شكلت وفاة العالم الفيزيائي الإنجليزي الفذ "ستيفن هوكينغ" خسارة فادحة للعقل العلمي، وذلك بالنظر إلى الإنجازات الكبرى التي ساهم بها هذا العبقري الفريد من نوعه، والذي تحدى الإعاقة الجسدية واستطاع أن يسجل اسمه في تاريخ العلم بمداد من ذهب، وينضم إلى نادي عظماء علم الفيزياء إلى جانب جاليلي ونيوتن وإنشتاين وغيرهم. لذلك كان من الطبيعي أن يحتل خبر وفاته واجهة الأحداث هذه الأيام سواء في الصحافة العالمية أو المنتديات الفكرية التي أجمعت على قيمته وقامته العلمية في الفيزياء النظرية، واحتفت بإرثه العلمي الذي لا ينضب... وحدهم (علماء) "خير أمة أخرجت للناس" إختاروا - كالعادة- أن يغردوا خارج السرب، ويحاكموا هوكينغ بميزان الكفر والإيمان، وكأنهم يمتلكون مفاتيح الجنة والنار. أن تدعو لهوكينغ بالرحمة فأنت آثم ضال في عرف هؤلاء، وأن تتمنى لروحه السلام فأنت من أولياء الشيطان حسب قانونهم. والمبرر لا تخطئه الأذن: إنه كافر. ولا تجوز الرحمة على كافر.... هذا كل ما يهم هؤلاء. إنهم لا ينظرون إلى إنجازات وأعمال وإسهامات العباقرة من العلماء والأدباء والفلاسفة والشعراء والفنانين والمخترعين... إلا من خلال قسطاس الكفر والإيمان. ولأن أبحاث هذا العالم الفيزيائي الكبير جعلته يشكك في وجود الله، ويعتبر العدم هو الحقيقة الوحيدة لما بعد الموت، فإن مشانق جهنم انتصبت لمحاكمته، وأعدت له حفلة شواء في جحيم الكراهية والحقد. بل إن بعضهم كتبوا نعي وفاته بفخر: " نفق ملحد"... وهي عبارة لا تحتاج إلى تعليق، لأنها تحمل كل معاني السفاهة والتفاهة والبلاهة. هؤلاء الذين يوزعون تذاكر الجنة والنار يكفرون الغرب وأفكاره وديموقراطيته وعلماءه وكل قيمه، وذلك بالرغم من أن مختلف تفاصيل حياتهم تؤثثها أفكارهذا الغرب الكافر ولمسة هذا الغرب الكافر وإبداع هذا الغرب الكافر... إنهم يأكلون الغلة، ويسبون الملة. يعيشون في نعيم صنعه الآخرون، لكنهم مع ذلك يعتبرون أنفسهم أفضل من كل الآخرين، لا لشيء سوى لأنهم "مسلمون". معيار المفاضلة هذا يحاول أن يوهمنا بأن التكفيريين، وصناع الموت، وتجار الدين، وفقهاء أهوال القبور الذين يلوثون أسماع الناس في الفضائيات... هم أعلى درجة من كل الذين أفنوا حياتهم هناك في الغرب في البحث والإبتكار العلميين من أجل رفاهية وسعادة الإنسانية في مختلف المجالات والميادين. هذا المنطق العجيب، الذي يحتكر الآخرة وينصب نفسه ناطقا باسم الله، يحكم بالخسران المبين على عظماء مثل لويس باستور وألكسندر فليمنغ وتوماس أديسون وتشارلز بابيج ويوهان غوتنبرغ وستيف جوبز... وذلك بالرغم من كل الخدمات الجليلة التي قدموها للإنسانية. والأدهى من ذلك أن هؤلاء الذين ينصبون أنفسهم أوصياء على إيمان الناس يعانون انفصاما عجيبا، فهم يستهلكون المنتوجات التقنية الغربية ولا يستطيعون التخلي عنها، لكنهم في المقابل يبيعون للسذج بركات بول البعير... يرفضون الحداثة ويشيطنون الغرب ويسفهون قيمه، ولا يلتفتون إلى الإنجازات العلمية الكبيرة التي يصنعها الغربيون إلا لتبرير المنطق الإيماني نفسه. لذلك نجدهم يتسابقون لالتقاط أية إشارة علمية جديدة تسمح لهم بالتسويق لما يسمونه "إعجازا علميا" في القرآن. وقد كانت أبحاث هوكينغ نفسه ملاذا لبعض شيوخ الإعجاز في إظهار مواهبهم في لي أعناق النصوص. هوكينغ كرس حياته للبحث والتفكير في مجاهل الكون، ومساهمته في الفيزياء النظرية لا تقدر بثمن. هذا العبقري الذي عرفه العالم وهو لا يفارق كرسيه المتحرك علم من يريد أن يتعلم أن الإنسان قادر على تجاوز كل الصعاب بالطموح والإجتهاد والشغف، وأن الإعاقة الحقيقية ليست في الجسد بل في العقل. لقد كان يقول: "انظروا إلى النجوم وليس لأقدامكم". وكأني بعبارته هذه يخاطب الآن هؤلاء الذين يملأون العالم ضجيجا بخطابات التكفير والوعيد والكراهية، ولا يساهمون قيد أنملة في رفاهية البشرية وتقدمها أن يرقوا بعقولهم وأفكارهم... رحل هوكينغ عن هذه الدنيا بإنجازات يخلدها التاريخ وتحتفل بها الإنسانية. وموته خسارة يأسف لها كل ذي عقل سليم، لذلك سيظل اسمه محفورا في ذاكرة العلم أبد الدهر، أما الإنفصاميون الذين وضعوا عقولهم في المتاحف فلا حياة لهم ولا عزاء لهم ولا أسماء لهم.