كانت حياة الأستاذ محمد مونيب، كما يعرف الجميع، حافلة بجليل الأعمال والمنجزات والعطاءات والنضالات. وسيكون من المجحف الحديث عن هذه الشخصية الفذّة في دقائق معدودة. ولهذا سأكتفي، في هذه الكلمة التأبينية، بالتذكير بأحد منجزاته الذي أصبح يُعرف به كعلم في رأسه نار، كما يقول التعبير العربي، وهو كتابه "الظهير البربري، أكبر أكذوبة سياسية في المغرب المعاصر"، والذي حظيت بشرف كتابة تقديم له. جيل الشباب من المنتمين إلى الحركة الأمازيغية، ربما لا يدركون ما كان يمثّله هذا الكتاب من حدث ثوري وانقلابي وتاريخي فريد عند صدوره في 2002. لماذا لا يدركون ذلك؟ لأنهم لم يعيشوا ما كان يمارسه "الظهير البربري" من ابتزاز على الأمازيغيين، وحصار للأمازيغية وقمع لها وشيطنتها، بعد أن تراجعت اليوم هذه الممارسة، الابتزازية والحصارية والقمعية والشيطانية، عقب صدور كتاب الأستاذ مونيب. فقبل هذا الكتاب، كان هذا "الظهير البربري" بمثابة غول يُرعب ويُرهب الأمازيغية والأمازيغيين، ويُلوّح به كسيف مستلّ لتهديد كل من يُبدي تعاطفا مع الأمازيغية أو يدافع عنها ويطالب بالاعتراف بها. لقد وضع الأستاذ مونيب حدّا للابتزاز، وصرع الغول وأسقطه أرضا، وكسّر السيف الذي كان مسلّطا على رقاب الأمازيغيين. لقد بيّن الكتاب، وبالحجة والدليل والوثائق، أن هذا "الظهير البربري" هو أكذوبة بالمعنى الحقيقي وليس المجازي. لكن الخطير في هذه الأكذوبة أن مختلقيها نجحوا في فرضها وترسيخها كحقيقة يصدّقها، ليس فقط أتباعهم المناوئون للأمازيغية، وإنما حتى الأمازيغيون ضحايا هذه الأكذوبة، كما يتجلّى ذلك في ردّهم على من يرفع في وجههم فزاعة "الظهير البربري" أن الأمازيغيين أبرياء من خطيئة "الظهير البربري"، الذي لا دخل لهم في إصداره وتطبيقه، وإنما يجب الإلقاء باللائمة على سلطات الحماية الفرنسية، التي هي المسؤولة وحدها عن هذا "الظهير البربري"، إذ هي التي حررته ونشرته وعملت على تطبيقه. ماذا يعني هذا الدفع الذي يبرئ به الأمازيغيون أنفسهم من تهمة هذا الظهير؟ يعني أنهم لم يكونوا يشكّون في حقيقته، وإنما كانوا يرفضون فقط أن تحمّل فيه المسؤولية لهم. وهكذا كانوا ضحايا هذه الأكذوبة لمرتين وفي نفس الوقت: أولا، عندما اتهِموا بأن الاستعمار عمل على تنصيرهم واستعمالهم لمحاربة الإسلام وتقسيم المغرب على أساس عنصري، وثانيا عندما صدّقوا أن الاستعمار قام بذلك فعلا. الأستاذ مونيب يُثبت في كتابه، ليس فقط أن الأمازيغيين أبرياء من تهمة "الظهير البربري"، بل يثبت أن الاستعمار نفسه بريء من هذا "الظهير البربري"، الذي لا علاقة له بالسلطات الاستعمارية للحماية الفرنسية التي أصدرت ظهير 16 ماي 1930، ذا المضمون والهدف المختلفين كليا عن مضمون وهدف "الظهير البربري"، الذي أصدرته "الحركة الوطنية" وليس الحماية الفرنسية. ولهذا إذا كان ظهير 16 ماي 1930 قد انتهى العمل به بانتهاء الحماية الفرنسية مع حصول المغرب على الاستقلال، فإن "الظهير البربري" شُرع في العمل به بعد الاستقلال، كما يظهر ذلك في شيطنة الأمازيغية ومعاداتها والتحريض عليها بربطها بالاستعمار والتفرقة والتنصير ومحاربة الإسلام. وهكذا بيّن الكتاب أن "الظهير البربري" ليس فرنسيا ولا استعماريا ولا سلطانيا (نسبة إلى الظهائر التي كانت تصدرها الحماية باسم السلطان)، وإنما هو ظهير "وطني"، أي من صنع واختلاق أصحاب "اللطيف" الذين سيشكّلون و"طنيي" "الحركة الوطنية"، والتي سيكون هذا الظهير، المصنوع والمختلَق، هو عقد ميلادها الرسمي والتاريخي. وبعد أن ثبت أن هذا "الظهير البربري" هو مجرد كذب واختلاق وتزوير، تكون النتيجة الأولى لذلك هي أن ما يُسمّى ب"الحركة الوطنية" قد قامت على الكذب والاختلاق والتزوير. أما النتيجة الثانية فهي أن "الوطنية"، كمفهوم سياسي وإيديولوجي نشأ في المغرب بدءا من ثلاثينيات القرن الماضي على يد هذه "الحركة الوطنية" نفسها، كرد فعل تجاه "ظهيرها البربري"، تكون قد تأسست على الكذب والاختلاق والتزوير. إنها وطنية الكذب والاختلاق والتزوير. وبكشفه عن حقيقة عناصر الكذب والاختلاق والتزوير التي قامت عليها "الحركة الوطنية"، وتأسست عليها" وطنيتها" المزعومة، يكشف الأستاذ مونيب عن أكبر عملية نصب في تاريخ المغرب، عندما تحوّل الكذّابون والأفّاكون والمزوّرون إلى وطنيين وأبطال، يُتّخذون مرجعا في الوطنية والتضحية والجهاد، مع أن "وطنيتهم" و"جهادهم" وتضحياتهم" هي محض كذب واحتيال وتزوير واختلاق. ولا شك أن اتباع هؤلاء الوطنيين المزوّرين، الذين يحافظون على نفس الوطنية المزوّرة والزائفة، التي تجد مصدرها في أكذوبة "الظهير البربري"، يشعرون اليوم بإحراج شديد أمام الحقائق الصادمة التي يتضمنها كتاب الأستاذ مونيب. وهذا ما يفسّر أنهم لم يعودوا، منذ صدور الكتاب، يحتفلون بالذكرى السنوية ل"ظهيرهم البربري"، كما كانوا يفعلون دائما منذ الاستقلال حيث كانوا ينظّمون ندوات يستعرضون فيها "بطولاتهم" الوهمية، ويخصصون في جرائدهم ملفات مطوّلة تنوّه بدفاعهم الكاذب عن الوطن والإسلام ضد "ظهيرهم البربري". وقد أوضح الكتاب أن الدافع إلى اختلاق النخبة "الوطنية" "للظهير البربري" لم يكن هو معارضتها للاستعمار، ولا رفضها لسياسة الحماية، ولا احتجاجها على القوانين المخالفة لأحكام الشريعة، بدليل أن الاستعمار دخل رسميا إلى المغرب منذ 1912 ولم يسبق أن عارضته النخب الحضرية التي ينتمي إليها أصحاب "اللطيف"، والتي، على العكس من ذلك، رحّبت به واستقبلته بالحفاوة والتكريم، وأن سياسة الحماية كان قد مر عليها 28 سنة ولم تناهضها هذه النخب التي كانت، على العكس من ذلك، مستفيدة منها ومتعاونة معها، كما أن مئات القوانين الفرنسية ذات المصدر الوضعي المخالف للتشريع الإسلامي، كانت مطبّقة بالمغرب منذ 1913 دون أن يثير ذلك أية غيرة على الشريعة الإسلامية لدى هذه الأسر الحضرية. وإنما الدافع إلى صنع هذه الأسطورة فهو النيل، ليس من الاستعمار إذن، بل فقط من الأمازيغية والأمازيغ بالزعم أن فرنسا استخدمتهم كأداة سهلة للتفرقة ومحاربة الإسلام، وهو ما أصبحت معه الأمازيغية، بفضل هذه الأكذوبة، ترتبط في الأذهان بالتفرقة والعنصرية والاستعمار والتنصير، مما يبرر شيطنتها ومعاداتها ومحاربتها لأن ذلك يعني محاربة التفرقة والعنصرية. والشاهد الآخر على أن العداء للأمازيغية والأمازيغ هو الدافع الأمازيغوفوبي الحقيقي والوحيد لاختلاق أكذوبة "الظهير البربري"، وليس العداء للحماية وسياستها الاستعمارية، هو تسمية هذا الظهير المختلَق ب"الظهير البربري"، أي نسبته إلى "البربر" وباسمهم الأجنبي القدحي، مع أنه لو كانت الغاية من هذه الأكذوبة هي الاحتجاج على الاستعمار ورفض سياسته الاحتلالية، لكان البديهي والمنطقي والطبيعي أن يُسمّوا "ظهيرهم البربري" بالظهير الاستعماري أو الفرنسي أو التنصيري أو المسيحي أو العنصري... من جهة أخرى، كشف لنا كتاب الأستاذ مونيب، وهذا ما يجهله أو كان يجهله الكثيرون، أن أغلبية أصحاب اللطيف، المشاركين في صنع أكذوبة "الظهير البربري"، كانوا حاصلين على حمايات شخصية أجنبية، بما كانت تعنيه آنذاك هذه الحمايات الشخصية من تعامل الدولة الأجنبية للمحمي، الذي منحته حمايتها، كمواطن تابع لها وخاضع لسلطتها وقوانينها، وغير تابع لسيادة الدولة المغربية ولا خاضع لسلطتها وقوانينها. ولهذا لم يكن بمقدور المخزن المغربي اعتقال المحمي إذا ارتكب جريمة، ولا تفتيش منزله ولا إلزامه بدفع الضرائب المستحقة للدولة المغربية. وحتى سلطات الحماية لم تستطع محاكمة المحميين من أصحاب "اللطيف" لارتكابهم جنحة التحريض على هذه السلطات والدعوة إلى التظاهر ضدها. فكل ما كانت تسمح به الاتفاقيات التي تربط هذه السلطات بالدول الأجنبية المانحة للحمايات الشخصية، هو رفع شكاية بالمحمي المعني إلى القنصلية التي تمثل دولته التي يتمتّع بحمايتها لتتخذ ما يفرضه قانونها هي، وليس القانون الفرنسي ولا المغربي. كل هذا يبيّن أن المحميين كانوا قد تنازلوا عن انتمائهم الوطني المغربي، واختاروا الولاء لدول أجنبية، كانوا يعملون لصالحها كمواطنين تابعين لها. وغني عن البيان أن مفهوم المحمي، بدلالته السياسية والقانونية في ذلك الوقت، والتي كانت تعني الموالي لدولة أجنبية والرافض للولاء الوطني، كان مرادفا للخيانة للوطن والتآمر مع الأجنبي ضد المغرب. الخلاصة أن المحميين لم يكونوا ناقصين في وطنيتهم فحسب، بل كانوا خونة يعملون ضد وطنهم. والمفارقة أن المشاركين منهم في اختلاق أكذوبة "الظهير البربري" سيصبحون رمزا للوطنية بفضل هذه الأكذوبة. وهذا ما فضحه كتاب الأستاذ مونيب وكشف النقاب عنه. ولهذا يكون الكتاب قد أحدث ثورة كوبيرنيكية بخصوص وطنية أصحاب "اللطيف": فبعدما نجحوا في إقناع المغاربة بأكاذيبهم بأنهم كانوا قدوة للوطنية، يقدم الكتاب الدليل القاطع على أنهم كانوا نموذجا لغياب الحس الوطني، حتى لا نقول نموذجا للخيانة والتآمر على الوطن. فالكتاب لا ينصف فقط الأمازيغ المفترى عليهم، بل ينصف التاريخ بتصحيحه وتخليصه من الأكاذيب التي جعل منها "اللطيفيون" شبه مقدسات وثوابت. ولأنه كشف عن الحقيقة، وأزال عنها الزيف الذي كان يخفيها، فهو كتاب ثوري بالمعنى الذي أعطاه "لينين" لمفهوم "ثوري" في علاقته بالحقيقة، عندما قال بأنه ليس هناك شيء أكثر ثورية من الحقيقية. فشكرا لك يا مونيب العظيم، أيها الشهم الكريم الأصيل. لقد أبيت أن لا ترحل إلا بعد أن رحّلت عنا من كان ظالما لنا بالافتراء والافتئات علينا، وأن لا تغادرنا إلا بعد أن خلّصتنا من غدر الكذّابين والأفّاكين، وأن لا تفارقنا إلا بعد أن فرّقت بين الحق والباطل والحقيقة والتزوير، وأن لا تغيب عنا إلا بعد أن غيّبت من كان حضوره مانعا لحضورنا ووجوده عائقا لوجودنا، وأن لا تستريح إلا بعد أن أرحتنا من الكابوس الذي كان يجثم على صدورنا، وأن لا تموت إلا بعد أن أمتّ الوحش الذي كان يُخيفنا ويُفزعنا... ستبقى في التاريخ عنوانا على نهاية أسطورة "الظهير البربري"، التي دحرتها ووضعت حدا لها. (*) هذا المقال هو في الأصل مداخلة شارك بها الكاتب في الحفل التأبيني الذي أٌقيم يوم 7 أبريل 2018 بأكادير تكريما لروح الفقيد الأستاذ محمد مونيب، صاحب كتاب "الظهير البربري، أكبر أكذوبة سياسية في المغرب المعاصر"، والذي وافته المنية يوم 3 دجنبر 2017.