خلال شهر غشت الماضي أعلن الرئيس التونسي أن بلاده تعتزم إقرار قانون جديد يفعل المساواة بين الرجل والمرأة في الإرث. ولم يتأخر رد المؤسسة الدينية كثيرا رغم ترحيب دار الإفتاء التونسية بالفكرة، لكن الأزهر عارض مسألة إعادة النظر في الإرث بقوة، وأصدر بيانا شديد اللهجة يهاجم فيه مبادرة السبسي واصفا إياها ب"الفكرة الجامحة التي تستفز مشاعر الجماهير المسلمة"... قبل ذلك وابتداء من أكتوبر 2015عرف المغرب نقاشا حادا حول الموضوع نفسه، وذلك بعد التوصية التي دعا فيها المجلس الوطني لحقوق الإنسان إلى تعديل مدونة الأسرة "بشكل يمنح للمرأة حقوقا متساوية مع الرجل في ما يتصل بانعقاد الزواج وفسخه وفي العلاقة مع الأطفال وكذا في مجال الإرث ". حينها هاجم حزب العدالة والتنمية الإسلامي التوصية المذكورة ، واعتبرها " دعوة غير مسؤولة، وخرقا سافرا لأحكام الدستور". ليس مهما الوقوف في هذا المقام عند ردود الفعل التي تصدر عن هؤلاء الذين يمنحون لأنفسهم الوصاية على الدين في الحالتين معا، لكن من الواضح أن تقدم النقاش المجتمعي حول قضايا المرأة في المغرب وتونس وغيرهما من البلدان "الإسلامية" يقتضي إشراك فقهاء التشريع الإسلامي في أية محاولة للإصلاح من أجل الوصول إلى صيغ قانونية تحقق مطلبي المناصفة والمساواة دون أن تصدم الشعور الديني للمجتمع. وهذا يعني أننا نحتاج لجرأة فقهية تحقق الاجتهاد الحقيقي الذي تقتضيه متطلبات العصر الذي نعيش فيه. وهو ما يعني ضرورة إعادة النظر في فيتو " لا اجتهاد مع النص" الذي يرفع في وجه كل محاولة لتجديد وتطوير وتحديث الخطاب الديني. وذلك رغم أن "فقه النوازل" يعد مدخلا أساسيا لتحقيق مطلب الإجتهاد ... وإلا فكيف امتلك عمر بن الخطاب جرأة تعليق العمل بحكم شرعي يقضي بقطع يد السارق في السنة التي تعرف بعام الرمادة؟. من الواضح أنه فعل ذلك لأنه استطاع أن يتجاوز منطوق النص القرآني دون أن يتناقض مع منطق هذا النص ومقاصده. فقد عطل العمل بحد قطع يد السارق، حيث الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في ذلك الوقت ساهمت إلى حد كبير في انتشار ظاهرة السرقة، لأن كثيرا من الناس لم يجدوا سبيلا آخر لسد رمقهم. وهو ما كان من شأنه لو تم الإلتزام بمنطوق النص القطعي أن يؤدي إلى مجتمع يعاني نصف أعضائه من إعاقة جسدية. لذلك فإن عبقرية الخليفة الراشد عمر بن الخطاب كانت حاسمة في التعاطي مع الحكم الشرعي بما يحفظ صحة المسلمين وينسجم مع المقاصد العامة للتشريع الإسلامي، وخصوصا في ما يتعلق بحفظ النفس... لقد أصبح حد قطع يد السارق متجاوزا اليوم في معظم الدول الإسلامية، وذلك بسبب إقرار بدائل أخرى للعقوبة تعمل بها القوانين الوضعية في العالم بأسره. لكن هل يمكن التعامل مع موضوع الإرث بنفس المقياس؟. هل يمكن إلغاء حكم فرضه النص القرآني في ما يتعلق بتقسيم الإرث؟. مرة أخرى يصطدم الأفق الحقوقي للعلاقة بين الرجل والمرأة مع الشعور الديني المؤطر لهذه العلاقة، لذلك من الطبيعي أن يثير هذا النقاش جدلا واسعا كلما تمت إثارة الموضوع. وبدل أن يتصدى من يسمون ب"علماء المسلمين" لمثل هذا النقاش ويرفضونه جملة وتفصيلا، ويعتبرون أنفسهم ذوي الاختصاص الذين يدركون القطعي والظني، ويرفضون أن يخوض " العامة" في مثل هذه المواضيع... بدل كل هذا إذن ينبغي أن يساهموا في هذا النقاش بالإيجاب لا بالسلب. وما أحوجنا في هذا الباب إلى الإقتداء بجرأة فقيه مغربي عاش في القرن السادس عشر الميلادي، وكان سباقا إلى إثارة حق المرأة في الإرث من خلال فتواه الشهيرة التي تعرف ب" فتوى الكد والسعاية". إنه الفقيه ابن عرضون الذي ينتمي لقبيلة "غمارة" بضواحي شفشاون. وقد لاحظ بأن نساء القبيلة يتكبدن أعباء كبيرة، ويمارسن أشغالا شاقة داخل البيت وخارجه، وهذا يعني أنهن يساهمن في إعالة أسرهن وتنمية اقتصادها، لذلك رأى أن هذا الجهد الذي تبذله المرأة ينبغي أن يكافأ حتى لا يضيع حقها في حالة طلاقها أو وفاة زوجها. ومن هنا جاءت تسمية الفتوى ب" الكد والسعاية". أي أنها مرتبطة بوضعية تفرضها حالة المرأة العاملة . يقول نص الفتوى: "سئل أبو عبد الله سيدي محمد بن الحسن بن عرضون عمن تخدم من نساء البوادي خدمة الرجال، من حصاد ودراس وغير ذلك. فهل لهن الحق في الزرع بعد وفاة الزوج لأجل خدمتهن، أو ليس إلا الميراث؟ " فأجاب بما أجاب به الشيخ القوري، مفتي الحضرة الفاسية، والشيخ الإمام ابن غازي، قائلين: " إن الزرع يقسم على رؤوس من نتج عن خدمتهم، زاد عليها مفتي البلاد الغمارية جدنا سيدي أبو القاسم خجو: على قدر خدمتهم، ويحسبها من اتفاقهم أو تفاوتهم، وزدنا أنا – العبد الله- بعد مراعاة الأرض والبقر والآلة، فإن كانوا متساوين فيها أيضا فلا كلام، وإن كانت لواحد حسب له. والله تعالى أعلم" . ينبغي التذكير هنا ان الفتوى المذكورة كانت متناغمة مع الأعراف الأمازيغية التي كان معمولا بها في سوس وغمارة على الخصوص، والتي كانت تمنح للمرأة حقها لقاء ما تقوم به من أعباء خارج البيت، وهو ما يعرف ب " تمازولت". وواضح أن ابن عرضون أنصف المرأة وحفظ حقها ولم يهدر جهدها في بناء الأسرة وإعالتها، وذلك من خلال منح النساء نصيبهن من ثروة البيت كاملا ومساويا لما يحصل عليه الرجال... وقد تعرضت فتواه لرفض عارم من طرف فقهاء زمانه من الفاسيين على وجه التحديد. ومع ذلك يظل هذا الفقيه المجتهد والمجدد محطة مضيئة في تاريخ الفقه المغربي، لأن الشرق لم يعرف أبدا مثل هذه الجرأة التي عبر عنها ابن عرضون. وهو يقدم مثالا لمشاركة الفقيه في تدبير الشأن العام ليس من باب الوصاية والتحكم ورفع يافطة الحلال والحرام، بل باعتباره متنورا وواعيا بطبيعة مجتمعه وحاجياته. وهذا يعني أن هذه الفتوى تقدم أساسا عقلانيا وواقعيا متينا يمكن الإنطلاق منه من أجل المساهمة في إغناء النقاش حول نظام الإرث، وخصوصا ما يتعلق بنصيب المرأة، وكذا من أجل التأسيس لفقه مغربي متقدم ومتجاوز لتكلس الفقه المشرقي القروسطوي. وهي تمثل نافذة يمكن فتحها في كل نقاش يخص التشريعات والقوانين المرتبطة بالحرية والمساواة، والتي لا ينبغي أن يحكمها فهم ديني منغلق وثابت، بل يجب أن تستجيب لحركية المجتمع وديناميته وحاجياته، ولمتطلبات المدنية الحديثة. ويبدو أن إحياء ابن عرضون أصبح ضرورة ملحة، لأننا نعيش في عصر أصبحت فيه المرأة تتقاسم أعباء البيت مع الرجل وتساهم في اقتصاد الأسرة. أما في البوادي فمازالت المرأة تشارك مع الرجل في الحقول، وتتحمل مسؤوليات مضاعفة كل يوم، لكن ابن عرضون الذي أنصفها في القرن السادس عشر الميلادي ليس حيا بيننا اليوم. ملاحظة: نص الفتوى ورد في مجلة زمان. فبراير 2016. العدد: 28. ص: 63.