يُعد عمر الزيدي واحدا من مؤسسي اليسار الجديد بالمغرب، هذا المكون السياسي الذي ظهر بالمغرب، بُعيد الاستقلال مباشرة، لأسباب مرتبطة بالتحولات الإقليمية والدولية التي شهدها العالم آنئذ. كما أن عمر الزيدي يعتبر من مؤسسي حركة "لنخدم الشعب" ذات النزوع الماركسي اللينيني، حيث تأسست هذه الحركة داخل بيته رفقة بعض الأسماء التي لا تزال على قيد الحياة، منها من تنكر "لنخدم الشعب" وارتمى في أحضان "عدو الأمس"، بينما ظل الزيدي يشتغل في أحضان المجتمع، من العمل السياسي والأفكار الحالمة في التغيير، إلى العمل من خلال المجتمع المدني.. في هذا الحوار، الذي ستنشره هسبريس منجما، سنحاول أن نرصد من خلاله التاريخ الثقافي لمدينة سلا، وهي المدينة التي نشأ فيها صاحبنا/ الزيدي، والتوقف عند التنشئة الثقافية والسياسية لجيل اليسار الجديد، وكذا معرفة جزء من الذاكرة/ التاريخ الراهن للمغرب من خلال جيل آمن بالتغيير عن طريق الثورة فتحول إلى الإيمان بالتغيير المدني.. كيف حدث ذلك؟؟! هذا ما سوف نعرفه من خلال هذه السلسلة من الحوارات!! -5- بعد رحيل فيوليت، الفتاة اليهودية، إلى كندا، هل ملأت وقتك العاطفي بالعمل السياسي أم بحثت عن فتاة أخرى تعوضك صديقتك اليهودية؟ (يضحك) أذكر أنه في أواخر 1967 أتيحت لي فرصة إقامة علاقة مع فتاة فرنسية، حيث تطورت بيننا صداقة بالمراسلة. كانت المراسلات بيني وبين أنيك لوغي أسبوعية، وأحيانا أكثر من مرة في الأسبوع. كانت شابة من مدينة سان بريوك ببروطان شمال غرب فرنسا. كانت نقاشاتنا سياسية وفكرية: حول فلسطين، العنصرية، أحداث ماي 68، حركات التحرر في العالم، الاشتراكية، الشيوعية، تاريخ فرنسا، ثورة 1789، تاريخ المغرب ووضعه السياسي، والحركة الوطنية في المغرب. Annick Le gué الفتاة الفرنسية يعني استفدت من هذه النقاشات مع الأخت لوغي؟ صحيح، لأن هذه النقاشات كانت تدفعني إلى البحث والدراسة وقراءة الكتب أكثر مما كنت، وتتبع المجلات (لاماليف) والجرائد ("لوبينيون"، "مغرب أنفورماسيون"، "لوبوتي ماروكان"، "لا فيجي"، وهما جريدتان كانتا منذ الاستعمار (مجموعة "ماس") وتحولتا إلى "لوماتان" و"ماروك سوار" بعد شرائهما مغربيا). هذه هي الجرائد التي كانت موجودة آنذاك، والتي كانت مرتبطة بحزب الاستقلال أو الاتحاد المغربي للشغل أو الدولة. وهل سبق لك أن التقيت بلوغي هنا في المغرب؟ لا أبدا، انقطع بيننا التواصل منذ 1970، أي منذ انخراطي في العمل السياسي التنظيمي، وتعرضي للملاحقات والاعتقالات. لكن "الفيسبوك" أعاد بيننا التواصل والتقينا في باريس سنة 2016. كان لقاء ثقافيا جيدا، حيث اكتشفت أنها هي الأخرى مناضلة مدنية في مجال الإيكولوجيا، عضو في "كرين بيس" (السلام الأخضر) فرع فرنسا. لم تكن تطرح هذه العلاقة أي مشكل اجتماعي أو ثقافي؟ كان النقاش بيننا مفتوحا ومكسرا لكل الطابوهات. لم تكن هناك مشكلات هوياتية مطروحة في العالم كما هو الحال اليوم. كان نقاشا ثقافيا وفلسفيا، يدفع كل واحد منا إلى البحث والقراءة لتطوير النقاش. لم نكن نملأ مراسلاتنا بالأحاسيس الحميمية، ولكن نملؤها بنقاشات مواضيع مختلفة في الحياة، تدفعنا إلى البحث والكتابة الجدية. كما كنا نقيم عروضا في مواضيع مختلفة، مما جعل وتيرة مراسلاتنا سريعة، ثلاث مراسلات في الأسبوع تقريبا، وكأننا نعيش سويا في مكان واحد. كنا نتبادل الهدايا: كتب أو أسطوانات الغناء. مع الأخت لوغي بدأت التفكير في الانخراط السياسي؟ المحفز للانخراط في العمل السياسي كان هو واقعنا في المغرب وشيوع الفقر والتهميش وانعدام الحريات. النقاشات مع الصديقة لوغي، والمناخ الفكري بيننا، إضافة إلى الحياة الثقافية في سلا.. كل هذا جعلني أنخرط، أولا، في فرع الجمعية المغربية لتربية الشبيبة بسلا في سنة 1969. كانت الوضعية السياسية بالبلاد مشحونة باعتقال مجموعة من المناضلين الاتحاديين بأمزميز وحجز أسلحة معهم، وقد عمت الاعتقالات العديد من المناطق، كما اختطف الفقيد أحمد بنجلون وبونعيلات في مدريد بإسبانيا، ونقلا إلى السجن العسكري. كان المناضلون الاتحاديون يترقبون في سلا، مما أثر على السير العادي للفرع. وتم تجديد مكتب الفرع، فتحملت مسؤولية في المكتب، إلى جانب مجموعة من الرفاق، الذين سأكتشف فيما بعد أن أغلبهم من التنظيم الماركسي الذي سأنخرط فيه في أكتوبر 1970. هذا التاريخ يرتبط بما سمي حينها بانتفاضة أولاد خليفة؟ نعم، هذا التاريخ يرتبط بحدث انتفاضة أولاد خليفة الشهيرة. ذات يوم من أواخر شتنبر أو بدايات أكتوبر 1970 نشرت "لوبنيون"، الناطقة بالفرنسية، بالبنط العريض، ما معناه "مواجهة عنيفة في الغرب سقط على إثرها 5 من الفلاحين و6 من القوات العمومية"، وهي جريدة ناطقة باسم حزب الاستقلال المعارض منذ إعلان حالة الاستثناء، التي أقرها المرحوم الحسن الثاني في خطاب يونيو 1965 على إثر أحداث مارس 1965. اجتمعنا في مكتب الجمعية (لاميج) وقررنا بعث لجنة للتحقيق في الأحداث. ما زلت أذكر أسماء أعضاء اللجنة: الهراس محمد والمرحوم البوحتري محمد، وكانا اتحاديين، إضافة إلى الفاطمي العلوي والمرحوم الحاكوشي محمد التهامي... من هم هؤلاء؟ سأكتشف فيما بعد أنهم من مناضلي اليسار الجديد، وكانوا في منظمة "ب"، التي انتميت إليها كذلك. جاء التقرير وكان صادما، إذ سقط 50 ضحية من الفلاحين، بالإضافة إلى المعتقلين ضحية جشع الملاكين العقاريين الكبار، الذين ارتموا على أراضي القبائل المسترجعة من المعمرين. لم أكتف بالتنديد، الذي عبر عنه مكتب الجمعية بتنظيمه ندوة في المقر المشترك مع جمعية الطفولة الشعبية حول موضوع "الأراضي المسترجعة والحقوق التاريخية للقبائل"، بل فكرت من خارج الجمعية، إلى جانب اثنين من الرفاق، بأن نقوم بعمل ما للتعبير عن غضبنا ورفضنا، فاهتدينا إلى الكتابة في جدران سلا بالصباغة الحمراء بشعارات قوية تعلن التضامن مع فلاحي أولاد خليفة وتندد بالنظام. بعد ذلك سيتصل بي أحد الرفاق، عبد الله زنيبر الموجود حاليا بفرنسا، ويقوم بعمل مدني رائع في التضامن مع النسيج الجمعوي في المغرب. طرح علي عبد الله، وأنا في منزله العائلي، أن أنخرط في تنظيم ماركسي لينيني سري، فقبلت على الفور، وهو منظمة "ب"، التي ستصبح فيما بعد منظمة "23 مارس" و"منظمة لنخدم الشعب"، التي تشكلت بعد اعتقالات فبراير 1972، نتيجة الخلافات التي كانت تعرفها منظمة "ب" منذ صيف 1970. يعني أن العمل الجمعوي هو للتستر على العمل السياسي السري؟ لا يمكن القول بهذه الإطلاقية، لكن شروط العمل السياسي كانت شبه منعدمة: المقرات محاصرة أو مقفلة بأمر السلطة، وأي نشاط يتعرض للقمع، فكان العمل الجمعوي متنفسا يستطيع المناضلون من خلاله الوصول إلى الناس بهذا الشكل أو ذاك، وبذلك تمرر الرسائل السياسية وتنسج العلاقات والاستقطابات. العمل داخل الجمعية كان واضح الأهداف: تكثيف العمل الثقافي والتوعوي والانخراط في العمل الاجتماعي داخل الأحياء الشعبية وتطوير العلاقات مع العمال... كيف؟ ما زلت أذكر أن البرنامج الثقافي كان يدوم طيلة السنة: الثلاثة أشهر الأولى مخصصة لحركات التحرر والقضية الفلسطينية، والثلاثة أشهر الثانية للتخلف والاستعمار الجديد، والثلاثة أشهر الأخيرة للمغرب. وقد كنا نستدعي محاضرين في هذه المجالات، كل خميس، حيث استضفنا عبد اللطيف الدرقاوي وعبد اللطيف اللعبي والأستاذ بودقة، وهو فلسطيني من الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. كما قمنا بأبحاث ميدانية في معمل "باروك" ومعمل "فيلروك" بسلا، مما دفعنا إلى التفكير في تشكيل فرق كرة القدم للمعامل والحرف بسلا. كذلك اشتغلنا في "دوار اسماعلة" الصفيحي لمحاربة الأمية وتقديم دروس الدعم للأطفال المقبلين على اجتياز الشهادة الابتدائية. كما تطوعنا، بمشاركة السكان، في إصلاح البئر بتبليط جنباتها وتنظيفها وإصلاح مسجد الدوار، وكنا نساعد على إصلاح سقوف "البراريك" مع بداية فصل الشتاء. هذا العمل جعل شباب الدوار يقلعون عن العادات السيئة مثل تدخين الكيف ب"السبسي" ولعب الورق، وأصبحوا يحضرون معنا في الجمعية. كثرة هذه المهام وزحمة العمل لم تجعلاني منتظما في مراسلة أنيك، كما لم أعد أتوصل بمراسلاتها كذلك. وقد عرفت منذ أكثر من سنة أنها فقدت أمها في تلك الظروف وغادرت إلى باريس لأنها لم تقو على البقاء في المدينة التي فقدت فيها أمها.