لا طالما وَسَمَ الافتراض والترجيح محاولات من يخوضون غمار ما يعرف ب "علوم التفسير" أو "التفسير المقارن" على اختلاف مكوناتها، وهي مَساعٍ يرمي جُلُّها إلى تبيان وتأويل دلالات بعض الألفاظ والمفاهيم القرآنية ذات الصبغة البلاغية أو "الإعجازية"، أو تلك التي اتفق جمهور العلماء والفقهاء المفسرين على "غيبيتها" أو ما زخر به القرآن من معطيات كأخبار وقصص الأنبياء وغيرهم من الشخصيات القرآنية، تتعذر مواءمتها، بما يكفي من الدقة، مع الحقائق التاريخية المتعارف عليها. ولأن مجالات مثل هذه تثير فئات معينة، وفي بعض المناسبات، الجدل حولها وحول مدى أمانة مباحثها وتحريها الدقة في سعيها إلى تأصيل اللفظ والتعبير القرآنيين، فقد بات من المستصوب على كل من اختار أن يمخر عباب هذه "العلوم"، ويبحر فيها متوغلا في أبعادها، أن يعكف، وكأضعف إيمان، وخاصة في وقتنا الحاضر، والذي تكرست فيه، أكثر من أي وقت مضى، مظاهر التشكك والجنوح إلى "العقلانية"، على مطالعة ومقارنة وتحليل الألفاظ والمفاهيم القرآنية التي يستعصي على الدارس الحسم في معانيها، وبالتالي في مراميها، إما في مختلف السياقات التي وظفت فيها على مستوى الخطاب القرآني نفسه، أو من منطلق النظرية التّناصِية intertextuality، وذلك عبر الفحص والتدقيق في علاقة ألفاظ اللغات الأصلية التي دونت بها الأسفار والكتب القديمة المنزلة، بالألفاظ والمفاهيم القرآنية. ولإيماننا بأن منزل القرآن هو نفسه منزل التوراة والإنجيل والزبور، ولأن النص القرآني خاصة والتراث الإسلامي بصفة عامة كلاهما يُقِرُّ، بكل وضوح وصراحة، ب "إسلام" جميع الأنبياء والرسل أو بالأحرى إسلامهم (خضوعهم) لرب العالمين فإن مقارنة هذه الكتب المنزلة، لا سيما في لغاتها الأصلية، قد يساعد على استشفاف كنه بعض المفاهيم التي استقرت، عن طريق الاقتراض، ولحكمة غابت عنا أو تكاد في كنف اللغة والثقافة العربية، وبتجليات شتى على مستوى النص القرآني، بعد أن كانت جزءا لا يتجزأ من ثقافة وموروث مجموعة من حضارات الشرق القديم. فيما يلي بعض من هذه الألفاظ والمفاهيم: مفهوم الخلَّة الإبراهيمية في القرآن: تتفق العديد من المعاجم إن لم نقل جلها في تعريفها للفظ "خليل" على أنه "الصديق الخالص"، بل وتتأرجح التعريفات العربية لبعض المعجميين والمفسرين لمفهوم "الخلة" بشكل عام بين دلالات شتى من أبرزها: - "تخلل المحبة قلب المحب" - و "الاختصاص بالمحبة" - "الحاجة إلى المحب لسد الخَلَل في قلب المحبوب" - "عدم وجود خلل في المحبة" كما تتعدد الوصفات والنوادر التي اجتهد على أساسها الكثيرون في تأصيلهم لمفهوم خلة النبي إبراهيم. فمن قائل أن علاقة النبي إبراهيم بربه كخليل راجعة إلى موقفه الحازم النابع من توكله لحظة رميه بالمنجنيق صوب النيران الاقتصاصية للملك نمرود وملئه، محجما عن تلبية نداء المدد الملائكي الذي كان يناشده صد ألسنة اللهب عنه. ومن قائل أن اختصاص الله إبراهيم بصفة "الخُلَّة" تعود بداياته إلى استضافة النبي إبراهيم للملائكة الذين أوكل الله إليهم أمر تدمير قرية النبي لوط، فكانوا أول من نعتوا النبي إبراهيم ب "الخليل"، حسب ما روي، وذلك عند سؤالهم إياه عن ثمن "العجل الحنيذ"، ليؤكد لهم أن البسملة عند الشروع في أكل تلك الوجبة والتحميد عند الفراغ منها كافيان! إلى ما ذلك من الفرضيات المختلفة و"الاجتهادات" المتنوعة، والتي تستلزم مختلف ألفاظها وعباراتها عمليات تأصيلية أكثر دقة، مع أخذ السياق التاريخي والبعد المجازي للقصة بعين الاعتبار! وكيفما كان الحال، فإن المرادفة الشائعة لمفهوم "الخلة" في اللغة العربية توافق مفهوم "الصداقة الخالصة"، وهو ما يجعلنا نعزف عن تبني هذا الطرح إذا تعلق الأمر بالسياق القرآني، وذلك حسبما تعبر عنه بعض الآيات القرآنية: "وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا" والآية "وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا". فتصديقا لمضامين هذه الآيات القرآنية، فإن النبي إبراهيم مهما بلغت منزلته، ما كانت لتبوئه عند بارئه مرتبة "الصداقة"، على الأقل بذلك المعنى الذي اقترن بلفظ "خليل" عند المفسرين والمعجميين العرب. كما أنه، وعلى الرغم من أن مدينة "حبرون" (مدينة الخليل) المعروفة قديما باسم "مامرا" والتي بنى فيها النبي إبراهيم، حسب رواية سفر التكوين، "مذبحا للرب"، تعتبر تصغيرا للكلمة العبرية "حابير" (صديق/رفيق)، فذلك لا يعني بالضرورة ترادف مفهومي "الصداقة" و "الخلة" من منظور قرآني. والحال أن تسمية مدينة "حبرون" من طرف النبي إبراهيم أو غيره جاء، حسب بعض المعلقين على التوراة في سفر التكوين، نتيجة تحالف الأموريين سكان تلك المنطقة مع النبي إبراهيم لتخليص بن أخيه، النبي لوط، من قبضة الملك "كَدَرْلَعَوْمَرَ" ملك "عاليم"، حيث يفيد هؤلاء المعلقون أن هذا "التحالف" يراد به "الصداقة" (حابيروت). وبالتالي، ومع أن هناك تقاربا لفظيا بين الكلمتين العبريتين "بريت" (تحالف/عهد) و "حابيروت" (صداقة/رفقة)، إلا أن تشابههما النسبي، على المستويين الصوتي والصرفي، لم يتحقق بالضرورة على أساس العلاقة الدلالية التي قد تجمعهما. من الناحية التأصيلية، ولتبيان أصل مفهوم "الخلّة" العربي واستيعاب دلالته الكنهية، قد بات لزاما مباشرة تفكيك صرفي للفظ "خليل" انطلاقا من الجذر الثلاثي (خ ل ل) والذي انبثق بدوره عن الجذر السامي (ح ل ل). ينبغي الإشارة إلى أن اللغتين الآرامية والعبرية لا تتفقان تمام الاتفاق حول ماهية اللفظ "حلل". فاللفظ الآرامي ܚܠܠ ḥalel "حاليل" يفيد مجموعة من المعاني من قبيل "غسل"، "تطهر"، "استباح"، ومن اللفظ المذكور، فاضت في اللسان العربي كلمتي "تَحَلَّل" (تطهر، تَخَلَّصَ ...) و "حَلَّل" أو "أَحَلَّ" بمعنى "أباح"/"أجاز"، فتحول الصوت ⟨ħ⟩ (الحاء) والذي يعتبر صوتا حلقيا احتكاكيا مهموسا، إلى صوت آخر لهوي احتكاكي مهموس ⟨χ⟩ (الخاء)، ليتمخض عن ذلك لفظ "خليل" أي "المنتقى"، "المجتبى"، "الصفي" أو "المصطفى": "ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين". وينبغي التذكير إلى أن اللفظ العبري חלל "حيليل" ḥilel، وبالرغم من كل ما يتميز به من اشتراك لفظي مع المفردة الآرامية ܚܠܠ ḥalel "حاليل" (غسل، طهارة، جواز ...)، فإن له معنى يتعارض والدلالة التي يحيل عليها المفهوم الآرامي، حيث يوحي اللفظ العبري المذكور ب "التدنيس" و "التنجيس". ويحتمل في هذه الحالة أن يكون هذا اللفظ العبري هو الأصل الذي تفرع عنه اللفظ الآرامي ܚܠܠ ḥalel "حاليل" والعربي "حلال"، أو أن تكون إحدى الألفاظ المذكورة ("حاليل" بالآرامية و "حلال" بالعربية) قد تطورت عن طريق الكناية أو المجاز المرسل انطلاقا من العبرية، حيث يلاحظ تعارض المفهوم العبري (دنس/نجس) مع المفهومين الآرامي والعربي (طهارة، حلال، جواز ...). وبالتالي، فاستنادا للمعطيات الصرفية والمعجمية المذكورة، فإن "الخُلّة" الإبراهيمية التي أشير إليها في النص القرآني هي أبعد من أن تفيد "الصداقة"، وقد لا يطبعها أي نوع من الترادف، اللهم تلك القرابة المعجمية التي قد تجمعها بلفظ "مَوَدَّة"، ولا بأس في هذه الحالة إن ترادفت الخلة والمودة لكون الله قد وصف نفسه ب "الودود". ومن الدلائل الأخرى التي يمكن استقاؤها بخصوص اختلاف مفهوم الخلة الإبراهيمية عن مفهوم التقليدي لِلْخُلّة، الآية القرآنية: "الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ"، والآية: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة"، أي أن الخلة التي قد تجمع بعض الناس هي علاقة هشة مصيرها الزوال والتلاشي يوم البعث. فهل كان الله سيتخذ خليله إبراهيم عدوا وهو النبي الإمام الأمة القانت الحنيف الذي قال عنه ربه: "وإنه في الآخرة لمن الصالحين"؟ !! شمولية مفهوم الملة الإبراهيمية وفرضية استيعابها لسنة الختان: من البديهي أن يستوقف مفهوم الملة الإبراهيمية، بل ويلتبس في ذهن بعض المهتمين باستشفاف مختلف ظلال المعنى التي تحيط بلفظ "مِلَّة"، والتي تجد لها مرادفات ونظائر يكتنفها نفس الحقل المعجمي الذي ترتع فيه مفردات من قبيل "نِحْلَة"، "دِين"، "عقيدة"، "مذهب" ... فلفظ "ملة" في النص القرآني لم يرتبط إلا بالنبي إبراهيم في إشارة إلى حنفيته التي يدعو القرآن إلى اتباعها، حتى كادت كلمتا "إبراهيم" و "ملة" تكونان من المتلازمات اللفظية ! غير أن من شأن البحث في أصل ومختلف اشتقاقات كلمة "ملة"، سواء في اللسان العربي والقرآني أو في أبرز اللغات السامية، أن يدلنا على مجموعة من الحقائق الهامة والمفيدة. فمن الناحية الاشتقاقية، قد لا تخفى على أحد العلاقة المعجمية بين فعل "أملى" (إملاء) وبين لفظ "ملة"، وذلك استنادا إلى اللغتين الآرامية والعبرية. ففي اللسانين الآرامي والعبري، تحيل مفردتي ܡܠܬܐ "ميلتا" melta و מלה "مِلاّه" milah، تباعا، على لفظ "كلمة" والتي جاء منها فعل "أملى" الذي يحتمل أن يكون بدوره أصل كلمة "ملة"، وذلك لأن المرء إذا عهد إليه، بتكليف إلهي، بالتبشير والتأسيس لعقيدة ما، فالغاية تكون هي جمع الأتباع و"المريدين" على "كلمة" واحدة: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" وينبغي في هذه المرة كذلك الاستناد إلى النص التوراتي، لا سيما سفر التكوين، للإحاطة بمفهوم "الملة"، وذلك اعتمادا على مفهوم سامي آخر يشترك لفظيا مع كلمة "ملة" ألا وهو المقابل العبري لكلمة "ختان". فالختان بالعبرية يسمى מילה "ميلاه" milah من فعل מל "مال" mal (ختن) أو ברית מילה "بريت ميلاه" brit milah (عهد الختان). وهي مفاهيم يؤرخها سفر التكوين إلى بلوغ النبي إبراهيم سن التسعة والتسعين، وتغيير اسمه من "إبرام" إلى "إبراهيم"، بعد أن جعله الرب "أبا لجمهور من الأمم" (إني جاعلك للناس إماما). حينها يخبر الرب إبراهيم أنه سيقيم عهدا بينه وبين نسل إبراهيم من بعده ويأمره بحفظ هذا العهد الأبدي عن طريق ختان كل ذكر في اليوم الثامن من ولادته وذلك حتى ينال هو ونسله ومن بينهم النبي إسماعيل ذو الثالثة عشر ربيعا من بعده "أرض غربته كل أرض كنعان ملكا أبديا"! وهو ما يتعارض مع النص القرآني من خلال الآية: "وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين". وبما أن الآية التي تتلوها جاءت في سياق بناء الكعبة "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا"، فإن خطاب الله موجه ليس فقط لذرية إبراهيم "العبرية"، بل وأيضا لنسله "الإسماعيلي"، وذلك من خلال الآية: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ". ويمكن مقابلة عبارة "لا ينال عهدي الظالمين" بتلك الجملة من سفر التكوين: "وأما الذكر الاغلف الذي لا يختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها انه قد نكث عهدي"، وهي عبارة قد يفهم منها أن النبي إبراهيم الذي وصف في سفر التكوين بالعبراني (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا)، لن يظفر بأرض كنعان إلا بختانه وختان ذريته!! فإذا كان الختان شرطا للحفاظ على العهد الذي يورث صاحبه أرض كنعان، ألا ينطبق ذلك العهد كذلك على النبي إسماعيل الذي شمله الختان ولو في سن الثالثة عشرة؟ وهل نفهم من هذه القصة أن "الملة الإبراهيمية" التي أخبر عنها القرآن، هي ذلك العهد المؤسس بالضرورة على الختان، أم أنها لا تعدو أن تكون إشارة إلى حنفية وأسس "الإسلام" التي أرساها النبي إبراهيم، والتي يعتبر الختان إحدى شرائعها: "ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل"؟ الاستواء على العرش وشبهة "الاستراحة": لا تكاد تخلو التفاسير المرتبطة باستواء الله على العرش من نفس الأفكار والفرضيات الرامية إلى الحث على النظر إلى هذا "الاستواء" على أنه ليس "جلوسا"، وإلى أن قبولنا لفكرة أن الاستواء على الشيء يرادف "الجلوس"، ينبغي أن يكون مقرونا بإيماننا بأن هذا "الاستواء" هو من نوع خاص، أي بشكل لا يليق إلا بالله الذي "ليس كمثله شيء" ولا يعلم عنه إلا هو. والحال أن بعض المفسرين يصنفون الاستواء في نفس خانة "الاستيلاء" أو "السيطرة"، وأنه صفة فعلية لله. أما "الاستواء" الذي يتبعه حرف الجر "إلى" فهو يفيد، حسب الكثيرين، الارتفاع والعلو، ويحيل حسب آخرين على القصد والإقبال أي التوجه. غير أن مختلف التعريفات المقدمة من طرف المفسرين لعبارة "استوى على العرش" يتعين على المرء، قبل تبنيها، وإذا كان موقنا بأن الله خلق السماوات والآرض ولم يعي بخلقهن، أن يحرص على التفريق بين "الاستواء" على العرش من منظور قرآني وبين مفهوم "الاستراحة" أو "الجلوس" الوارد في ثاني إصحاحات سفر التكوين، حيث جاء في إحدى المقاطع: وفرغ الرب في اليوم السابع من عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبالفعل، تم في النص العبري توظيف عبارة: וישבת ביום השביעי, מכל-מלאכתו אשר עשה Vayishbot bayyom hashevii, mikal melakhto asher ‘assah "فايشبوط بيوم هاشيفيعي ميكال ميلاختو أشر عاساه" يحيل لفظ ישבת yishbot "يشبوط" على "الجلوس" وهو من الفعل ישב yashav "ياشاف"(ي ش ب) أو לשבת lashevet "لاشفت"(ل ش ب ت)، ومنهما لفظي أو مفهومي "السبت" (اليوم) و "السبات" (النوم). ومن الملاحظ أن الفعل yashav، سواء في ضمير الغائب أو في صيغة المصدر، تقرأ باؤه [b] (صوت شفوي انسدادي) على أنها الصوت [v]، والذي يعتبر صوتا شفويا أسنانيا احتكاكيا. وهذه قاعدة معروفة في النحو العبري، حيث تنطق بعض الحروف العبرية ومنها ב ("باء" بدون شدة على أنه [v]) إذا كان الباء العبري ב مسبوقا مباشرة بحرف علة vowel فإنه بذلك ينطق [v]، وفي هذه الحالة، فإن الحرف ב (ب) في لفظ yishbot (جلس، ارتاح) مسبوق بحرف ساكن وهو ש "الشين"، بينما yash(a)v و lash(e)vet تسبق باؤهما تباعا حرفي العلة [a] و [e]، أي أن باءهما ב ينطق [v]. وللإشارة فإن هناك لفظا عبريا يشبه في نطقه كلمة ישב yashav "ياشاف" (جلس) وهي اللفظة שוה "شافيه" shavé (ش و ه) التي تعني "متساو"، والمشتقة من الجذر الثلاثي " س و ي" والذي يعتبر أصل مفاهيم "الاستواء" و"التسوية" (إتمام الخلق أو التعديل) و (الدك والانبساط). والحال أن الفعل إذا صار مركبا phrasal verb، كما هو الشأن بالنسبة لعبارة "الاستواء على العرش" فإن معناه قد يتغير جذريا. فالأقرب إلى الصواب إذاً هو عدم اعتبار "الاستواء" "استقرارا" أو "جلوسا" وإنما "بسط الله لسيطرته الكاملة على السماوات والأرض التي وَسِعَها كرسيه سيطرة لا يفلت فيها ركن من أركان الكون من قبضته"، وبالتالي، فتنزيها للبارئ العالي، يستحسن إعادة النظر في فرضية "استواء الله على العرش استواء يليق به". ومن هذا المنطلق، هل كان للباء العبري ב الذي ينطق في بعض الحالات [v] دور في اختلاف النص التوراتي عن القرآني حول ما فعله الله بعد الانتهاء من خلق السماوات والأرض، على اعتبار البون الشاسع بين دلالة اللفظين العبريين yashav (جلس) و shavé (متساو)؟ أم أن التباسا قد وقع عند تدوين حرف ו (الواو) vav على أنه ב (باء)؟ للإشارة فإن اللفظ العبري yashav (جلس)، يستمد أصله من اللفظ الآرامي ܬܒ tab "تاب" (جلس)، حيث أن الحرف ܬ (التاء) في هذه الكلمة تحول في العبرية إلى "شين"، فتشكل منه الجذر "ش ب ت". ولذلك فهذا الخلط، سواء كان متعمدا في مرحلة تدوين كلمة ישבת yishbot "يشبوط" أم لا، ينبغي توخي الدقة والتمحيص، بغية عدم الوقوع في كل مرة في سوء تأويل مفهوم "استواء الرحمن على عرشه". الشهر والقمر العرجون: סהר sahar"سهر" باللغة العبرية أو " ܣܗܪܐ" sahra "سهرا" بالآرامية كلاهما يعني "قمر"، وهما لفظان تطورا دلاليا عن طريق الكناية أو المجاز المرسل، لتفيض انطلاقا منهما الكلمة العربية "شهر" (ثلاثون يوما)، حيث تحول الصوت اللثوي /s/ "السين" إلى /ʃ/ "الشين" وهو صوت لثوي "غاري". وتشير آية قرآنية للحمولة الدلالية للفظ "شهر"، والتي ينبغي أن يفهم منها على أن كلمة "شهر" في تلك الآية ترمز إلى ذلك الجرم السماوي التابع للكرة الأرضية: ""فمن شهد منكم الشهر فليصمه". وتشير كلمة "شهر" هنا إلى المرحلة القمرية التي تنذر بصيام شهر رمضان (الهلال)، وليس لتلك المدة من الزمن التي تساوي حوالي ثلاثين يوما. ومن الواضح أيضا أن الكلمة العربية "قمر"، في آية أخرى، لا تحيل بالضرورة على ذلك الجرم السماوي الذي يدور حول الأرض، وإنما يفترض أن يكون منكب الجوزاء والمعروف بحزام أوريون Orion: "والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم". وتعرف المعاجم "العرجون" على أنه عذق أو عنقود النخل، وهو تعبير مجازي وظف في القرآن للإشارة إلى إحدى مراحل تغير شكل القمر. غير أن اللفظ الآرامي ܩܡܪܐqamra "قمرا" يعني "حزام أوريون". ومن المثير أن كلمتي "عرجون" و"أوريون" orion قريبتين لفظيا، وذلك أن في الفينيقية كما في العبرية واليونانية، فإن حرف "إيوطا"، أو الياء اليوناني الأصل، يتم تمثيله صوتيا بالرمز [j]. والحال أن "اليود" العبري أو "الياء" في اليونانية القديمة هو شِبْه حرف علة، يقابل حرف العلة "i" أو الصوت [j]. *باحث في اللسانيات والترجمة والفقه اللغوي المقارن وحضارة الشرق القديم مؤلف كتاب: "التأصيل المعجمي للكلمات العربية والآرامية والعبرية: من التطور الدلالي إلى القرابة اللفظية" (2017)