من منا لم يتحسر ويتأسف عند ولوج أحد مرافق الإدارة العمومية ولا يجد المسؤول، أو يهدر وقته وهو ينتظر على أبواب المكاتب؟ حتى أصبحت هذه السلوكات قاعدة تكرسها عقليات تعيش عسرا كبيرا في هضم ثقافة الحق والواجب، عاجزة عن الاندماج في السياق الحداثي للإدارة المواطنة؛ حتى أصبح تخليق الإدارة حلما عصيا عن التحقيق، بل تعرف صبيبا عاليا من البيروقراطية المحنطة. ففي وقت يكون الفرنسي قد انتهى من عجن خبز الصباح وبيعه، وقام بإعداد خبز المساء؛ ويكون الأمريكي خسر السهم في البورصة واشترى سهما آخر؛ ويكون الإيراني قد أتم المعادلة العاشرة الخاصة بالمخطط النووي...يكون المواطن المغربي مازال في صف الانتظار بالمقاطعة، أو مازال ينتظر الدخول عند مسؤول دائما عنده اجتماعات، فما هي أهم أسباب هذه الأعطاب المزمنة؟..إنه غياب ثقافة الانضباط باعتباره مفتاح السلوك في الدول المتقدمة، وجوهر ثقافة مجتمعها؛ على أساس أن أداء الواجب يسبق دائما المطالبة بالحقوق. والحقيقة أن الانضباط يصعب الرهان عليه في مجتمع يغيب عن أفراده الفهم الصحيح لحدود حرية الفرد التي تنطلق من احترام حقوق الآخرين، ومراعاة المصلحة العامة، واستيعاب وإدراك الخيط الرفيع الذي يفصل بين الحرية والفوضى...فالانضباط هو الجدية والالتزام، والاستقامة في السلوك والأداء، واحترام حقوق الغير؛ وهو يبدأ من الانتصار لقوة القانون، والشعور بأن الجميع سواسية أمامه. وحتى يتحقق الانضباط في الإدارة على المسؤول الأكبر في أي موقع أن يفهم أنه يمثل القدوة في الالتزام بمواعيد العمل، وعدم التمييز في تعامله مع مرؤوسيه؛ ورفضه الكامل للتنازل عن القواعد المنظمة للعمل... وإذا كنا في وطننا نستهدف بناء دولة الحق والقانون فإن السبيل الوحيد أمامنا هو امتلاك القدرة على تغيير أنفسنا لكي يحل الانضباط محل السلبية واللامبالاة، وتسود روح الجدية في العمل، ويختفي التهاون وضياع مصالح الناس. أما الفهم الخاطئ لحرية الفرد فلا نحصد منه سوى تعميق الممارسات الفوضوية التي لا تتوقف تداعياتها السلبية إلا بالإعمال الصحيح للقانون وتطبيقه بصرامة دون تجاوزات لا تخضع للمساءلة والحساب...