بملابس ممزقة متسخة ومهترئة أحيانا، وبنيات جسدية قوية، وأحذية بالية تكتسيها أكوام من الغبار، وبصوت تغلب عليه نبرة حزن مصطنع يطلب العطف، بأحياء العاصمة وبكل مدن المملكة، يتخذ متسولون الشوارع والأزقة مقرات "عمل" لهم. يبدؤون يومهم بتقمص الشخصيات منذ طلوع الفجر وينتهون بعد منتصف الليل، منهم من يستعمل علب الأدوية حجة لتسوله ومنهم من يدعي إصابته بالسرطان، ومنهم من يوهم المارة بأنه سوري نازح من الحرب... قصص متعددة ومختلفة، والهدف منها طلب الرأفة كي تمد يدك إلى جيبك وتخرج منه بعض القطع النقدية التي يحدد قيمتها عادة الشحاذ وتمنحها إياه، ليغرقك بعدها بدعوات الخير والنجاح التي تترك أثرا في نفسك، من قبيل "الله يفرجها عليك". هم أناس محترفون يمتلكون ملايين العقارات، بعدما صار التسول تجارة مربحة لا تبور مع مرور الأيام بالمغرب..يستعمل الكثير منهم رأفة الناس بهم وأريحية البعض الآخر لتكديس الأموال يوما بعد يوم، أو بتغيير الأماكن والمدن أحيانا، والهدف جمع أكبر عدد من الأموال لحماية النفس من غدر الزمن ونوائب الدهر. ينتقلون من "طي الرّجل أو الذراع بشكل بارع إلى درجة يتخيل للناس أن الرجل فعلا ذو عاهة ويستحق الرحمة، إلى اكتراء أطفال ذوي إعاقات مختلفة، ثم طرق أبواب البيوت بعد ارتداء هندام محترم وطلب المعونة على أساس أن لديهم ميتا بالبيت"، كلها طرق تمثيلية كاذبة يتقمصها المتسولون بشوارع المملكة لإيهام الناس بأنهم يستحقون الصدقة. التسول الإلكتروني استفحلت ظاهرة التسول عبر الشبكات العنكبوتية في السنوات الأخيرة، وتعددت وسائلها، حيث لجأت عدد من الأسر التي تعيش أوضاعا اجتماعية صعبة إلى استعمال مختلف وسائل التواصل الاجتماعي لطلب مساعدات مادية إلكترونية بوضع حسابها البنكي، وخداع الفئة المستهدفة أحيانا بقصص أقرب إلى الخيال العلمي. وانتقل التسول من الأزقة والشوارع إلى مواقع التواصل الاجتماعي، حيث ظهر مجموعة من المرتزقة الذين أنشؤوا صفحات على "فيسبوك" للاغتناء باستغلال معاناة الناس والنصب باسم حالات إنسانية، وكسب مال كثير ومضاعفة رصيدهم البنكي؛ ناهيك عن الحالات التي تستعمل مآسي أفراد أسرها ومعاناتهم لكسب عطف يدر عليها المال الكثير. وتركز تلك "المافيات"، حسب الأخصائية النفسية لمياء بنشيخي، في تصريح لهسبريس، "على قصص وهمية مأساوية كتوفير متطلبات الحياة لشخص مصاب بمرض خطير عبر إنشاء حسابات وهمية تركز على الجانب العاطفي للمغاربة، ليتبين بعد ذلك أن القصد هو جمع تبرعات هائلة". متسولون بالفطرة في كل مكان تذهب إليه لقضاء أغراضك الشخصية يعترض طريقك أناس تحس بأنهم يشاطرونك الألم نفسه ويتقاسمون معك الاحتياج نفسه. وحسب الأخصائية النفسية المذكورة فإن تلك الفئة "ترتدي أقنعة في كل مكان؛ فمثلا في إشارات المرور يعرض عليك المتسول شراء مناديل ورقية، بينما تجد أناسا يطلبون مصاريف لإجراء تحاليل طبية أو ما شابه بأبواب المستشفيات..كلها أساليب يتخذها المتسول للنصب على المغاربة". وحسب بنشيخي فإن "المتسول غير سوي نفسيا ويعاني من اضطراب الشخصية، لأن الإنسان السوي مقيد بضوابط اجتماعية وثقافية ويصعب عليه التخلي عن مبادئه واتخاذ التسول للربح السريع والاغتناء". وتتحول عملية التسول في الكثير من الحالات إلى عملية سطو وتهديد للسلامة الجسدية باستعمال السلاح الأبيض. وتفيد المتحدثة لهسبريس في هذا الصدد بأنه "لا يمكن توقع ردة فعل المتسول بالفطرة في حالة رفض منحه بعض القطع النقدية، فهو إنسان وجد أبويه يمتهنان التسول، وله القابلية لفعل أي شيء والتحول في لحظة إلى مجرم خطير"، وفق تعبيرها. تسول هوليودي بحرفية كبيرة توحي لك بأن الماثل أمام تخرج من مدرسة هوليودية لصناعة أفلام الدراما، تضيف الأخصائية النفسية، "يتقمص المتسول شخصية لمدة زمنية محددة ليلبس بعدها قناعا آخر، لكنه يتحول إلى مجرم خطير يمكنه ارتكاب جرائم خطيرة إذا واجهته بأنه الشخص نفسه الذي سرد عليك ذات يوم قصة معينة وكنت ضحية لنصبه واحتياله". ويتذكر المغاربة جيدا حكاية "الجيلالي"، البالغ من العمر 67 سنة، والتي تناقلتها وسائل الإعلام بشكل كبير قبل سنوات، حينما استغل فقدان بصره وامتهن التسول، واتخذ من محطة سيارات الأجرة الكبيرة موقعه الدائم، يدافع عنه بكل قواه حتى لا ينافسه أحد المتسولين في طلب رزقه، ورغم توسلات ابنيه المقيمين بأمريكا، وامتلاكه لمنزل من ثلاثة طوابق، رفض "التقاعد" عن عمل مارسه طيلة 20 سنة. ومن أشهر الحالات أيضا حالة سيدة تصدرت ذات يوم عناوين أخبار شاشة التلفزيون المغربي، إذ عثرت السلطات على مبلغ مالي كبير مخبأ تحت الأرض لصاحبة كوخ، وهي متسولة مسنة اعترفت بعد تعرض كوخها لحادث حرق أن المال نتيجة عمل شاق في التسول. ومازال الرأي العام المغربي يتذكر جيدا حالة مشابهة لامرأة متسولة منحدرة من مدينة السطات، وجدت الشرطة مبلغا ماليا ضخما لديها بعد وفاتها، احتاج أفراد الشرطة لعده أزيد من 24 ساعة بالتناوب بينهم، لكون المبلغ الذي وجد ببيت المتسولة عبارة عن نقود معدنية صغيرة القيمة، البعض منها لم تعد تتداول في السوق، لكنها ظلت محتفظة بها، الأمر الذي أكد أنها كانت تمتهن هذه الحرفة منذ زمن. عيد المتسولين يعتبر المتسولون يوم الجمعة يوما استثنائيا، ففيه تتضاعف مكاسبهم، بعد أن يتزاحموا أمام المساجد والمقابر من صلاة الفجر وحتى غروب الشمس، لجمع المال والأكل والملابس وغيرها من الصدقات التي يجود بها المحسنون. للمتسول خصوصية نفسية أنه "شخص ضعيف يحقد على المجتمع ويطلب العطف من فئات المجتمع، ظنا منه أن ضحية إهمال مجتمعي؛ وهو ما تزكيه الأخصائية النفسية في حديثها لهسبريس قائلة: "تصطف أعداد كبيرة منهم في أبواب المساجد يوم الجمعة، ويتلون آيات قرآنية تحدث عن التصدق، وهو أسلوب يستخدمونه لوضع المتصدق في وضعية حرجة".