إذا ما استرجع سيب بلاتر، الذي يستمتع الآن بتقاعده القسري في بلده الأم سويسرا، ذكريات مسيرته الطويلة المثيرة للجدل في إدارة كرة القدم، فمن الغالب انه سيتحسر على الفترة التي بدأت فيها الأمور بأخذ منحىً سيء بالنسبة له وللاتحاد على حد سواء. وبالضبط منذ تلك اللحظة، سبع سنوات مضت، عندما أعلن سيب بلاتر عن أسماء الدول التي نالت شرف تنظيم نهائيات كأس العالم 2018 و2022 من منصة الجمع العام في مقر الفيفا بزيوريخ. لكن الأمر الذي قلب موازين عالم كرة القدم هو اختيار دولة قطر لاستضافة نهائيات كأس العالم 2022 على حساب الولاياتالمتحدةالأمريكية، مما دفع بالأجهزة الاستخباراتية الأمريكية إلى إجراء تحقيقات عالية المستوى كشفت عن مظاهر استغلال النفوذ وممارسة سياسة القوة داخل الاتحاد الدولي لكرة القدم. لقد أثرت تداعيات تلك اللحظة بشكل مباشر وغير مباشر على آلاف الأشخاص، وأدت إلى الكشف عن فضائح فساد عديدة أسفرت عن عقد جلسات استماع لأشخاص رسميين بالفيفا بإحدى محاكم مدينة نيويورك، وإزالة الستار عن مكائد سياسية دبرت على أعلى المستويات في الشرق الأوسط، واستقالة البعض واعتقال البعض الآخر. في نهاية المطاف، أدّى ثقل الفضيحة إلى إقالة بلاتر من منصبه كرئيس للاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) وإبعاده عن ممارسة أي نشاط رسمي متعلق بالكرة المستديرة، ولم يسلم خليفته المرجح آنذاك ميشيل بلاتيني من لعنة التحقيقات التي طالته عقب فضائح الفساد التي اتهم بها. التاريخ يعيد نفسه كان السادس عشر من مارس هو آخر أجل وضعته الفيفا أمام الدول التي تطمح إلى استضافة نهائيات كأس العالم 2026 من أجل إيداع ملفات ترشحها لدى الاتحاد الدولي. ويبدو أن الصراع الحقيقي سينحصر بين طرفين رئيسيين. من جهة، يوجد الملف المشترك المخطط له منذ فترة طويلة ويضم كلا من الولاياتالمتحدةالأمريكية، والمكسيك، وكندا (الولاياتالمتحدة بصفتها الطرف الرئيسي في هذا الملف لأن جل المباريات ستلعب على أرضها)، ومن جهة أخرى، هناك الملف المغربي الذي تم تقديمه للفيفا قبل ساعات قليلة من انقضاء فترة الترشح. وجدير بالذكر أن المملكة المغربية قد أخفقت في أربع مناسبات سابقة لنيل شرف تنظيم نهائيات كأس العالم، منها 1988 عندما فازت الولاياتالمتحدةالأمريكية بفارق ضئيل أمام المغرب لتنال شرف استضافة نهائيات 1994 رغم أن الملف المغربي آنذاك كان مدعوما من طرف العديد من الدول العربية والإفريقية. السيناريو نفسه تمت إعادته لكن لم يكن في صالح أمريكا عندما أخفقت أمام دولة قطر، التي أثبتت عن علو كعب دبلوماسيتها وتسييرها الرياضي رغم صغر مساحتها أمام دولة كبيرة اسمها الولاياتالمتحدةالأمريكية. وانتهى عهد التجربة الفاشلة التي منح خلالها شرف تنظيم نهائيات 2018 و2022 في العام نفسه لكل من روسياوقطر على التوالي، حيث يرجع ذلك بشكل كبير إلى حجم تبادل ومساومات عرفتها الاستحقاقات سنة 2010. وفي هذا الصدد، أصدرت الفيفا تحذيراً في شهر يناير الماضي تحث فيه على ضرورة التحلي بالنزاهة، ونص أيضا على منع الدول المترشحة لاستضافة كأس العالم 2026 من استخدام إغراءات اقتصادية من أجل شراء الأصوات، مع العلم أنه قد تم انتخاب جياني انفانتينو رئيسا جديدا لفيفا بسبب ورقته الرابحة المتمثلة في عزمه على تطهير اللعبة وزيادة عدد المنتخبات المشاركة في النهائيات. وجدير بالذكر أن النهائيات المعتزم إجراؤها سنة 2026 ستكون الأولى من نوعها من حيث مشاركة 48 منتخبا. واعتبر التغيير الكبير في إجراءات التصويت خطوة مهمة نحو مستقبل أفضل؛ حيث تم انتزاع السلطة من اللجنة التنفيذية المؤلفة من 24 شخصًا. وبينما قدم البعض ممن صوّتوا في عام 2010 استقالتهم، فقد تمت إقالة أكثر من 50 في المائة من مناصبهم بشكل مهين بسبب تورطهم في قضايا الفساد. يمكننا أن نقول اليوم إنه تم تسليم السلطة إلى الجمع العام حيث يحصل كل اتحاد من الاتحادات ال 207 لكرة القدم على صوت واحد متساوي الوزن، سواء كان صوت ساموا الأمريكية أو صوت روسيا الاتحادية، في الوقت الذي يمنع على كل دولة مرشحة التصويت. وسيجرى التصويت في مؤتمر الاتحاد الدولي لكرة القدم في 13 يونيو بموسكو، قبل ابتداء كأس العالم في روسيا. ترامب، نقطة ضعف الملف الأمريكي أفاد مسؤول رسمي سابق في الفيفا رافضا الإفصاح عن هويته بأن "ترامب قد مهد الطريق للملف المغربي"، وقال إن لغة الرئيس الأمريكي وسياسته بشأن الهجرة قد ساهما كثيرا في نفور الناخبين الذين من المفترض أن يقفوا مع الولاياتالمتحدة، وإن حظر السفر الذي فرضته إدارة ترامب، الذي استهدف الدول الإسلامية، قد قلص بشدة من نسبة المساندين للملف الأمريكي في آسيا. ومن المحتمل أن تكون الاتحادات في أمريكا الوسطى وأفريقيا قد تخلت بالكامل عن بلاد العم سام بعد أن نعتهم ترامب بدول "القذارة". وتتألف الكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم من 54 اتحادا مقبولين لدى الفيفا، أي إن 53 اتحادا يمكنه التصويت (إلا المغرب باعتباره بلدا مترشحا شأنه شأن الولاياتالمتحدة، والمكسيك، وكندا). وقال آلان روتنبرغ، الرئيس السابق للاتحاد الأمريكي لكرة القدم، الرجل الذي يرجع له الفضل في جعل نهائيات كأس العالم 1994 التي أقيمت بالولاياتالمتحدةالأمريكية تحقق نجاحا اقتصاديا مدويا: "لقد كان باديا أن الولاياتالمتحدة قد قامت بسلام دانك (عبارة تستعمل في رياضة كرة السلة)، لكن تلاشى كل شيء فور تقديم المغرب لملف الترشح"، وأضاف: "حينها دخلت القضايا الجيوسياسية الدولية ضمن حيثيات السباق نحو تنظيم كأس العالم"، مضيفا: "بعض الأشياء التي قالتها الإدارة الحالية أو فعلتها ستثير حتما القلق عند بعض دول العالم، وكما تعلمون، جميع الأصوات متساوية". ولن تكون معاقبة العالم لدونالد جي ترامب السبب الوحيد للتصويت ضد أمريكا الشمالية، فسيكون المغرب من الناحية اللوجستيكية قادرا على تنظيم كأس عالم بإحكام، ويرجع ذلك إلى كونه أقل تكلفة بالنسبة لسفر المشجعين حيث سيكون بإمكانهم التنقل من أجل مشاهدة المباريات فقط عبر القطار. وعلاوة على ذلك، ستكون غالبية الدول المؤهلة إلى كأس العالم على بعد ثلاثة ساعات من التوقيت المعتمد في المغرب. ولا يمكن الحديث عن الترشح لاستضافة كأس العالم دون التطرق للأشخاص الذين يقفون على مجريات الأحداث ويقومون بالتواصل والمفاوضات لصالح الملف المغربي. ومن أبرزهم، مايك لي، خبير التواصل المتمرس الذي يحترف فن العلاقات العامة، حيث سبق أن قدم خدماته لصالح الملف القطري من أجل نيل شرف تنظيم نهائيات كأس العالم 2022. من جهة أخرى، يعتبر هوس المغاربة بكرة القدم جانبا قويا يوحي بأن الأجواء التي ستقام فيها كأس العالم ستكون كروية بامتياز، إلى جانب عن حضور الآلاف من المشجعين أسبوعيا لمشاهدة مباريات البطولة المغربية، ناهيك عن هيمنة الفرق المغربية على الكرة الإفريقية، فقد نصب الوداد البيضاوي بطلا لدوري أبطال إفريقيا وكأس السوبر، وتأهل المنتخب المغربي إلى مونديال روسيا من مجموعة نارية ضمت كلا من ساحل العاج والغابون ومالي، في الوقت الذي لم يستطع فيه المنتخب الأمريكي أن يحجز مكانا له في النهائيات. أوجه الاختلاف في الوقت الذي تمتلك فيه الولاياتالمتحدة ترسانة ضخمة من الملاعب، مازالت البنية التحتية للملاعب المغربية حبرا على ورق فقط؛ إذ يحتوي ملف الترشح المغربي على خطة للملاعب النموذجية، التي ستكون صديقة للبيئة ويمكن فصلها بسهولة من أجل استخدامها بعد انتهاء البطولة. ومن المتوقع أيضا أن يكلف تنظيم كأس العالم المغرب 15,8 مليار دولار، وستنفق خزينة الدولة حوالي 80٪ من هذه الأموال. لكن قبل التصويت الذي سيجرى في شهر يونيو، تعتزم الفيفا إرسال لجنة من أجل مراقبة وتقييم كلتا الدولتين، ثم تقديم تقرير يرتكز بالأساس على البنية التحتية. وقال روتنبرغ: "يجب عدم الاستهانة بالملف المغربي، فقد سبق أن قدموا ترشحهم مرات عدة من قبل ولا يمكن لأحد أن يشك في تصميم المغاربة الآن. لذا لا ينبغي الاستخفاف بهم. تكمن الصعوبة بالنسبة إلى FIFA في تقييم كل شيء قبل أن يتم بناؤه بتكلفة تصل إلى 16 مليار دولار. هل لدى المغرب القدرة على فعل ذلك؟ ربما يعيد التاريخ نفسه. في البرازيل، كانت هناك صعوبة كبيرة في تجهيز البنية التحتية، ولكن لا أحد يمكنه التشكيك في صدق رغبتهم". وأضاف أيضا: "أراد الأعضاء تنظيم كأس العالم في قطر"، وأضاف: "الكل حر في اختيار الأنسب بالنسبة له". وأدت المنافسة غير المتوقعة من المغرب إلى المزيد من التدقيق في ملف أمريكا الشمالية. قبل وقت قصير من تقديم ملف الترشح في الأسبوع الماضي، أعلنت أربع مدن كبرى تخليها عن استضافت النهائيات، وهي مينيابوليس، وفانكوفر، وجلينديل، وأريزونا، وربما الأكثر تضررا، شيكاغو. شعر الجميع بمدى قساوة وصعوبة الشروط التي وضعتها الفيفا لاستضافة الحدث، بما في ذلك الإعفاءات الضريبية والحصانة القانونية وانعدام المسؤولية القانونية وإمكانية شحن كميات غير محدودة من العملات الأجنبية داخل وخارج البلاد. وقال رام ايمانويل، عمدة شيكاغو، وهي المدينة التي استضافت المباراة الافتتاحية في نهائيات 1994، في بيان له: "لا يمكن للفيفا أن توفر مستوى عالٍ من اليقين بشأن بعض المجهولات الرئيسية التي تعرض مدينتنا ودافعي الضرائب للخطر، فقد كان عدم اليقين بالنسبة لدافعي الضرائب، إلى جانب عدم مرونة الفيفا وعدم استعدادها للتفاوض، مؤشرات واضحة على أن مواصلة السعي نحو الترشح لم يكن في مصلحة شيكاغو". وقد تثير فكرة إجراء الانتخابات قبل يوم من بداية كأس العالم في روسيا أيضا مشكلة في ضوء التحقيقات الجارية حول التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية؛ حيث سيكون فقدان الولاياتالمتحدة حق استضافة كأس العالم على الأراضي الروسية بمثابة الضربة القاضية، ومن الواضح أن عالم كرة القدم لم يخل أبدا من مثل هذه المناوشات السياسية. ولم يمر الدور الذي لعبته الولاياتالمتحدة في محاكمة شخصيات على أعلى مستوى في منظومة الفيفا مرور الكرام؛ فقد طالت أصابع الاتهام الملف المغربي أيضا، حيث اتهم المغرب بتقديم رشاوى من أجل استضافة كأسي العالم 1998 و2010. وكان روتنبرغ يعمل كمستشار في ملف ترشح المغرب لعام 2010، وينفي رؤية أي شيء غير مرغوب فيه في ذلك الوقت، وقال: "لم يعط المغرب رشوة لأحد". وقد أصدرت "صنداي تايمز" تقريرا في عام 2015 مفاده أن المغرب كان قاب قوسين أو أدنى من الفوز باستضافة نهائيات 2010، لكنه خسر أمام جنوب أفريقيا بسبب سيل من الفساد والرشاوى. وقال روتنبرغ: "أتمنى ألا تكون هناك أية ألاعيب مادية، أو غير قانونية، أو غير أخلاقية تعصف بعملية الترشح كما في الماضي"، وأضاف: "بالنظر إلى نسبة نجاح الملف المشترك بين الولاياتالمتحدة والمكسيك وكندا وعدم اليقين حول الملف المغربي، ونظرا للفارق الهائل في المنفعة الاقتصادية للفيفا، هل يمكن أن تتجاهل جميع البلدان العوامل الجغرافية والسياسية وتركز على عالم كرة القدم من وجهة نظر كروية؟ في حال لم يحدث أي شيء من هذا القبيل، ستفوز الولاياتالمتحدةالامريكية". كما نفى المتحدث باسم الملف المغربي لاستضافة كأس العالم 2026 جميع الاتهامات السابقة بالفساد حول محاولات المغرب الفاشلة لاستضافة نهائيات كأس العالم عامي 1998 و2010، ووصفها "بمزاعم لا أساس لها"، وأشار إلى أن القيادة والموظفين الذين يعملون في ملف 2026 حديثو العهد ولم يعملوا في حملات سابقة. وقال: "إن قواعد الترشح الجديدة الأكثر انفتاحا وشفافية في التصويت جيدة للفيفا وكرة القدم، ونحن نؤيد ذلك كثيرا." في هذه الأثناء، في سويسرا، لدى سيب بلاتر أيضاً رأي حول التصويت. باعتبار المكتب الفيديرالي للتحقيقات (FBI) مسؤولا على إحالته من منصبه كرئيس للاتحاد الدولي لكرة القدم، فقد صار واضحا أنه سيساند الملف المغربي. وقد أوضح سابقا خلال مقابلة أجراها مع "فرانس بريس" قائلا: "إذا كان المغرب قادرا على تنظيم كأس العالم، فيجب أن يتم اختياره". وقال روتنبرغ: "أنا متفائل جدا بشأن ملف أمريكا الشمالية، لكنني قلق بشأن الترشح المغربي". وقد أدى كل من التحدي المغربي، وشخصية ترامب، والمكتب الفيديرالي للتحقيقات (FBI)، وحتى التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، إلى إضافة عنصر التشويق، إلى تأجيج السباق نحو استضافة نهائيات كأس العالم 2026. *موقع أمريكي متخصص في الرياضة