تامكروت قريةٌ صغيرةٌ في حجمها ومعنى اسمها؛ لكنها ذات تاريخ كبير يعود إلى قرون مضت، حيث تأسست فيها إحدى الزوايا الصوفية ذات الأهمية الكبرى في المغرب، وتخرج منها عدد من علماء في الدين، واليوم أصبحت قبلة للسياح المغاربة والأجانب أيضاً. تشير الروايات إلى أن اسمها (تامكروت أصلها تانكاروت) يعود إلى كونها المحطة الأخيرة للقوافل قبل دخول الصحراء الكبرى، وآخرون قالوا إن اسمها يعني بلسان مازغ: "الأخيرة"، في إشارة إلى كونها كانت سباقة في الخير وآخرة في الخير أيضاً. تأسست الزاوية الناصرية على يد الشيخ عمرو بن أحمد الأنصاري سنة 1575 ميلادية، وتضم مكتبة تحوي آلاف المخطوطات التي يعود بعضها إلى مئات السنين، حيث كانت منارة علمية تخرج منها عشرات العلماء والمؤرخين. حين توجهنا إلى الزاوية الناصرية، على بعد 18 كيلومتراً غرب مدينة زاكورة، كانت الرياح القوية تسرع خطى التلاميذ الخارجين للتو من فصول الدراسة، بعد انتهاء الفترة الصباحية، في مقابلهم يتوجه سياح نحو المسجد، حيث توجد الزاوية والخزانة. أصبحت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تولي اهتماماً بالغاً للزاوية، حيث كلفت حارساً إلى جانب نقيب الزاوية ويدعى "خليفة"، وهو من حفدة الشيخ، يسهر صباحاً ومساء على استقبال زوار الخزانة، ولا يسمح بالتصوير إلا بموافقة من وزارة الأوقاف عكس ما كان في السابق. فضاء فسيح وفارغ يفرض صمتاً على المكان.. بعد دقائق، يخرج زوار الضريح بشكل سلسل من القبة، بعدما أمضوا وقتاً من أجل "أخذ البركة من ضريح الشيخ"؛ فيما يستمع السياح الأجانب لشروحات ونبذة عن تاريخ المكان من أحد الشباب الحاضرين هنا. فقدت الزاوية الناصرية الكثير من زخمها العلمي الذي يسعى بعض حفظة القرآن إلى الحفاظ عليه اليوم، وقد باتت اليوم مزاراً يؤمه السياح الأجانب من مختلف أنحاء العالم، للتعرف على إرث تاريخي قديم هو حصيلة أسفار قام بها الشيخ. ومقابل خفوت إشعاع الزاوية الناصرية، تنامت ظاهرة تردد عدد من المواطنين من طالبي الاستشفاء على الزاوية، خصوصاً خلال موسم عاشوراء، حيث يصل عددهم حسب أحد السكان إلى أكثر من ألف شخص من مختلف مدن المغرب. سياق ظهور الزاوية يحكي محمد بن عبد السلام الناصري، في كتاب "المزايا فيما أحدث من البدع بأم الزوايا"، ويقصد ب"أم الزوايا" في عنوان الكتاب الزاوية الناصرية التي يعد المؤلف أحد أبنائها، أنه في ظل الفوضى السياسية التي عرفها القرن السابع عشر ميلادي نجت العلوم الدينية من الغرق في الفوضى بفضل ثلاث زوايا، من بينها الزاوية الناصرية، إضافة إلى الزاوية الفاسية والزاوية الدلائية. ولقد برز التصوف في هذا الزاوية الموجودة في تخوم الصحراء الكبرى بروزاً محايداً شيئاً ما عن باقي الزوايا المغربية، حيث يقول مؤلف كتاب "المزايا في أحدث من البدع في أم الزوايا ": "هذا راجع إلى أن التصوف في هذه الزاوية يقدمه علماء لهم اطلاع واسع بالشريعة أصلاً وفرعاً". ويضيف قائلاً إن تصوف الزاوية الناصرية مبني على مقاييس محايدة لا يستند فيها الشيوخ إلى رواية معلومة ليلقنوها لطلبتهم أو من يريد الدخول في سلك طريقتهم؛ من بينها عدم التقييد بزي خاص، والزاوية الناصرية تعتبر هذا الأمر بدعة، فيما تعتبر الزاوية الدرقاوية فرضا من فرائض طريقتها. الحياد السياسي للزاوية بروز الزاوية الناصرية أواخر عهد الدولة السعدية في عهد السلطان أحمد منصور الذهبي، المتوفى سنة 1603 ميلادية، جعلها وسط أحداث سياسية متغيرة في المغرب، ويشير الكتاب إلى أن "موقف الزاوية الناصرية إزاء أحداث الخلافة السلطانية للدولة العلوية كان محايداً". وأشار محمد بن عبد السلام الناصري إلى أن الزاوية "لم تركب بحر المخزن، ولم ترفع راية الجهاد ضد المحتلين لثغور البلاد، ولم تشارك في رفع صوتها مؤيدة سلطاناً دون آخر" قد وجد أبو علي الحسن اليوسي، تلميذ الزاوية حسب الكتاب، مبرراً لهذا الموقف حتى لا تتهم الزاوية أنهم يقاتلون من أجل السلطة. يبدو جلياً أن الزاوية الناصرية كانت زاوية متفردة بين زوايا المغرب، فقد اشتهرت ببنود خطها الشيخ محمد بن ناصر وتقوم على توصية الملوك وتوجهيه لهم رسائل لتذكيرهم بإحياء السنة وتطبيق كتاب الله والسير على نهج السلف الصالح. كما تشير بنود الزاوية أيضاً، حسب الكتاب، إلى "الأخذ بيد الأمة ومنع ولاتهم من تطاول أيديهم على الرعية بالجور والطغيان، ووجوب العمل بمشورة العلماء الأتقياء وعدم الاغترار بالنسب الشريف". لكن أبرز بند كانت تعتمد الزاوية هو اعتبار الدعاء للملوك على المنابر بدعة، وهي النقطة التي وضعت الزاوية، حسب الكتاب، في حرج؛ لأن ملك البلاد يعتبر هذا "تنطعاً وخروجاً عن المبايعة". الناصري.. باز الكتب يقول محمد السملالي، ابن المنطقة وواعظ تابع للمجلس العلمي المحلي بزاكورة، إن الزاوية الناصرية تامكروت استمرت في العطاء إلى القرن الحادي عشر الهجري مع الشيخين سيدي امحمد بن ناصر وولده أحمد بن ناصر، وهي الفترة التاريخية التي عرفت ازدهاراً وإشعاعاً كبيرين داخل المغرب وخارجه. ويضيف السملالي، في حديث لهسبريس، أن الشيخين أسهما في إنشاء خزانة المخطوطات باستحضار العلماء من كل فج عميق وإحضار الكتب والمخطوطات من جميع الأنحاء، وزاد قائلاً: "سيدي أحمد بن ناصر عند حجه إلى الديار المقدسة عاد بالأحمال حتى لُقب بباز الكتب، أي يصطاد الكتب لجلبها إلى الخزانة الناصرية، وعمل على نسخها بيده وكلف العلماء بذلك". ويشير السملالي إلى أن الخزانة تتوفر على كتب ومخطوطات في الفقه والتفسير والطب والفلك، كما أن مدرسة تامكروت العتيقة أسهمت في السابق في نشر العلم، وعرفت إشعاعاً بداية من القرن الحادي عشر؛ حتى قيل إنها أسهمت في عدم انقطاع العلم في المغرب. ويقول السملالي: "منذ تأسيس الزاوية، عرفت بالتسامح والثوابت المغربية المتجلية في المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية، والتصوف السني وإمارة المؤمنين، وأسهمت في الأمن والأمان والاستقرار، كما أن لها فروع في مختلف مدن المغرب". وبالإضافة إلى مكانتها في خريطة التصوف في المغرب، أسهمت الزاوية أيضاً حسب السملالي في السياحة المحلية، وبات يزورها السياح من جميع أنحاء العالم؛ وهو ما أكسبها شهرة داخل البلاد وخارجه. في السابق، كانت تامكروت محطة القوافل العابرة نحو الصحراء الكبرى، وعرفت في وقت مبكر كنقطة للاستراحة بعد الاستمرار في الرحلة. أما اليوم، فيقصدها السياح بحثاً عن كنوز ثمينة؛ لكن لا يجدون طريقاً نحو المخطوطات القديمة، ولأنها ثمينة، قررت السلطات تشديد المراقبة على هذا الكنز للحيلولة دون فقدانه.