يُعد عمر الزيدي واحدا من مؤسسي اليسار الجديد بالمغرب، هذا المكون السياسي الذي ظهر بالمغرب بُعيد الاستقلال مباشرة لأسباب مرتبطة بالتحولات الإقليمية والدولية التي شهدها العالم آنئذ. كما أنه يعتبر من مؤسسي حركة "لنخدم الشعب" ذات النزوع الماركسي اللينيني، حيث تأسست هذه الحركة داخل بيته رفقة بعض الأسماء التي لا تزال على قيد الحياة، منها من تنكر "لنخدم الشعب" وارتمى في أحضان "عدو الأمس"، بينما ظل الزيدي يشتغل في أحضان المجتمع، من العمل السياسي والأفكار الحالمة في التغيير، إلى العمل من خلال المجتمع المدني.. في هذا الحوار، الذي ستنشره هسبريس منجما، سنحاول أن نرصد التاريخ الثقافي لمدينة سلا، وهي المدينة التي نشأ فيها صاحبنا/الزيدي، ونتوقف عند التنشئة الثقافية والسياسية لجيل اليسار الجديد، وكذا معرفة جزء من الذاكرة/ التاريخ الراهن للمغرب من خلال جيل آمن بالتغيير عن طريق الثورة فتحول إلى الإيمان بالتغيير المدني. كيف حدث ذلك؟ هذا ما سوف نعرفه من خلال هذه السلسلة من الحوارات. -12- تعرضت للعديد من الأحداث في السبعينيات، حبذا لو وضعتنا في صورة الوضع السياسي العام في هذه المرحلة قبل المرور إلى مرحلة الثمانينيات؟ أنهت حالة الاستثناء المعلن عنها في يونيو 1965 التوافقات بين الحركة الوطنية والقصر، التي تضمنتها وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944، أو التي جرت في لقاءات المغفور له محمد الخامس مع أقطاب الحركة الوطنية صيف سنة 1955 في سان كلو، والتي تم تثبيتها في خطاب العرش لنونبر 1955. ركزت حالة الاستثناء الحكم الفردي وأطلقت اليد للجيش، بزعامة الجنرال أوفقير، ليفعل في المغاربة ما يريد. كما أطلقت اليد، على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، لمجموعة من الملاكين الكبار ليستولوا على الأراضي المسترجعة، وينزعوا الملكيات في إطار مشاريع السدود التي تم تدشينها آنذاك. كل المشاريع التي أعلنتها حكومة عبد الله إبراهيم في مخططها الخماسي ألغيت، حيث لم يحتفظ إلا ببعض المشاريع، مثل لاسامير بالمحمدية، وصوماكا بالدار البيضاء، والمركب الكيماوي بآسفي، وتم تعويضها بمخطط خماسي آخر، وثلاثي (1965-1967)، ثم مخطط خماسي (1968-1972)، كان الغرض منها توسيع هيمنة طبقة من الملاكين العقاريين والزراعيين الكبار فيما سمي آنذاك بمشاريع الإصلاح الزراعي (ديرو وسقي المليون هكتار وغيرهما). وماذا على المستوى الصناعي؟ على المستوى الصناعي كانت الصناعة ضعيفة، يهيمن عليها الرأسمال الأجنبي أساسا وبعض العائلات الفاسية القليلة المستقرة بالدار البيضاء، خاصة في قطاع النسيج، ودشنت بعض الصناعات التحويلية كالسكر وتعليب بعض المواد الغذائية. هذا الوضع هو الذي أدى إلى العديد من الأزمات الاجتماعية والتناقضات الاقتصادية والسياسية، التي وصلت إلى مراكز الحكم، وخاصة الجيش. يعني أن هذا الوضع هو الذي أدى إلى المحاولتين الانقلابيتين مع بداية السبعينيات؟ طبعا، ولكن بعد المحاولتين الانقلابيتين الفاشلتين، سيحاول الحكم إحداث العديد من التغييرات.. هل يمكنك ذكر بعض هذه التغييرات؟ أولا، إعلان دستور 1970، ودستور 1972، اللذين ووجها بالمقاطعة أو المعارضة من طرف أحزاب الكتلة الوطنية. ثانيا، فتح التواصل مع الكتلة الوطنية، التي كانت تضم حزبي الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية بجناحيه، في محاولة لتشكيل حكومة وطنية، لكن هذه المساعي فشلت. ثالثا، إلغاء وزارة الدفاع، وجعلها إدارة خاضعة للملك مباشرة، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة. رابعا، إعطاء الأولوية لجهاز الأمن، وإحداث إدارة مراقبة التراب الوطني كجهاز للمخابرات المدنية (الديستي)، ومكتب الدراسات والمستندات (لادجيد) كمخابرات عسكرية مكلفة بالخارج. خامسا، على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، توزيع الأراضي المسترجعة على الفلاحين المتوسطين والصغار، وإحداث شركات فلاحية عمومية في جزء من الأراضي المسترجعة (صوجيطا وصوديا)، ثم إعلان مغربة المنشآت الاقتصادية، وهي عملية تحفيزية لمن راكم الأموال من ملكيات الأراضي في الستينيات بأن يدخل معترك الاقتصاد العصري (أبناك، شركات التأمين، شركات الإنتاج وغيرها). وماذا عن التعامل مع الأحزاب السياسية؟ الحقيقة أن الحكم أصبح في حاجة إلى توازنات جديدة تعيد فتح الحوار مع الأحزاب الوطنية بديمقراطية موعودة وتحت المراقبة، فكان ملف استرجاع الصحراء أحسن ملف لتحقيق ذلك. فقد تم السماح لحزب التحرر والاشتراكية بعقد مؤتمره شريطة تغيير اسمه، حيث أصبح حزب "التقدم والاشتراكية"، وسمح له كذلك بإصدار جريدته "البيان" بالعربية والفرنسية. والشيء نفسه وقع للاتحاد بمؤتمره الاستثنائي في يناير 1975، وإصدار جريدة "المحرر"، التي كان يديرها الشهيد عمر بنجلون، الذي سيتم اغتياله في 18 دجنبر 1975 من طرف عناصر الشبيبة الاسلامية، بإيعاز من أطراف نافذة، نظرا لتشدده في مواجهة الحكم ودعوته إلى تشكيل فرق مسلحة تقوم بحرب عصابات ضد المستعمر الإسباني، وتستطيع منافسة جبهة البوليساريو على الأرض. وهو الموقف الذي عبر عنه في إذاعة "فرانس أنتير" في مواجهة الناطق الرسمي باسم جبهة الانفصال أحمد بابا مسكي (موريطاني كان مديرا لصحيفة "أفريك آزي" قبل التحاقه بجبهة الانفصال). أمام تكهرب الوضع واشتعاله في الصحراء المسترجعة عمد الحكم إلى إطلاق سراح العشرات من الاتحاديين، المعتقلين في إطار حركة 3 مارس 1973، وبعض اليساريين المعتقلين في ملفات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب مثل عبد الصمد بلكبير ومحمد البريبري وعزيز المنبهي وعبد الواحد بلكبير وآخرين، والنقابة الوطنية للتلاميذ مثل تيريدا والتجارتي وعبد الرؤوف فلاح. كما أن أكثر من 10 محاكمات نطقت بالبراءة أو بما قضوا في صيف 1976 في حق هؤلاء المعتقلين. في ظل هذه الأجواء سيسترجع "أوطم" شرعيته ويعقد مؤتمره ال16، وينتخب الاتحادي محمد بوبكري رئيسا. نظمت الانتخابات الجماعية ثم البرلمانية بعد أكثر من 12 سنة عن إعلان حالة الاستثناء، فكانت الأغلبية في انتخابات مخدومة لصالح "غير المنتمين"، الذين سيشكلون حزب التجمع الوطني للأحرار، برعاية تامة من الحكم ورئاسة أحمد عصمان، صهر الملك الحسن الثاني، شارك على إثرها حزب الاستقلال في الحكومة. وكان الغرض من تشكيل هذا الحزب هو مواجهة القوى الديمقراطية، وجعله صوتا للقوى التي استفادت من ثروات الاستقلال عن طريق الريع والاستثمارات وغيرهما، وهي سياسة كانت تتوخى إبعاد القصر عن المواجهة اليومية مع المعارضة الديمقراطية. وفي سنة 1978 (حسب ما أذكر) ستتشكل الكونفدرالية الديمقراطية للشغل كذراع نقابي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. هذا الهامش الضيق من الديمقراطية كان تجسيدا للتوافقات الجديدة منذ 1975، المؤسسة على عنصرين: "الوحدة الترابية والمسلسل الديمقراطي". هذا التوافق الهش لن يوقف الملاحقات ولا الاعتقالات ولا المس بكافة حقوق الإنسان عموما، فأول تجربة خاضتها الكونفدرالية الديمقراطية للشغل كانت في أبريل 1979، في إضرابات الصحة والتعليم، التي ووجهت بالعنف وبعشرات الاعتقالات والتوقيفات عن العمل. إنها تجربة العصا الغليظة والجزرة لإدريس البصري الذي بدأ يبين عن "حنة يديه"، فهو تسلق من مسؤول عن "الديستي" منذ تأسيسها إلى كاتب الدولة في الداخلية إلى وزير الداخلية، التي ستصبح أم الوزارات، حيث سيسكن في هذا المنصب إلى أن طرده الملك محمد السادس. طيب، وماذا فعل عمر الزيدي بعد الإفراج عنه سنة 1980؟ أول شيء واجهني بعد الخروج من السجن هو الشغل، فأنا أب لطفلين آنذاك، فدوى ومحمد كمال، الذي رأيته أول مرة وأنا في السجن وسنه تتجاوز بالكاد سنة، ازداد وأنا في السرية. قصدت العمل السابق، مكتب "كوزيمار" بالرباط، حيث كنت أشتغل قبل الفرار، والتقيت بأحد الأصدقاء (سعيد السمار)، الذي أصبح مدير المكتب، بعد أن كان في السابق نائبا للمدير، فقدم لي مساعدة ثمينة، حيث اتصل بأحد أصدقائه بشركة السياحة "ب.ل.م دنيا أوطيل" وسلمني رسالة إليه. توجهت إلى تلك الشركة، وأجريت مقابلة مع مدير المحاسبات المعني بالرسالة، فدخل عند المدير العام مصحوبا بالاستمارة التي كنت قد ملأتها، ورجع إلي مستبشرا بأن المدير قبل توظيفي، لكن قلص قليلا من الثمن الذي اقترحته كأجرة، فاقترح علي أن آخذ مهلة للتفكير، وقال إنه يرحب بي إن قبلت. كانت أجرة محترمة بالنظر إلى مستوى المعيشة آنذاك، فأجبته أن "الدماغ الذي سيفكر حملته معي ولا داعي لمهلة للتفكير". وبدأت العمل؟ نعم، وقعت العقدة وبدأت العمل كمحاسب في الشركة. وماذا عن عملك السياسي والتنظيمي؟ على الصعيد التنظيمي، اتخذت قرارا بعدم تنظيم أي أحد والاستمرار في الالتزام مع الرفاق المستمرين في العمل بشكل سري، خاصة الذين يعيشون في السرية، وعلى رأسهم الشهيد البريبري منتصر ونزهة بنعياد وأختها عائشة بنعياد. وعلى المستوى السياسي؟ سياسيا، قررت الاستمرار في الدفاع عن أطروحات اليسار الجديد، وخاصة "لنخدم الشعب" بشكل علني وجماهيري، من خلال عشرات الندوات في الجامعات ودور الشباب، حيث كنت أستدعى إلى العديد من الندوات، ولم أتردد يوما في الذهاب إلى أي مدينة ولو نائية حين يتم استدعائي، وربما كنت من القلائل، إن لم أكن الوحيد، الذي كان يجوب المغرب للمساهمة في الأنشطة التي تقيمها تعاضديات الطلبة أو الجمعيات الثقافية. في عام 1980 انخرطت في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان. انخرطت فيها شهر مارس سنة 1980، وفي شهر شتنبر من السنة ذاتها قررت الشركة التي أشتغل بها نقل مقرها المركزي من الرباط إلى أكادير. كانت تملك ستة فنادق، وكان لها طموح في التوسع وإحداث فنادق جديدة. عرضوا علي منحي سكنى في أكادير ومضاعفة أجرتي، لكني رفضت العرض لأنه ما كان بإمكاني أن أخاطر بشغل زوجتي آنذاك، التي كانت تعمل بالصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي، والذي لا يتوفر آنذاك على ملحقة في أكادير. كما أن وضعي كان غير مستقر، وقد أتعرض من جديد للاعتقال في أي لحظة. سحبت ملفي من كلية الحقوق بجامعة محمد الخامس، حيث كنت في السنة الثالثة علوم اقتصادية، ووضعته في مركز تكوين الأساتذة، وقد توفقت في الامتحان ودخلت التكوين، فأصبحت أستاذا للاجتماعيات. في السنة نفسها، أي 1980، بدأتم تفكرون في إصدار منشور ثقافي، كيف بدأت الفكرة؟ نعم، سيتصل بي محمد حيثوم، وهو أحد رفاق السجن، وعرض علي أرضية لإصدار مجلة ثقافية، سياسية اجتماعية، فوافقت. حضرت اجتماعا مع من توخى حيثوم فيهم الاستعداد للمشاركة في إصدار هذا المولود الجديد، وقد حضر عدد لا يستهان به من الأطر، ضمنهم عبد اللطيف اللعبي، الذي غادر السجن في صيف 1980 ضمن لائحة من المناضلين آنذاك، وحضر عبد الرحيم الجامعي وعبدالله ازريقة وآخرون. اتفقنا على تسميتها "المقدمة"، كما اتفقنا كذلك على عبد الرحيم بوعزاوي مديرا للمجلة لكونه لم يكن متابعا أو معتقلا سابقا. لم يستمر الجميع في هيئة التحرير، لكل مبرراته، وتشكلت عمليا هيئة التحرير من المناضلين الذين استمروا في المشروع، وهم: محمد حيثوم، عمر الزيدي، عبد الرحيم بوعزاوي، عبد الله زريقة، سالم كويندي ومحمد البكراوي. وقد صدر العدد الأول في يونيو 1982، وصدر العدد الثاني في دجنبر 1982، وهو عدد خاص بفلسطين بمناسبة اجتياح الجيش الاسرائيلي للبنان، وكان عددا مزدوجا. العدد الرابع صدر في يونيو 1983، وكان عددا خاصا بالاقتصاد المغربي، وهو إصدار لنقاشات ندوة أقامها الرفاق المعتقلون بالسجن المركزي بالقنيطرة، وقد تطلب منا هذا الإصدار نقاشات مطولة نظرا لرفض بوعزاوي نشر كل نقاشات الندوة. استمرت النقاشات شهورا من تعطيل المواعيد وطول الاجتماعات وابتعاد دورياتها إلى أن اهتدينا إلى حل توافق عليه الجميع، وهو نشر عروض بعض الرفاق في العدد الذي رقمناه بالرابع، ثم نشر العروض الأخرى على سبيل المناقشة في العدد الموالي. هذا العدد الذي لم يكتب له أن يصدر نظرا للمنع الذي طال مجلة "المقدمة" بعد أحداث يناير 1984، ضمن حملة الاعتقالات الجديدة ومنع العديد من المجلات، من ضمنها مجلة "الثقافة الجديدة" لمحمد بنيس، "الجسور" لعبد الحميد عقار، "الزمان المغربي" لسعيد علوش و"البديل" لبنسالم حميش. المجلة كانت تتضمن العديد من الأبواب، مثل قضايا وأحداث لمواكبة الأوضاع العامة، والدراسات والأبحاث، مناقشات، حوارات، إبداعات في الشعر والقصة القصيرة، إضافة إلى الرسائل الجامعية وأنشطة الجمعيات. ومن ضمن ما كان يميزها أسلوبها الثقافي الراقي. إليكم أسلوب التعزيات التي صدرت في العدد الرابع: "في هذا الوطن لا يعود بعض مناضليه إلى بيوتهم إلا محمولين على الأكتاف أو في صناديق الحديد المختومة بالشمع الأحمر. في هذا الوطن يأتي الموت في كل الأشكال للذين يحترفون الشهادة لأجل قضايا الشعب الكادح: المهدي بنبركة – عمر بنجلون – عبد اللطيف زروال – سعيدة المنبهي – كرينة محمد – جبيهة رحال – عبد العزيز بلال. والقائمة تشرع صدرها للآتين... وتحنو على جسد المنتصر البريبري الممزق.. شهيد لا تجمع أشلاء جسده المجزأ إلا الشهادة داخل قبر حديدي مختوم بالشمع الأحمر.. يا هذا الوطن، افتح صدرك وتنهد عندما يخترق الشهداء جسر الهول إليك ليعيدوا ترتيب الأزمنة والفصول ووجه الحياة. وتعبر إليك تلك البطون التي أنجبت حلمك والأثداء التي أرضعت حبك في الفكر والممارسة لأغلى الأبناء. رحلت إليك أيها الوطن، وفي القلب غصة وفي العين شعلة الأمل أم المناضل محمد معروف تلك الأم التي تبتسم في عز البرد والمطر وهي تغالب الدمع. واستوطنت في ثراك امرأة لم تعرفك إلا مسيجا في عيون ابنها فريد حداد.. عرفت عشقك ونارك، لكنها تحملت، رغم النزيف في الأعماق وكبر العظم، وهي تبتسم لاكتشافها قاراتك وجزرك، مثلها مثل أم المناضل المنصوري عبد الله وسعيد بنجلون. إنهن وجه آخر لعذابات كادحات هذا الشعب تعلمن لمرة واحدة كيف يحولن الدمعة إلى طوفان... إلى حنجرة تصب حماها في مختلف التظاهرات...أمهات لن يمتن أبدا"