(هامش على دعوة جواد مبروكي إلى التعليم بالدارجة) لو تكلم الناس في ما يحسنون لقل الخلاف. دعاةُ التدريج والمتحمسون له: بين تاجرِ إعلانات مأجور، وفرنكفونيٍّ لا يربطه بالمغرب إلا الجسد، وخبيرٍ في التحليل النفسي للمجتمع المغربي، الله أعلم إلى أي مدرسة نفسية ينتمي، ومغفلٍ حسنِ النية، لا يعي ما يقول ولا يعقل خطورة ما يدعو إليه... وكل أولئك ليسوا من أهل الاختصاص المخولين للحديث عن الخيارات اللغوية للمغاربة، ولا عن مداخل منظومتهم التربوية اللغوية، لكن، وقد تحول البلد إلى فوضى لا يُرجى منها خَلْق ولا خلاص، وقد خلا الجو للبَيْض والصفير والتنقير...: خلا لك الجو فبيضي واصفري ** ونقري ما شئت أن تنقري قد رفع الفخ فماذا تحذري فلا بأس من الإيضاح والبيان: لن أضيّع الوقت في بيان جذور الدعوة إلى العامية الاستخباراتية الاستعمارية، وقد أسيلت فيها أمدَّة بالبراميل (ينظر: نفوسة زكريا، محمود شاكر، عبد القادر الفاسي الفهري، محمد الأوراغي، مصطفى بنحمزة، رشيد بلحبيب، فؤاد بوعلي...). وسأوضح بعض المغالطات أو سوء الفهم الذي تعمى عنه الأبصار، أو تتعامى، عن قصد أو عن غير قصد؛ فليعلمْ الدعاةُ، ومن ليس من أهل الاختصاص: أولا: كل لغات الدنيا، لها مستويات: عالمةٌ، وإعلاميةٌ وسطى، وعاميةٌ دارجة، وكل مستوى يليق بمجاله، ويصلح فيه صلاحا لا يصلح فيه غيره. ثانيا: لا توجد دولة على سطح الكوكب في ما نعلم تُدرس بالمستوى الثالث العامي الدارج، حتى نتخذها نموذجا وقدوة، ونتكئ على خبراتها ومنجزاتها. ثالثا: العامية في المغرب عاميات، تختلف باختلاف الجهات: الشمال والجنوب، الشرق والغرب، الحواضر والبوادي، والحرف والصنائع...ووظيفتُها التواصل اليومي العفوي. ويمكن التدليل على الأمر بنموذج عامي من جهة الشرق.. يقول الحاكي: "واحد الفرخ نيش على واحد البز بمرداية جابهالو فالقليعة وصكرو...وكيجا يفرط ضهصاطو لوطو سمبلية، مولاها راسو داير بحال شيقرطيل، وكي طاح جاديريكت فوك الزونان ديال التقة ديال اللوطو اللي تخمجت.. الموهيم كي جا مولاها تيقرو وشبعو غرد، وعطاه واحد البونية للجدارة...".. أتحدى دعاة التدريج أن يقرؤوا النص قراءة سليمة، وأن يعرضوه على جهات المغرب لمعرفة أيِّ خرَفٍ يدعون إليه. وبأي العاميات يريدون أن نَدْرس ونُدرِّس؟ رابعا: الدعوة إلى العامية دعوة إلى عدم تكافؤ الفرص، وإلى التقوقع المضاعف، والعزلة والتخلف وتكوين شعوب وشعوبيّين داخل الشعب الواحد، وإفساح المجال أمام أصحاب النفوذ ليستريحوا من الأذكياء من أبناء الشعب... خامسا: التدريس بالعامية مطلب استعماري قديم، في كل بلدان المسلمين شرقا وغربا، ومطلب من لا صلة له بالعلم ولا أفق له في البناء الحضاري لأمته، وإلا كيف تدرس القرآن والحديث وروائع الشعر، وعلوم الحياة والأرض... بِلغيَّة غير ممعيرة ولا مخدومة، ولا تملك أدنى مستوى من التأهيل...!؟ ثم بأي عامية ندرس أطفال الشلوح؟ بالعامية العربية أو بالعامية الأمازيغية؟. سادسا: يرفض أهل الاختصاص رفضا مبدئيا في قوانين تعليم اللغات وتعلمها أن تدرس نصوص أي لغة: الفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية... أو تشرح مفرداتها بالدارجة؛ لأنها من نواقض التعلم، ومن مدمرات اكتساب الملكة اللغوية. وإذ نرفض تدريس نصوص اللغات الأجنبية بالعامية، كذلك نفعل مع نصوص العربية، وعلومها. سابعا: موقف الدول من العاميات كان دوما موقفا يحصر استعمالها في التواصل اليومي، بل وسعت الدول المتحضرة إلى محاربة الدوارج واللغيات في الأقاليم، فقد جاء في بيان من مجلس الثورة الفرنسية على سبيل المثال: "أيها المواطنون: ليدفع كلا منكم تسابقٌ مقدسٌ للقضاء على اللهجات في جميع أقطار فرنسا، لأن تلك اللهجات رواسب من بقايا عهود الإقطاع والاستعباد". لأنه بدون لغة موحدة لن تكون هناك دولة قوية، يقول الراهب غريغوار عقب الثورة الفرنسية: "إن ... تسليم زمام الإدارة إلى أشخاص لا يحسنون اللغة القومية يؤدي إلى محاذير كبيرة...فيترتب على الثورة -والحالة هذه -أن تعالج هذه المشكلة معالجة جدية، وذلك بمحاربة اللهجات المحلية، ونشر اللغة الإفرنسية الفصيحة بين جميع المواطنين". ثامنا: بعض الدول كانت أكثر شراسة في مواجهة العاميات، مثلما حدث في نشر الفرنسية بُعيد الثورة الفرنسية، حيث تولىRobespierre وl'AbbéGrégoire مهمة إرهاب الناس في لغتهم، أو ما حدث في محاكم التفتيش في إسبانيا، حيث كان يُقطع لِسَان من يتحدث بغير الكاستيان (الإسبانية)، أو ما حدث فيInquisition Iowa سنة 1918 في الولاياتالمتحدة، حيث منعت الحكومة المحلية الحديث في الفضاءات العمومية بغيرالإنجليزية... تاسعا: إذا كانت الفرنسية عاجزة عن مواكبة التطورات السريعة للعلوم، واستسلمت أكثر جامعاتها ومعاهدها العلمية المتخصصة للإنجليزية، وإذا كانت اللغة العربية بزعم هؤلاء عاجزة عن المواكبة والتطور، وتعاني من الخصاص في المصطلحات...فهل ستكون العامية التي تعاني فقرا مدقعا على جميع المستويات بديلا عن العربية في التعليم؟. عاشرا: يشترك مع زمرة دعاة العامية، الفرنكفونيون والمثقفون ثقافة خارجية، الذين يشرفون على الأطاريح في العاميات المغربية، المحررة باللغة الفرنسية، فأي عصيدة وخلطة هذه؟...ولماذا تحرص مختبرات فرنسا اللسانية على البحث في العامية المغربية؟. حادي عشر: أثبتت الدعوة إلى العامية، والتعليم بها، تهافتها، وضيقَ أفق أصحابها. وقد تراجعَ كبار الدعاة إلى العامية عن دعواتهم، وأعادوا كتابة مسرحياتهم ومؤلفاتهم الإبداعية بالفصحى.. ينظر فعلُ محمود تيمور وأحمد تيمور باشا... ثاني عشر: يكفي ردا على دعاة العامية أنهم يدعون إليها كتابة وتنظيرا، بالعربية الوسطى أو الفصيحة، ولا يجرؤون على ذلك بالعامية!. ثالث عشر: الدعوة إلى العامية فيها مخالفة صريحة للدستور المغربي، الذي ينص على اللغتين الرسميتين للبلاد. رابع عشر: همسة في أذن الخبير في التحليل النفسي، وتعقيب سريع على أقواله: يقول: "ليس هناك بلد عربي يكتب ويدرس اللغة التي يتكلمها شعبه في حياته اليومية، مثل ما في الدول الغربية، حيث لا تباعد بين اللهجات المحكية واللغات الوطنية الرسمية". أتعرف لماذا؟ لأن الغرب اشتغل بمحو الأمية، وفي وطنك أزيد من 50% من الأميين، والغرب رقّى اللغة الجامعة، وفي وطنك ابتلينا بمن يجرنا إلى الوراء ويريدنا شعوبا وقبائل. والغرب يعتمد على أهل الاختصاص في النهوض بلغته، وفي وطنك يتحدث كل من هبّ ودبّ، فيما شاء، وكيف شاء... يقول: "المغربي تحمله أمه بالدارجة، وتضعه بالدارجة، وتستقبله "القابلة" بالدارجة، وترضعه الأم بالدارجة...". وهل تعتقد أن الطفل الفرنسي تلده أمه، وتستقبله القابلة بلغة موليير؟ والطفل الإنجليزي تلده أمه، وترضعه بلغة شكسبير...؟ هؤلاء تلدهم أمهاتهم باللغة الدارجة المتداولة...لكنهم يتعلمون بلغة موليير وشيكسبير...ولا يوجد منهم من يطالب بتعليمهم بلغة القابلة؟. يقول: "لو قام التعليم بالمصالحة مع الدارجة، ووظفها في مخاطبة وتعليم الطفل بالمدرسة، فإنه بذلك لن يصعقه بمشقة لغة غريبة عليه...ولا تتحول "المطيشة" إلى طماطم و"الليمون" إلى برتقال و"الموس" إلى سكين و"الخْدّْيَة" إلى وسادة واللون "القهوي" إلى بني". هذا كلام سوقي لا يمكن أن يصدر عن خبير، ففوق كونه خطابا طائفيا تنكريا لدستور المملكة، يصف اللغة العربية الدستورية التي صوت على رسميتها جميع المغاربة: بالغريبة.. وهذه كارثة ونكوص يستدعي خبرة نفسية لتقييمه وتقييم صاحبه...مع ما يستبطنه من جهل بمستويات الأداء اللغوي، وبأصول الألفاظ التي استنكرها، ف"الكوزينة" فرنسية، والليمون ليس هو البرتقال عندنا، والخدية والمخدة ما يوضع الخد عليه، ويسمى وسادة، والموسى والسكين كلاهما عربي، والبن، والقهوي نسبة إلى القهوة التي لونها بني... وأزيدك من الشعر بيتين: فالبوطة، والشايط من الطعام والشياط، وتشييط الطنجرة، والتكة، والبنة، والطاسة، والطنجير، وتنهت، واللجام، والصريمة، والبردعة...والتفطفيط الذي في البحث...ونوض تروح...كلها عربية، وتعليمها لا يمثل أي صعقة للتلميذ إلا في مخيلة تفتقر إلى الإبداع واللياقة. *أستاذ الدراسات اللغوية جامعة محمد الأول، وجدة