يحيل عنوان المقال إلى عملية الانتقال الثقافي للأفكار والممارسات والمعتقدات والتي يرتبط وجودها بوجود الإنسان في هذا العالم منذ بداية التاريخ. دخلت كلمة "ميم" meme في المعجم الغربي منذ سبعينيات القرن الماضي على يد عالم البيولوجيا ريتشارد دوكين سنة 1976 في كتابه "الجينة الأنانية". تم ابتكار هذه الكلمة على منوال كلمة "جينة"Gene للتعبير عن معنى خاص بالتطور الثقافي للمجتمعات البشرية. إذا كانت الجينة وحدة بيولوجية لنقل المعلومات الجينية الخاصة بالجسم البشري، فإن الميم هي وحدة ثقافية تنقل الأفكار والمعتقدات والسلوكات. يعتقد عالم البيولوجيا بأن فكرة الانتقال البيولوجي للخاصيات الجينيةDNA للجسم البشري تتم عبر التاريخ بين جسم وآخر [أب، أم، الأولاد] وبين الأجيال ويَخضع هذا الانتقال لما يسميه تشارلز داروين "الانتقاء الطبيعي"، والذي يصف خضوع هذا الانتقال للمحيط وللمؤثرات البيئية. على شاكلة العالم البيولوجي، تنتقل الأفكار والمعتقدات والممارسات عبر وحدة ثقافية تسمى "الميم" والتي تنتشر وتترسخ أو تختفي حسب التقليد والاستمرارية أو القطيعة في عملية التقليد. منذ بداية التاريخ، كان الإنسان هو الحامل والمفعل لهذا التقليد والذي كان يتم شفهيا، بصريا وبعد ذلك عبر وسائط كالكتابة والإعلام البصري والإلكتروني. تطورت الأفكار والممارسات والمعتقدات عبر هذه الطريقة وما زالت خاضعة للعملية ذاتها وإن بوسائط مختلفة. فكرة الله، ونهاية العالم، والسحر والشعوذة، والفلاحة والطب الشعبي والأكاديمي وطرق اللباس والأكل، والإرهاب وغيرها استمرت وتغيرت عبر التاريخ بفعل هذا النوع من التقليد. تطورت الثقافة البشرية عبر التقليد الذي يحمل في طياته اختلافا نوعيا قد يتغير بتغير تاريخ الشعوب وبالظروف التي تساعد انتشار أفكار ومعتقدات دون غيرها. تختلف المعتقدات الدينية والممارسات الثقافية حسب الظروف التاريخية لمجتمع معين، من حيث إن أفكارا تترسخ في مجتمع ما وتندثر في مجتمعات أخرى. إن منطق التطور الثقافي يشبه إلى حد ما التطور البيولوجي، وقد يكون الأول أكثر سرعة من الثاني. إذا كان الانتقاء الطبيعي هو الذي يحدد أي الخاصيات البيولوجية تستمر في الوجود من خلال تأثير المحيط الطبيعي، فإن تطور الأفكار والمعتقدات يخضع لنوع من الانتقاء الثقافي الذي يخضع للتطور التاريخي وعلى ملاءمة الأفكار أو عدم ملاءمتها للمحيط الاجتماعي والسياسي وللظرف التاريخي. يحيل عنوان كتاب دوكين "الخلية الأنانية" إلى سلوك بيولوجي للخلية، حيث إن ما يهم الخلية هو إعادة إنتاج نفسها والتوالد. وبالمعنى نفسه فإن ما يهم الأفكار في وجودها هو التكرار وإعادة الإنتاج والتوالد. إذا كان انتقال الخاصيات البيولوجية من جينة إلى أخرى تعوضها ليس انتقالا دقيقا من حيث إنه يمكن أن تحدث أخطاء أو تغييرات خلال عملية الانتقال، فإن الأفكار تخضع كذلك للعملية نفسها من حيث إن الأفكار تتغير، بطريقة مفارقة، خلال عملية التقليد؛ لأن مفعل التقليد يختلف عن الحامل الأصلي للوحدة الثقافية من حيث الفهم والمعتقدات والاستعداد العاطفي. إذن، فالتغيير النسبي يرافق التقليد كما قد نلاحظه في عملية اللباس، أو الأكل؛ لكن هذا التغيير التاريخي قد يكون بطيئا في أغلب الأحيان ولا يغير أحيانا من جوهر الفكرة أو المعتقد. في عصر ثورة المعلومات وظهور وسائط إلكترونية جديدة، تستمر عملية التقليد وتظهر جليا عبر وسائط التواصل الاجتماعي حيث تنتشر الأفكار والمشاعر والممارسات والمعتقدات بسرعة غير مسبوقة. الأفكار بطبيعتها هي مجردة وتنتقل بطريقة غير مادية وتنتشر أحيانا كالنار في الهشيم [هذا التعبير هو نموذج لميم استعاري لغوي يستمر في الوجود] لكن آثارها تظهر في الواقع في السلوك الاجتماعي للناس وفي الظواهر الاقتصادية وفي الممارسات السياسية وغيرها. يتخذ انتقال هذه الأفكار أشكالا حاملة للميم كالهاشتاغ مثلا، أو الصور أو الرموز التي تُنشر وتَنتشر بسرعة على مواقع التواصل الاجتماعي عبر التقليد [مع إضافة تعليق أو سخرية، قد لا يغيران من جوهر الفكرة]. لكن تلقي هذه الأفكار هو الذي يحدد المدة التي تستمر خلالها هذه الميمات في الوجود، أي أنها تخضع لعملية انتقاء من لدن رواد هذه المواقع. هناك ميمات صمدت واستمرت في الوجود ماديا عبر النشر ورمزيا بتخزينها في الذاكرة الجمعية وتحويلها إلى مرجع أو رمز لحدث معين. يمكن للقراء أن يحيلوا إلى أمثلة من هذا القبيل كميمات علال القادوس، طحن مو، أمي عايشة، النوام في البرلمان، وغيرها كثير. لكن من وجهة نظر نقدية، نهتم أكثر بمعنى هذا الانتقال إلى الوحدات الثقافية التي نسميها الميم من حيث آثارها على تطور الثقافة المغربية، خصوصا أن هذا التقليد يتم أحيانا بطريقة عفوية ودون تفكير في حيثيات التقليد وبدون وجود مبررات خاصة لدى مُفعِّل ذلك التقليد. قد نطرح أسئلة أكثر مما نعطي أجوبة؛ لأن الموضوع تتداخل فيه ميادين بحث مختلفة. ما يهمنا فعلا هو أن نثير انتباه القراء إلى وجود ظاهرة تواصلية وثقافية تؤثر فعليا في المشهد الثقافي والسياسي وتساعد أحيانا على انتشار أفكار غير مفيدة لتطور الثقافة بل تؤخره وتجعل المجتمع يدور في حلقة مفرغة ويخضع في منطق تطوره لصدف التاريخ ولتطور المجتمعات الأخرى وتأثيرها عليه. إذا كان طبيعيا أن نقلد الآخر، فلماذا نقلد البعض ونستثني آخرين؟ من نقلد [طبقة، فئة اجتماعية، مهنية أيديولوجية، جماعة اثنية...]؟ ولماذا نقلدهم؟ كيف يصبح التقليد "محركا" للتطور الثقافي؟ ما علاقة التقليد بالإبداع؟ هل للتقليد سلطة ومن يستفيد من هذه السلطة؟ لماذا وكيف يمنع المجتمع تقليد أفكار لا تتماشى مع القيم السائدة؟ وما نوع هذه الأفكار؟ قد تتوالد الأسئلة وقد نضيع في متاهة السؤال. لذا، أقدم تصورا يضع هذا التقليد في سياقه المحلي الخاص. أرى أن التقليد ضرورة اجتماعية وثقافية وأن له سلطة تخدم النظام الذي يتأسس عليه، سواء الاجتماعي العرفي أو السياسي والثقافي، أي أنه يتأسس داخل بنية سلطة معينة؛ لكن التقليد إذا كان مقابلا للإبداع، أي يرفضه ويقاومه، لا يساعد على التطور الفعلي للثقافة. لكن ما يهمني أكثر في هذا الصدد هو انتشار التقليد بطريقة غير مسبوقة على مواقع التواصل الاجتماعي في ظل صعود ظاهر للثقافة الشعبية ولهيمنة الجانب العاطفي والتواصلي [التفاعلي] على الجانب المنطقي والنقدي في الثقافة الرقمية. فانتشار الميمات يتم عبر التماثل والتماهي العاطفي مع الآخر والرغبة في تجنب التهميش من طرف الرواد الآخرين لهذه المواقع. ما يقع في هذه المواقع يشبه أحيانا الانتشار المعدي للأمراض كالزكام. فالأفكار تنتشر بسرعة فائقة وتُقلد بدون معرفة نقدية لحيثيات خلقها وضرورة انتشارها. ما يقع يشبه مثلا الانتشار الوبائي للخوف في تجمعات جماهيرية. فعندما يلاحظ الناس نظرة الخوف في أعين الآخرين فمجرد صيحة من أحد الناس تخلق الهلع وينتقل الخوف بسرعة فائقة دون وجود دليل أو تفسير منطقي لوجود خطر ما لدى الناس الذين يكون الخوف قد سيطر عليهم. على هذه الشاكلة، تنتقل الأفكار عبر التماهي العاطفي في أغلب الأحيان في مواقع التواصل الاجتماعي وفي غياب تام للتحقق من صحة خبر، فكرة أو انتقاد. هناك أمثلة كثيرة على ذلك فكثير من الأخبار والأحكام تكون غير مؤكدة وغير قابلة للتحقق من صحتها تنتشر بسرعة وتؤدي إلى هلع وانتشار أفكار مغلوطة أحيانا. هذا الوضع يغري الفاعلين السياسيين[النخب الحاكمة والمعارضة السياسية وجماعات المقاومة الشعبية] باستثمار هذا التقليد الميمي والمتحكم فيه عاطفيا وغير القابل للتبرير المنطقي للقيام بحملات ضد الخصوم السياسيين. يدفع هذا الوضع الثقافة إلى حالة من السطحية والهشاشة النقدية وانتشار الأفكار المنفصلة تماما عن الواقع. طبعا الحقيقة هي موضع تنافس، لكن الوضع الحالي يرجعنا إلى زمن الدعاية والتفكير الجماعي وثقافة القطيع، بدل تثبيت الثقافة في زمن النسبية الديمقراطية وتأكيد الفردانية والإبداع والفكر النقدي والتعبير عن الذات. ما يحصل حاليا على هذه المواقع هو تكوُّن قبائل إلكترونية تتبنى موقفا موحدا، بالرغم من التنويعات في الشكل ضد أو مع جهة معينة في غياب للفكر النقدي. ختاما، إذا كان التقليد ضرورة اجتماعية وثقافية، فمن الأجدر أن نقلد عن وعي ما يُحسِّن من ثقافتنا وممارساتنا، سواء الاجتماعية والدينية والسياسية. إذا خضع التقليد للعاطفة وافتقد إلى الحس النقدي والتاريخي، فمن الأكيد أننا لن نتقدم بالشكل المطلوب عالميا نحو الديمقراطية النقدية المواطنة وسنبقى نقلد أحيانا من هم أقل منا ثقافة ووعيا وحسا نقديا. هيمنة الثقافة الشعبية والتفاعل العاطفي وتراجع الثقافة النقدية يهددان بثورة في الاتجاه المقلوب، وقد لا نجد فيلسوفا يقلب الدياليكتيك من جديد. *أستاذ باحث بجامعة أبي شعيب الدكالي