يعتبر المؤتمر الثامن من أخطر ومن أعقد مؤتمرات حزب العدالة والتنمية، الأمر الذي جعله يجذب كل الأنظار. والقارئ لسياق عقد المؤتمر وكيفية تدبير أشغاله وتحدياته ونتائجه سيدرك مدى التغيرات التي بدأت تطرأ على بنية الحزب وخطابه وسلوك أعضائه، خصوصا بالنسبة للذراع الدعوية القوة الهادئة والضابطة لتوازن الحزب وحمايته من أي انشقاق نتيجة هيمنته على كل أجهزة الحزب الذي يتميز ببنياته الداخلية المتماسكة مقارنة مع باقي الأحزاب السياسية المغربية الأخرى. لكن، رغم ما يميز هذا الحزب من انضباط وتنظيم وتخطيطات محكمة وتحكمات داخلية، فإن مؤتمره الثامن أفرز مؤشرات مفادها أن الحزب قد فاز تكتيكيا في هذا المؤتمر، لكن استراتيجيا هناك عدة افتراضات بتعرض الحزب لهزات داخلية لسبب بسيط هو أن العثماني يقود حكومة هجينة تعيش على إيقاع الأزمات الداخلية في ما بين مكوناتها من جهة، ومن جهة أخرى يترأس الأمانة العامة للحزب الذي يعيش على إيقاع سوء الفهم الكبير بين أجهزته وصقوره قبل عقد المؤتمر وأثناءه وبعده، وهو ما يشير إلى أن "بيجيدي" ولاية بنكيران لن يكون هو "بيجيدي" ولاية العثماني على مستويات التواصل السياسي والتنظيم والانضباط والشعبية والكارزماتية والشجاعة السياسية. وهذا هو ما سنحاول مقاربته في هذا المقال. مؤتمر كل المخاطر والرهانات والتحديات مثّل المؤتمر الثامن محطة فاصلة في تاريخ الحزب، لأنه أول مؤتمر ينعقد على إيقاع الانقسامات والتطاحنات بين صقوره وأجهزته؛ لذلك عقد المؤتمر- ولأول مرة- بدون جلسة افتتاحية وبدون حضور ضيوف وبدون حضور الصحافة أثناء محطة التداول، لأن سياقه لم يكن عاديا بعد إعفاء بنكيران وفرض الاتحاد الاشتراكي بالحكومة على العثماني وتمكينه من رئاسة مجلس النواب، وهو الحزب الذي احتل المرتبة السادسة ب 20 مقعدا في انتخابات 7 أكتوبر، إضافة إلى انقسام المؤتمرين بين جناحين حول الولاية الثالثة لبنكيران الذي كان ظله حاضرا بقوة بالمؤتمر مما جعل من خطابه خطاب الحسم وإخراج المؤتمر والحزب إلى بر الأمان لكونه كان مؤتمر كل المخاطر والرهانات والتحديات. بنكيران رجل التوازنات ومنقذ الحزب من الانشقاق شكلت كلمة بنكيران بالمؤتمر كلمة الحسم في توجيه أشغال المؤتمر وتجنيبه أي انشقاق أو أي انشطار، خصوصا بعد تأكيده أمام أنصاره وخصومه أن وحدة الحزب وإنجاح المؤتمر والحسم في انتخاب أجهزة الحزب هي خطوط حمراء، وبأنه ملتزم بقرارات أجهزة الحزب؛ لذلك لم يثر الجدل القانوني حول الولاية الثالثة، مؤكدا أن فقدان الحزب لشخص بنكيران أمر عاد لكنه سيربح مؤسسة، وهذه هي سياسة ومواقف الكبار في السياسة، خصوصا في زمن الأزمات، ليتنفس المؤتمرون الصعداء ويتوجهون إلى صناديق الاقتراع التي أفرزت مفاجآت غير متوقعة. انتخابات المؤتمر والنتائج غير المتوقعة ساد ترقب كبير بالمؤتمر أثناء عملية تصويت أعضاء المجلس الوطني ال 275 على المرشحين للأمانة العامة التي أفرزت مفاجأة: العثماني: 180 صوتا. الأزمي: 110 أصوات. العماري: 60 صوتا. الرميد: 47 صوتا. أفتاتي: 44 صوتا. الرباح: 42 صوتا. المعتصم: 34 صوتا. العمراني: 32 صوتا. المثير في النتيجة هو فوز الأزمي بالرتبة الثانية من بعد العثماني رغم كونه ليس من المؤسسين لحركة التوحيد والإصلاح وليس من صقور الحزب، مقابل تقهقر الرميد والرباح إلى المرتبتين الرابعة والخامسة، وما لهما من دلالات عميقة سياسيا وتنظيميا، وهما الزعيمان اللذان قادا الانقلاب على بنكيران. نتيجة التصويت وثنائية العثماني/ الأزمي فوز الأزمي بالرتبة الثانية كان مفاجأة، مما جعل كل مخططات أنصار العثماني تفشل لاعتقادهم أن الأزمي هو امتداد لفكر بنكيران؛ وهذا ما جسدته تدخلات 133 عضوا التي أكدت هوة الخلاف بين أنصار العثماني وأنصار الأزمي في وقت التزم فيه بنكيران الصمت أثناء عملية التداول وإن كان قلبه مع الأزمي، ليترك ابنيه سمية بنكيران وأسامة بنكيران يدافعان-بشدة-عن ترشيح الأزمي. وقد صبت جل المداخلات في نقد تشكيلة الحكومة وفرض الاتحاد الاشتراكي على الحزب وعلى ضرورة أخذ المسافة بين رئاسة الحكومة ورئاسة الحزب، في حين ذهب أنصار العثماني إلى دعم حكومته لأن في ذلك دعما للحزب. وبعد دخول المؤتمرين إلى عملية التصويت، أو ما يسمى في أدبيات الحركات الإسلامية بعملية "التداول"، انقسموا إلى ثلاثة توجهات: الأول تيار الاستوزار وقيادات حركة التوحيد والإصلاح، وهم مع العثماني. الثاني يضم كل الشخصيات التي تدبر الشأن العام وتتخوف من وقوع بلوكاج ثان قد يعصف بالحزب، وهم يؤيدون العثماني. والثالث هم أنصار الأزمي ويضم الشبيبة الحزبية وأنصار بنكيران. وأمام هذا الانشطار في مواقف المؤتمرين، مر أنصار العثماني بمرحلة عصيبة، ليتدخل العثماني في آخر لحظة بكلمة قوية غيرت موازين القوى لصالحه بعد تلويحه بتقديم الاستقالة من الحكومة إذا لم ينتخب أمينا عاما للحزب؛ وهو ما منحه الفوز ب 1006 أصوات مقابل 912 صوتا لصالح الأزمي، أي الفوز بنسبة 51.8 بالمائة؛ وهي أضعف نسبة مئوية يفوز بها أمين عام للحزب منذ تأسيسه. دلالات نسبة التصويت على العثماني صحيح أن عملية التصويت على العثماني كانت سرية وديمقراطية، أكد حزب "البيجيدي" من خلالها أنه حزب يعرف كيف يدبر تصدعاته الداخلية على أساس الشرعية الديمقراطية المستمدة من الشرعية الانتخابية؛ إذ إن فوز العثماني بنسبة 51.8 بالمائة من أصل 1943 صوتا هي نسبة عادية لكن في الأحزاب الديمقراطية التي لا تتوفر على ذراع دعوية قوية متحكمة في الحزب، مثل حزب "البيجيدي"، لأنه إذا قارنا النسبة التي فاز بها العثماني مع نسب الأمناء السابقين، فسنلاحظ فرقا شاسعا مع اختلاف السياقات: يتبين من هذا الجدول بأن النسبة المئوية التي فاز بها العثماني ضد الأزمي بالمؤتمر الثامن تبقى هي الأضعف، رغم أن الأزمي لم يكن منتظرا أن يكون المنافس القوي للعثماني، الأمين العام السابق رئيس المجلس الوطني وزير الخارجية رئيس الحكومة أحد أقطاب الحركة الإسلامية المغربية. وعليه، لا يمكن فهم دلالات منافسة الأزمي للعثماني إلا بتأثير أنصار بنكيران بالمؤتمر وتفضيلهم الأزمي على العثماني الذي كاد أن يهزم لولا تدخلات اللحظات الأخيرة؛ وهذا مؤشر على أن العثماني سيجد مقاومة شرسة من طرف الأزمي وأنصار بنكيران، مما يعني أن فوز العثماني بالأمانة العامة كان دون إجماع المؤتمرين، ما جعله يربح معركة المؤتمر لكنه لم يربح معارك الحرب ما بعد المؤتمر. أول فشل سياسي للعثماني بعد انتخابه تلقى العثماني، الأمين العام الجديد لحزب العدالة والتنمية، صفحة قوية بعد فوزه مباشرة برفض المؤتمرين بالإجماع تعيينه محمد يتيم نائبا أولا له، وهو القائد المقرب له أحد أقطاب حركة التوحيد والإصلاح، والتصويت لصالح سليمان العمراني نائبا أول له. ولم يتوقف هذا الفشل أثناء عقد المؤتمر، بل استمر حتى من بعده بعد رفض عبد العزيز أفتاتي دعوة تعيينه بالأمانة العامة من طرف العثماني مفضلا بقاءه بالمجلس الوطني بعد تصدره اللائحة ب914 صوتا، إلى جانب الصقور المقرئ الإدريسي أبو زيد ب615، وبلال التليدي ب597، وأمينة ماء العينين التي جاءت رابعة في لائحة المجلس الوطني بحصولها على 537 صوتا. العثماني ومنهجية الإقصاء أثناء تشكيل فريق الأمانة العامة يتبين من اللائحة النهائية للأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، التي صوّت عليها المجلس الوطني للحزب، الهيمنة المطلقة لأتباع الأمين العام الجديد العثماني مقابل إبعاد كل العناصر البارزة الموالية لبنكيران، وفي مقدمتهم كل من عبد العالي حامي الدين، وعبد العزيز أفتاتي، وآمنة ماء العينين، وبلال التليدي، وخالد البوقرعي، المسؤول الوطني عن شبيبة الحزب، والمقرئ الإدريسي أبو زيد، باستثناء مصطفى الخلفي، الناطق الرسمي باسم الحكومة. منطقيا من حق العثماني تشكيل فريق مدعم له لأننا أمام سلطة تنفيذية، لكن إقصاء عناصر بارزة بالمجلس الوطني للحزب سيكون له عواقب لكون المجلس الوطني هو سلطة مراقبة لعمل السلطة التنفيذية، أي الأمانة العامة، وهو ما يعني تسيير الحزب بأكثر من رأس: أعضاء بالأمانة العامة مؤيدون للعثماني وأعضاء بالمجلس الوطني رافضون له. وعليه، فمستقبل الحزب سيبقى رهينا بمدى نجاح أو فشل العثماني وفريقه. نجاح العثماني يعني إضعاف تيار بنكيران داخل المجلس الوطني، وفشله يعني تقوية تيار بنكيران الذي يمكن أن يغير الموازين في المؤتمر المقبل الذي سيعقد قبل الانتخابات التشريعية لسنة 2021، خصوصا وأن التيار حاضر بقوة بشبيبة الحزب ومجلسه الوطني وفريقه البرلماني. العثماني وضرورة توحيد صفوف الحزب تفاديا لأي زلزال داخلي مرتقب تشير عدة مؤشرات إلى أن العثماني، الأمين العام المنتخب، واع بخطورة الوضع داخل الحزب؛ لذلك قرر اتخاذ مبادرات بهدف الحفاظ على وحدة الحزب الذي تمكن في المؤتمر الثامن من تجاوز كل خلافاته الداخلية بأسلوب حضاري وديمقراطي بفضل قوته التنظيمية والمؤسساتية ومرجعيته الإسلامية والدعوية. لكن، أمام العثماني تحديات مستقبلية هي كيفية ملء الفراغ السياسي والتواصلي الذي تركه بنكيران، وكيفية استرجاع والحفاظ على ثقة الناخب الذي صوت لصالح الحزب في زمن فقدت فيه جل الأحزاب مصداقيتها وتخلت طواعية عن القيام بمهامها الدستورية والسياسية في سياق وطني وإقليمي أكثر اضطرابا. فهل سينجح العثماني في رئاسته للحكومة ورئاسة الأمانة العامة في ظل الانقسامات الصامتة داخل الحزب؟ وهل سينجح في تقوية وحدة الحزب بعيدا عن الذراع الدعوي الذي من الأكيد أنه سيتلاشى مع عامل الزمن بتلاشي مؤسسيه وهم من كانوا وراء فوز العثماني على الأزمي؟ وماذا عن مصداقية الحزب عند الرأي العام وهو يرى صانع أمجاد "البيجيدي"، أي بنكيران، يعود إلى عالمه الخاص وهو يحمل أكثر من جرح ومن طعنة من أعدائه ومن مقربيه؟ *أستاذ بكلية الحقوق أكدال الرباط