ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علاقتنا بالآخر بين التواصل والإقصاء
نشر في هسبريس يوم 03 - 01 - 2018


مقدمة
مازالت علاقتنا بالآخر المختلف عنا عقائديا أو إثنيا أو مذهبيا يشوبها الكثير من الجهل والتعالي المفضي في غالب الأحيان إلى تبني مواقف وأحكام إقصائية جاهزة قد تصل إلى حد العنف من خلال نشر خطاب مفعم بالكراهية يقوم بالعزف على أوتار بعض الصراعات التاريخية كالحروب الصليبية التي دارت رحاها بين المسلمين والمسيحيين خلال القرون الوسطى أو التدخلات التي تقوم بها بعض الدول الإستعمارية في أوطان المسلمين، والتي تقودها أيضا بعض الحركات المتطرفة كالصهيونية العالمية التي لا تختلف كثيرا في ممارساتها ودعواتها عن تلك الجماعات التكفيرية التي نشرت الفوضى والخراب باسم الدين في المنطقة العربية.
الأثر المسيحي في الحضارة الإسلامية
وبغض النظر عن الحروب الصليبية التي يعود إليها البعض في كل حين لتبرير مواقفه العدائية و المتطرفة من أتباع المسيحية، فقد لعب المسيحيون دورا كبيرا في إشعاع الحضارة الإسلامية. حيث استعانت بهم كل الدول التي عاش في كنفها المسلمون على اختلاف مذاهبها وأعراقها.
فقد ساعدت القبائل المسيحية الجيش الإسلامي في الكثير من المحطات بدءا من مصر، حيث كان للأقباط دور كبير في بناء أول أسطول بحري إسلامي، كما أقاموا عددا من دور الصناعة في كل من الإسكندرية وتونس والشام. واستفادت منهم الدولة كثيرا في إنشاء وإدارة الدواوين وتعريبها حيث أبقاهم الأمويون على رأس وظائفهم، وكذلك فعل العباسيون والفاطميون بعد ذلك في مصر.
فقد اتخذ معاوية سرجون بن منصور رئيسًا للديوان في عهده، وقنان بن متَّى كاتبًا، وابن أثال كطبيب. وعين المأمون العباسي اسطفان بن يعقوب مديراً لخزينة الدولة، كما قلد مسيحيا آخر ديوان الجيش. ومنهم من تقلد الوزارة كسعيد بن ثابت في العصر الأموي، وعيسى بن نسطور الذي كان وزيراً في بلاط المعز لدين الله الفاطمي، كما كان نصر بن هارون النصراني وزيرا لعضد الدولة.
وقد كان منهم أيضاً حرفيون مهرة، شارك عدد غير قليل منهم في بناء الجامع الأموي الكبير، الذي أمر ببنائه الوليد بن عبد الملك. ومن شعراء البلاط الأموي اشتهر الأخطل وكان ثالث أشهر شعراء العصر الأموي في «النقائض» مع جرير والفرزدق.
وبفضلهم ازدهرت الحركة العلمية خلال العصور الأولى للدولة الإسلامية، حيث اشتهر يعقوب الرُّهاوي الذي تَرجم كثيرًا من كتاب الإلهيَّات اليونانيّ، وكان له فضل كبير في تعليم الناشئةِ من المسلمين بعد أن أفتى رجالُ الدِّين من النصارى بأنَّه يحلُّ لهم أن يُعلِّموا أولادَ المسلمين التَعليمَ الراقي. وهذه الفتوَى تدلُّ من غير شكٍّ على إقبالِ المسلمين، منذُ ذلك العصر، على دراسةِ العلوم والفلسفة على أيدي هؤلاء المعلمين. وخلال العصر العباسي كان لهم دَور كبيرُ في نقلِ الفلسفةِ والعلوم إلى العربيَّة، حيث استفاد العرب كثيرا من خبرات وعلوم المسيحيين السريان الذين كانوا يحملون لواء الثقافة اليونانية والبيزنطية فكان لهم بذلك الفضل الأكبر في نجاح عملية التَرجمة التي نشطت خصوصا بعد تأسيس بيت الحكمة.
وقد قام أبو جعفر المنصور باستقدام الطبيب جورجيس بن بختيشوع إلى بغداد. وظلت أسرة "بخت يشوع" ثلاثة قرون تتمتع بمكانة كبرى لدى الخلفاء العباسيين ووزرائهم وعلمائهم، بعد أن استفادوا من علمهم في الفلسفة والطب واللغات، مما أسهم في بناء صرح الحضارة العربية الإسلامية التي ازدهرت في القرون الوسطى .
ومن بين أبرز علماء هذه الأسرة يوحنا بن ماسويه، الذي عينه المأمون رئيسا لبيت الحكمة، أكبر مؤسسة ثقافية علمية بمعايير ذلك العصر. حيث تتلمذ على يد هذا العالم مسيحي آخر هو حنين بن اسحق الذي آلت إليه الرئاسة من بعد يوحنا، ليصبح أشهر المترجمين لكتب الفلسفة الإغريقية كأعمال جالينوس وأبقراط وأرسطو والعهد القديم من اليونانية أو السريانية إلى العربية. وقد أشاد بفضلهم الدكتور عبد الرحمن بدوي في موسوعة الحضارة العربية الإسلامية. وقد كان لترجمتهم كتب الفلسفة إلى العربية أثر كبير في تطور الفلسفة الإسلامية وظهور "فرقة المعتزلة" التي تعد من أبرز الفرق العقلانية في تاريخ الإسلام.
وقد وصف الجاحظ وضع المسيحيين خلال العصر العباسي قائلا: "إن النصارى متكلمين وأطباء ومنجمين وعندهم عقلاء وفلاسفة وحكماء.. وإن منهم كتّاب السلاطين وفرّاشي الملوك وأطباء الأشراف والعطّارين والصيارفة.."
الأدوار المسيحية خلال النهضة العربية الحديثة
أما في عصر النهضة العربية الحديثة، فقد اضطلع المفكرون والأدباء المسيحيون بدور متميز في الثقافة العربية الإسلامية فكانوا أول من رفع لواء القومية العربية عاليا ضد سياسة التتريك العثمانية. وكانوا أول أدخل المطبعة إلى البلدان العربية (مطبعة دير قزحيا في لبنان ثم مطبعة حلب عام 1706). كما ساعدوا منذ منتصف القرن التاسع عشر على نشر التعليم وتأسيس المدارس العربية. حيث برز في تلك المرحلة المعلم بطرس البستاني مؤسس أول مدرسة عربية حديثة، وأول معجم عربي مطول حديث باسم "محيط المحيط"، و أول موسوعة عربية جامعة منذ عام 1875"دائرة المعارف" مع كل من ناصيف اليازجي وابراهيم اليازجي، وأول صحيفة عربية راقية أسماها "نفير سورية". كما أنشأ الأب لويس معلوف أول معجم عربي مختصر سماه "المنجد"، كان وما يزال مرجعا ضروريا لجميع الدارسين والكُتاب العرب في مختلف المراحل.
وقد خرَّجت المدارس والجامعات المسيحية (كالجامعة الأمريكية في بيروت عام 1866 وجامعة القديس يوسف عام 1875) عددًا وافرًا من أعلام العربية كجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة (من رواد الرابطة القلمية التي تأسست في نيويورك بأمريكا) ومي زيادة وأمين الريحاني وشفيق معلوف.. ومن الشعراء إيليا أبو ماضي وخليل مطران والأخطل الصغير، مما أدى إلى انتعاش الحركة الفكرية.
ومن هؤلاء المسيحيين الذين قدموا عطاءات ثمينة للمكتبة العربية الكاتب الكبير جورجي زيدان مؤسس "مجلة الهلال" في عام 1892، التي ما تزال تصدر في القاهرة، وقد ألف العديد من الكتب ككتاب "تاريخ العرب قبل الإسلام"، كما اشتهر برواياته التاريخية الشيقة التي أعادت تسليط الأضواء على حقب متفرقة من التاريخ الإسلامي. والعالم الكبير شبلي شميل، وسليم تقلا مؤسس صحيفة الأهرام منذ عام 1875، وفارس نمر من مؤسسي المجلة الذائعة الصيت، "المقتطف" التي تخصصت في البحوث العلمية والفكرية والأدبية الراقية منذ عام 1876..
كما لعب المسيحيون العرب أدوارًا طلائعية في كل من المسرح والصحافة والعمارة والموسيقى والتصوير والسينما..ليس فقط في العالم العربي، بل في دول المهجر كأمريكا (الرابطة القلمية) وعدد من الدول الإسلامية كتركيا وإيران..
و من جملة المسيحيين الذين لعبوا دورا كبيرا في الثقافة العربية والفكر العربي المعاصر، والكفاح الوطني :سلامة موسى وأنطون سعادة وقسطنطين زريق، وجورج طرابيشي وجورج حبش وميشيل عفلق وناصيف نصار ولويس عوض وفؤاد زكريا و أديب إسحاق وغالي شكري وجورج صليبا وأنطوان فرح.. حيث لعب هؤلاء وغيرهم دورا أساسيا في نقل مفاهيم الدولة الحديثة إلى العرب، كمفاهيم الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والحق بالتعليم وتحديث الدولة. كما أسهموا في تأسيس جمعيات قامت بنشاطات ثقافية تنويرية وسياسية واسعة، بدءاً من أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وعارضوا الاستعمار والتدخل الأجنبي، ونادوا بالوحدة العربية وأكدوا اعتزازهم بانتمائهم القومي.
وفي المجال العلمي حازوا على جوائز عالمية واعترافات دولية بإسهاماتهم الفريدة (إلياس خوري الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء وبيتر مدور الحائز على جائزة نوبل في الطب من المورانة وطوني فاضل وهو أحد مخترعي مشغل آي بود وهاتف آي فون..).
وعلى الصعيد الاقتصادي يذكر أن أثرى رجل في العالم هو الماروني المكسيكي اللبناني الأصل كارلوس سليم الحلو، وكارلوس غصن رئيس شركة نيسان ورينو ونيكولا حايك رئيس شركة سواتش. كما وتحتل أسرة أنسي ساويرس رأس قائمة أغنى أغنياء مصر، وذلك حسب التصنيف السنوى الذي تصدره مجلة فوربس. و وفق تقرير حكومي عام 2007 فإن أكثر من 30% من الاقتصاد المصري يديره أقباط..
وهكذا فقد لعب المسيحيون قديما وحديثا الكثير من الأدوار الطلائعية التي لا يمكن بأي حال من الأحوال إنكارها، من حيث إسهاماتها الفريدة في إشعاع الحضارة العربية والإسلامية. وهو الأمر الذي يتجاوزه اليوم للأسف الكثير من دعاة التطرف والإقصاء من بين المسلمين، خاصة من أتباع المدرسة السلفية الذين يحمل غالبيتهم نظرة ازدرائية تجاه باقي الأديان والتيارات والمذاهب المخالفة لهم، والتي ساهمت بشكل أو بآخر في بناء صرح الحضارة الإسلامية الغنية بتنوعها الثقافي، متمسكين في ذلك بتراث أحادي النظرة موروث عن سلف مختار بعناية من الحنابلة والحشوية.
علاقتنا بأهل الكتاب بين القرآن والخطاب المتطرف
يؤكد القرآن الكريم في الكثير من آياته على ضرورة التواصل والانفتاح والتسامح مع الآخر المختلف. سواء كان من داخل دائرة الإسلام، كقوله تعالى: " وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ .." (آل عمران-103) أو من خارجها كقوله تعالى: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" (آل عمران-64).
كما أمرنا بالبر إلى أهل الكتاب (اليهود والنصارى) من خلال قوله تعالى: "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" (الممتحنة-8). بل ذهب إلى حد إباحة الزواج بالكتابيات، بقوله تعالى: "الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنّ" (المائدة-5). ومن أبسط أعمال البر تهنئتهم بأعيادهم وأفراحهم، خاصة أن هذا الأمر لا يعارض جوهر الدين في شيء ولا يناقض ركنا أو سنة. وقد جاء الرسول (ص) ليؤكد ذلك من خلال بناء علاقات طيبة مع اليهود والنصارى الذين وجدهم في المدينة. ولم يشهر السيف إلا في وجه من حاربه منهم كالروم أو يهود خيبر خارج المدينة أو من خانه منهم كيهود بني قريظة داخلها.
مما يدعونا اليوم إلى التأمل في عدد من المواقف المتطرفة و الإقصائية التي يتبناها خصوصا دعاة وفقهاء السلفية الوهابية. هذا التيار الذي أصبح يشكل أكبر عائق يحول اليوم كما كان أجدادهم من الحنابلة وفقهاء الظاهر من أتباع ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب يحولون بالأمس دون الوقوف على حقيقة الإسلام وتعاليمه السمحة، بتفاسيرهم وفتاواهم ومواقفهم المنحرفة عن جوهر هذا الدين، الموغلة في إشهار العداء ضد الآخر إلى حد تكفير كل من خالف مذهبهم سواء كان من داخل دائرة الإسلام كالمتصوفة والشيعة أو من خارجها كالمسيحيين وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، مما يدفع أتباعهم بين الفينة والأخرى إلى تنزيل هاته المواقف والفتاوى على أرض الواقع من خلال الهجمات الإرهابية التي تتعرض لها دور العبادة والكنائس خصوصا في عدد من الدول التي يتعايش فيها المسلمون والمسيحيون جنبا إلى جنب كمصر التي يعاني فيها الأقباط بشكل دوري من مثل هاته التصرفات الرعناء لأتباع هذا التيار المتطرف!
لقد أدى تمدد هذا التيار في العالم الإسلامي إلى انحسار ثقافة الفرح والسرور وانتشار الضغينة والأحقاد بين المسلمين من مختلف المذاهب وبينهم وبين غيرهم من أتباع الأديان الأخرى، بعد أن نصبوا أنفسهم أوصياء على الدين وشرعوا في توجيه عقول الأغلبية إلى ما تفتقت عنه قرائح شيوخهم من فتاوى منافية في أغلبها لجوهر الإسلام ولروح العصر، بعد أن عملوا على تعطيل دور العقل في مقابل النص. هاته المعركة التي ربحوا رهانها بعد تكفير الفلاسفة وإخراج الفلسفة من مناهج وأدوات الإجتهاد الفقهي.
فهم لا يحرمون فقط مشاركة أهل الكتاب في احتفالاتهم أو تهنئتهم بمناسباتهم الأثيرة1، بل يعارضون أيضا إحياء الكثير من المناسبات الدينية كذكرى المولد النبوي والأعياد الوطنية والعالمية. ولهم منطق غريب في الإستدلال على مواقفهم، حيث يعمدون إلى لي أعناق بعض النصوص القرآنية، ويقدمونها بتفاسير غريبة لبعض السلف، كقوله تعالى: "وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاما" (الفرقان-72). قال مجاهد في تفسيرها: إنها أعياد المشركين، وكذلك قال مثله الربيع بن أنس، والقاضي أبو يعلى والضحاك!
كما يتبنى غالبيتهم فتاوى ابن تيمية الذي يصفونه بشيخ الإسلام، والذي اشتهر بفتاواه العنيفة ضد كل من كان يخالف اجتهاداته العقدية2. حيث يقول في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم)1/528(: "فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر، بل إن الأعياد من أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره"!
ومن فتاواه ضد أهل الذمة من أهل الكتاب: “والمدينة التي يسكُنها المسلمون، والقرية التي يَسكُنها المسلمون وفيها مساجدُ المسلمين لا يجوز أن يَظهر فيها شيءٌ مِن شعائر الكُفر، لا كنائس ولا غيرها، إلاَّ أن يكون لهم عهدٌ فيُوفى لهم بعهدهم.. لا يُشير على ولي أمْر المسلمين بما فيه إظْهار شعائرهم في بلادِ الإسلام أو تقوية أمْرهم بوجهٍ مِن الوجوه إلا رجل منافِق يظهر الإسلام، وهو منهم في الباطِن، أو رجل له غرَض فاسد!!”
وهكذا فقد بات من الواجب على النخب المتخصصة في الفقه والتفسير والحديث مراجعة أصول هذا التراث المتناقض ومواقف رجاله التقليديين، بعرض مثل هاته الفتاوى والمواقف على ميزان القرآن والعقل الحصيف بروح منفتحة على العصر وما حققته الحضارة الإنسانية من مكتسبات. من أجل العمل على تقليص الهوة الساحقة التي تفصلنا عن الكثير من دول العالم المتقدم (كاليابان وكندا والدول الإسكندنافية) التي باتت تعلمنا الدروس في التسامح والتواصل والانفتاح على الآخر في إطار حرية الإختلاف والتنوع الذي يميز روافد الحضارة الإنسانية بشكل عام. أما الخطاب الإقصائي والمتطرف كيفما كان دينه أو مذهبه فهو خطاب متجاوز وعدمي ومصيره إلى مزبلة التاريخ.
1- كان الأندلسيون وسكان بعض مناطق المغرب الأقصى يحتفلون بالعديد من الأعياد المسيحية لاسيما مولد المسيح عيسى (ع) و رأس السنة و مولد نبي الله يحيى (ع) والفصح. و كانوا يعدون لذلك الولائم و يلبسون أحسن الثياب و يتبادلون التهاني وينظمون الأشعار وما إلى ذلك من مظاهر البهجة. و قد أثار ذلك انتقاد العديد من الفقهاء الذين كانوا يعتبرون هذه الطقوس بدعا تهدّد هوية المسلمين ومعتقداتهم، لذلك حاربوها بشتّى الوسائل..أنظر الونشريسي، المعيار المعرب والعزفي، الدر المنظم.
2 -أنظر مقالنا في نفس الجريدة: جذور التكفير في الإسلام-2 : https://www.hespress.com/writers/339054.html
*باحث في اختلاف المذاهب الإسلامية
[email protected]
www.sarhproject.com


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.