرة في الجهة إلى غير ذلك.. فهذا مشروع انطلق حاليا وبدأ بعملية إحداث متحف محمد السادس الذي هو متحف متخصص في المجال الفني، متحف للفن الحديث والمعاصر، وفي نفس الوقت انطلقت عملية الترميم، فأصبح متحف طنجة متحفا متخصصا في الثقافة المتوسطية، ومتحف الرباط الذي كان بالأمس القريب متحف الآثار، أصبح متحف التاريخ والحضارات وأصبح متحفا يستجيب لكل متطلبات العرض ويجب زيارته، ومتحف دار الباشا بمراكش الذي أصبح متحف الروافد الثقافية وبالتالي يقدم صورة عن الروافد التي غذت الثقافة المغربية، والمتحف الوطني للخزف بآسفي الذي افتتح أبوابه منذ شهر. فهذه المتاحف الأربعة، التي أُحدثت في ظرف سنتين، انطلقت بالموازاة معها عملية ترميم متحف دار الجامعي ومتحف بلقاري بمكناس. كما انطلقت عملية ترميم متحف دار البطحاء بفاس، وانطلقت عملية الصيانة التي هي في المراحل الأخيرة لإعادة تأهيل متحف دار سي سعيد بمراكش، وبالتالي في هذه القراءة الأولية هناك جهوية. ثم أظن أنه انطلقت أيضا أشغال الترميم بمتحف باب العقلة بتطوان، بمعنى أنه انطلقنا من الشمال ثم بعد ذلك الوسط، وحاليا مراكش-آسفي ثم العودة إلى فاس-مكناس، وبعد ذلك الاتجاه إلى العيون، فهناك رغبة من أجل النهوض بالقطاع ككل، في المغرب ككل وليس فقط الاقتصار على الرباط. أكيد أن المغرب عموما.. واقعُنا الحالي واقع مرتبط بما ورثناه وهو أن الخريطة المتحفية بالمغرب كانت مرتبطة بالمؤسسات التي كانت موجودة منذ 1919 إلى الآن، وبالتالي الآن يجب أولا أن نعيد الاعتبار إلى هذه المؤسسات الموجودة وأن لا نتركها لحالها وننطلق في إحداث مؤسسات أخرى، وأن نعيد إليها الاعتبار نظرا للدور الذي قامت به منذ البداية إلى الآن، ثم بعد ذلك نؤهلها وننطلق إلى إحداث مؤسسات جديدة في الأماكن التي لا تتوفر على مؤسسات تقوم بالدور المتحفي على الوجه المطلوب. ما المعارض التي يمكن أن ننتظرها مستقبلا في متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر؟ بالنسبة إلى المعرض المقبل إن شاء الله نحن بصدد الإعداد لمعرض حول الحداثة المتوسطية، وهو معرض يقام بشراكة بين المؤسسة الوطنية للمتاحف ومجموعات جورج بومبيدو، وهذا المعرض أيضا سيقدم صورة عن الدور الذي لعبه المتوسط في صياغة الفن خلال القرن العشرين ومنذ مطلع القرن العشرين إلى الآن وهي 100 سنة من التجارب. 100سنة سنشاهد فيها أعمالا كأعمال "ماتيس" التي يعرفها المغاربة نظرا للتأثير الذي مارسه المغرب على عمل ماتيس، أو أعمالا لفنانين لاحقين يعرفهم الجمهور وهم أسماء كبرى مؤثرة في الفن الحديث في البحر الأبيض المتوسط ك"دالي" أو "سيزار" أو "بيكاسو" أو "آتلون" أو "كاندينسكي" أو "براك"، إلى غير ذلك من الأسماء التي أثَّرت وأثْرَت الساحة الفنية العالمية، وبالتالي ستكون فرصة للوقوف على إبداعات هؤلاء الفنانين الكبار، هذا أولا. بعد ذلك، افتتحنا الآن معرض أحمد الشرقاوي "بين الحداثة والتجذر"، وأظن أن بعده مباشرة ستكون معارض أخرى ستُرصد أيضا لتجارب مغربية متفردة على مسار السنوات المقبلة، وستكون هناك مجموعة من المعارض التي ستخصص لفنانين مغاربة وتجارب متفردة سنقف عليها في حينها.