أيّةُ نبُوءةٍ إعْجَازيّةٍ قذف بها شَاعِرُ النِّيل في مَسْمَع الدَّهر؟ ليت المرحوم حافظ إبراهيم كان يدري أيّ نبوءةٍ إعجازيةٍ كبرى قذف بها إلى مَسمع الدّهر يوم حكى لنا أنّ اللغة العربية قالت عن نفسها: أنا البّحر في أحشائه الدرّ كامنٌ / فهل سألوا الغوّاصَ عن صدفاتي..؟!، صدق شاعر النيل، وها هو ذا العالم أجمع يحتفل في 18 من شهر دجنبر الجاري باليوم العالمي للّغة العربية؛ يُحتفىَ بها في هذا التاريخ من كلّ عام، كلغة عالمية، رسميّة، متداولة، ومُستعملة في جميع المحافل الدّولية، والمنظمات العالمية. ولم يأتِ هذا التتويج عبثاً أو إعتباطاً، بل جاء بعد نضالٍ متواصل، وجهودٍ متوالية انطلقت منذ أواسط القرن الفارط، بعد أن أقرّت منظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) ذلك في الدورة 92 لمجلسها التنفيذي المنعقد عام 2012، حيث طفق هذا المنتظم الدّولي في الاحتفال لأوّل مرّة بهذا اليوم في ذلك العام، قبل أن تقرّر الملحقية الاستشارية للخطة الدّولية لتنمية الثقافة العربية المعروفة ب"أرابيا"، المنبثقة عن "اليونيسكو" كذلك، هذا اليوم عنصراً أساسيّاً في برنامج عملها المتواتر في هذا المجال. في رسالة للمديرة العامّة لليونسكو السابقة "إيرينا بوكوفا" بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية يوم 18 دجنبر من العام الفارط قالت: "يجب بذل المزيد من الجهود في المدارس والجامعات لنشر اللغة العربية، وتعزيز تعلّمها من أجل النهوض بالبحث والابتكار العلمي والإبداع. ويعّد نشر اللغة العربية في جميع أرجاء العالم وسيلة رائعة للتعاون والعمل على نشر السلام". ويشير الخبراءُ المتخصّصون في هذا الميدان إلى أنّ خطوة اليونيسكو جاءت في سياق سلسلة من القرارات الدولية الأخرى للأمم المتحدة، ومنظماتها حول اللغة العربية، من بينها القرار (878) الصّادر عن الدّورة التاسعة للأمم المتحدة المنعقدة عام 1954، والذي كان قد أجاز الترجمة التحريرية لوثائقها إلى اللغة العربية، لتقرّر منظمة اليونسكو العالمية عام 1966 استخدامَها في المؤتمرات الإقليمية التي يتمّ تنظيمها في البلاد العربية، بالإضافة إلى إجازة ترجمة الوثائق والمنشورات الصّادرة والمنبثقة عنها إلى اللغة العربية. ثم قرّرت اليونسكو كذلك في هذه السّنة تقوية وتعزيز استعمال العربيّة في أعمالها من خلال إقرار خدمات التّرجمة الفورية منها إلى غيرها من اللغات الأخرى والعكس في جلساتها العامة. وعند مشارف عام 1968 تمّ اعتماد العربية لغة عملٍ في هذه المنظمة الدولية، مع ترجمة مختلف وثائق العمل والمحاضر إليها؛ فضلاً عن توفير وتأمين الترجمة الفورية بصفة نهائية، وهكذا حتى نصل إلى قرار الهيئة العامة للأمم المتحدة بجعل اللغة العربية لغة عمل بصفةٍ رسمية بين مختلف اللغات الحيّة الأخرى المعتمدة في الجمعية العامة وهيئاتها المختلفة، وأخيراً الإعلان عن اليوم العالمي لهذه اللغة في 18 دجنبر من كل عام كلغة رسمية متداولة في مختلف الهيئات، والمنظمات، والمحافل الدّولية. ومع ذلك مازالت تترى الدّراسات، وتتعدّد النقاشات، وتُطرح التساؤلات، وتُثار التخوّفات في المدّة الأخيرة عن اللغة العربية، وعن مدى قدرتها على استيعاب علوم الحداثة، والعصرنة، والابتكار، والتجديد الذي لا تتوقّف عجلاته ولا تني؛ وتخوّف فريق من عدم إمكانها مسايرة هذا العصر المُتطوّر والمُذهل، كما تحمّس بالمقابل فريق آخر فأبرز إمكانات هذه اللغة، وطاقاتها الكبرى، مستشهداً بتجربة الماضي، إذ بلغت لغة الضاد في نقل العلوم وترجمتها شأواً بعيداً. كثر الكلام في هذا المجال حتى كاد يُصبح حديثَ جميع المجالس، والمنتديات، والمؤتمرات في مختلف البلدان العربية، فهل تعاني العربيّة حقاً من هذا النقص..؟ وهل هي في حاجة إلى مناقشات من هذا القبيل..؟ الواقع أنّ اللغة العربية في العمق ليست في حاجة إلى ارتداء ذرع الوقاية يحميها هجمات الكائدين، ويردّ عنها شماتة المتخوّفين، إذ تؤكّد كلّ الدلائل والقرائن قديماً وحديثاً أنّها كانت ومازالت لغة حيّة، اللهمّ ما يريد أن يلحقه بها بعض المُتشكّكين من نعوت وعيوب، كانت قد أثارتها في الأصل زمرة من المُستشرقين في منتصف القرن المنصرم، اختلقوا موضوعات لم يكن لها وجود قبلهم، كان الغرض من منها إثارة البلبلة والشكوك بين أبناء هذه اللغة، الذين يعرفون جيّداً أنّها لغة تتوفّر على جميع مقوّمات اللغات الحيّة المتطوّرة الصّالحة لكل عصر.. وجدير بنا في مناسبة الاحتفال بيومها العالمي أن نستقي من التاريخ شهادة حيّة قائمة عن الشأو البعيد الذي أدركته هذه اللغة، حيث كانت لها الغلبة، وبالتالي تأثيرات بليغة في عددٍ من اللغات العالميّة الحيّة، وفي طليعتها اللغة الإسبانية. العربية وتأثيرها في الإسبانية كان للغة الضّاد بالفعل تأثير بليغ في اللغة الإسبانية، التي استقرّت فيها العديد من الكلمات العربية الأصل على امتداد العصور، وهي الآن تعيش جنباً إلى جنب مع هذه اللغة، وتستعمل في مختلف مجالات الحياة وحقول المعرفة المتعدّدة، ما يقدّم الدليل القاطع على مدى غنى، وثراء، وجزالة، وفحولة، وخصوبة لغة الضّاد، التي ما فتئت تتألق، وتتأنق، وتنبض بالحياة في عصرنا الحاضر مطواعةً مرنةً سلسةً عذبة متفتّحة، ينبوع حنان تأخذ وتُعطى بسخاء وكرم لا ينضب معينهما. وتعيش اللغة الإسبانية في الوقت الحاضر تألقاً وانتشاراً واسعيْن في مختلف ربوع المعمور. ووعياً من الإسبان بما أدركته لغتهم من رِفعةٍ، و"أوج".. يحلو لهم عند الحديث عن انتشارها والإشعاع الذي أصبحت تعرفه استعمال هذه الكلمة العربية بالذات للتباهي بها، وهي "الأوج"، والتي تُنطق عندهم (Auge) "أَوْخيِ"، حيث تُقلب أو تُنطق الجيمُ خاءً، كما هو الشأن في العديد من الكلمات العربية الأخرى المبثوثة في اللغة الإسبانية مثل: جبل طارق، الذي يُنطق عندهم "خِبْرَلْطَارْ"، وكلمة جَبَليّ تُنطق "خَبليّ"، وهو "الخنزير البرّي الذي يعيش في الجبل"، وكلمة الجامع التي تحوّلت عندهم إلى "أَلْخَامَا"، والجرّة غدت "خَارّا"؛ وهو الدنّ أو إناء الفخار، ونهر أو مدينة "وادي الحِجارة"، التي تحوّلت إلى "غْوَادِيلاَخَارَا" ...إلخ". إنهم يبذلون جهوداً مضنية، ويرصدون إمكانيات كبرى للتعّريف بلغتهم وثقافتها وإظهار كلّ ما من شأنه أن يبثّ الاعتزاز في ذويها، وأصحابها، ومن ثمّ تأتي تلك الندوات والمناظرات التي تعقد في هذا السّبيل في مختلف المناسبات في إسبانيا تحت الرئاسة الفعلية للعاهل الإسباني الأسبق، أو نجله العاهل الإسباني الحالي، حيث يحرصان على حضور مختلف جلسات الأكاديمية الملكية للغة الإسبانية، خاصّة عند انضمام عضو جديد إليها أو عند تكريم أحد الرّاحلين عنها. وتصرف الدولة الإسبانية أموالاً طائلة في سبيل نشر لغتها وثقافتها والتّعريف بتاريخها، وبآدابها، وفنونها، وتراثها . نيبريخا.. الدّؤلي.. والفراهيدي يهدف التنسيق بين مختلف البلدان الناطقة باللغة الإسبانية في مجال المصطلحات اللغوية والكلمات والتعابير المتداولة والمستعملة في هذه البلدان إلى توحيدها ومحاربة الدّخيل وجعل حدّ ل"الغزو اللغوي" الأجنبي، إذ أعدّت أكاديمية اللغة الإسبانية بالتعاون مع جميع أكاديميات اللغة الإسبانية الأخرى الموجودة في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية، والتي يبلغ عددها 21 أكاديمية، لهذه الغاية، معجماً إسبانياً فريداً في بابه، وهو: "معجم الشكوك الموحّد"، بمعنى أنّ أيّ متحدّث أو مستعمل أو مشتغل أو دارس للغة الإسبانية، الذي قد يخامره شكّ أو تساوره ريبة حول أيّ استشارة صغيرة كانت أم كبيرة لها صلة بهذه اللغة، سوف يجد ضالته في هذا المعجم. والإسبان واعون بأهمية لغتهم في عالم اليوم، وبالمكانة المرموقة التي أصبحت تتبوّأها في مختلف البلدان، وهم يعلمون كذلك أنّ لغتهم من المنتظر أن تصبح من أكثر اللغات الحيّة تأثيراً وانتشاراً في العالم أجمع في هذا القرن وما بعده. ففي الولاياتالمتحدةالأمريكية وحدها من المنتظر أن يصبح عدد الناطقين بها - حسب التوقعات المستقبلية - ما ينيف على 100 مليون خلال العقدين القادمين. وتعرف اللغة الإسبانية تقدّماً مهمّاً في البلدان العربية، وأصبحت تحظى بإقبال كبير من طرف الطلاب والباحثين، وهي تدرّس اليوم في مختلف الجامعات العربية، وفي المغرب وحده على سبيل المثال يوجد ما يقارب ستة ملايين من الناطقين بهذه اللغة، كما أصبحت العناية بها تحظى باهتمام متزايد في مختلف البلدان المقابلة للجزيرة الإيبيرية والمحاذية لحوض البحر الأبيض المتوسّط جنوباً نظراً لعوامل تاريخية، وحضارية وثقافية بين إسبانيا وهذه البلدان، بحكم الجيرة. ويرى الملاحظون أنّ تقدّم اللغة الاسبانية وانتشارها في عالم اليوم ليس وليد الصّدفة، بل يرجع لعدّة عوامل تاريخية وثقافية وحضارية؛ ذلك أنّ نصف قارة بأكملها تتحدث هذه اللغة (أمريكا الجنوبية). كما أنّ "الأوج" الذي تعرفه اللغة الإسبانية في العالم حقق للثقافة الإسبانية حضوراً مهمّاً في العديد من المحافل العالمية في مجال النشر، والتأليف، والمسرح، والفنون التشكيلية، والموسيقى، والشعر، والأدب، والسينما . وتتعاون إسبانيا مع شقيقاتها ببلدان أمريكا اللاتينية الناطقة بهذه اللغة في هذا الاتجاه لتقوية وتعزيز الهويّة الثقافية باعتبارها من الأواصر القوية التي سوف تعمل على تحقيق تقارب أكبر وتعاون أوثق في ما بينها، في مختلف المجالات. وقد قامت هذه البلدان بالإضافة إلى تأليف معجم الشكوك اللغوية الموحّد بإصدار أوّل معجم لتوحيد النّحو الإسباني كذلك. والإسبان، وإلى جانبهم سكان البلدان الناطقة باللغة الإسبانية، على وعي تامّ بأنّ هذه الجهود لا بدّ أن تؤتي أكلها، إذ لا بدّ أن يعقبها ذيوع وانتشار أوسع للغتهم وثقافتهم؛ وبالتالي تقدّم اقتصادي وازدهار سياحي، خاصّة أنّ إسبانيا تعتبر من أكبر البلدان السياحية في العالم، إذ تعرف هذه الصناعة عندهم تقدّماً هائلاً، وتطوّراً مذهلاً. وتعتبر المآثر والمعالم الحضارية الإسلامية في الأندلس عنصراً هامّاً لجذب السّياح من مختلف أنحاء العالم، مثل قصر الحمراء بغرناطة (وهو المعلمة العربية الأولى في إسبانيا الأكثر مشاهدة من طرف السياح الأجانب)، بالإضافة إلى العديد من القصور والحصون والمعالم التاريخية الأخرى في مختلف المدن الإسبانية، كصومعة لاخيرالدا، وبرج الذهب في إشبيلية، والجامع الأعظم في قرطبة، وقصر الجعفرية بسراقسطة وسواها من المآثر الأخرى . "أنطونيو نيبريخا" هو واضع أوّل وأشهر كتاب في النحو الإسباني (1492)، وأوّل معجم في اللغة الإسبانية (1495)، أيّ إنه يوازي عندنا أبا الأسود الدّؤلي، واضع النحو العربي، والخليل بن أحمد الفراهيدي، واضع أوّل معجم في لغة الضّاد وعلم العروض هو "العيْن". يقول نيبريخا في مقدّمة معجمه مخاطباً الملكة الكاثوليكية إزابيلا: "اللغة القشتالية (الإسبانية نسبة إلى قشتالة) كانت باستمرار رفيقة الإمبراطورية الإسبانية". يريد نيبريخا أن يقول بهذا المعنى إنّ اللغة سلاح أو وسيلة أوّلية وأساسية لا يمكن أن يحلّ محلها شيء آخر لتأكيد الهويّة، والجذور، والحضور، ورفع صروح الحضارة لأيّ أمّة؛ وهي تعني كذلك مغزى الوجود الإسباني في أبعد الآفاق"، (يقصد أمريكا اللاتينية والبلدان التي كانت خاضعة للتّاج الإسباني في ذلك الإبّان). شهادات إسبانية حول هذا التأثير يؤكّد الدّارسون أنه لا يمكن الحديث عن اللغة الإسبانية وتراثها وغناها وانتشارها دون التطرّق إلى الينابيع التي تستمدّ منها أصولها، فعلى الرّغم من جذرها وأثلها اللاتينيين، فإنه معروف لدى جميع جمهرة الباحثين وغير الباحثين مدى التأثير الذي أحدثته اللغة العربية فيها على امتداد القرون الثمانية التي كانت الغلبة فيها من دون منازع لها في شبه الجزيرة الإيبيرية منذ الفتح الإسلامي عام 711 م إلى سقوط آخر معاقل الدولة الإسلامية في الأندلس وهي غرناطة 1492م، بل لقد استمرّ الوجود العربي بالأندلس حتى القرن السادس عشر عندما تمّ طرد وإبعاد آخر الموريسكيين، الذين ظلوا متستّرين في المدن والقرى والمداشر والمدائن الأندلسية، وقد بلغ عددهم عشرات الآلاف عام 1609. وهكذا لا ينبغي إطلاق الكلام على عواهنه في هذا المضمار، بل يجب إعطاء كل ذي حقّ حقّه، ووضع الأمور في نصابها إحقاقاً للحقّ وللتاريخ . جميع الباحثين والمثقفين، إسباناً كانوا أم غير إسبان، يؤكّدون التأثير البليغ الذي أحدثته الحضارة الإسلامية في الأندلس، ليس في ميدان اللغة وحسب، بل في مختلف مناحي الحياة، كما هو معروف بما لا يترك مجالاً للشكّ. وقد سلّم العديد من هؤلاء المثقفين الإسبان بالخصوص بهذه الحقيقة، بل ذهب بعضُهم أبعد من ذلك، إذ أكّد الرّوائيان الإسبانيان خوان غويتيسولو وأنطونيو غالا، وقبلهما شيخ المستشرقين الإسبان إميليوغارسيا غوميس، وسواهم، أنّه "يستحيل فهم واستيعاب تاريخ إسبانيا وثقافتها ولغتها على العموم فهماً واستيعاباً حقيقيين دون معرفة اللغة العربية". وهكذا يؤكّد "غالا" بالحرف أن اللغة الإسبانية في نظره "هي لغتان أو فرعان اثنان، فرع ينحدر من اللغة اللاّتينية، وفرع آخر ينحدر من اللغة العربية، إلى درجة تبعث القشعريرة في الجسم"، ويورد غويتيسولو: "يستحيل فهم واستيعاب تاريخ إسبانيا وثقافتها دون معرفة الثقافة العربية، إذ كلّ ما جاءنا حول هذا التاريخ وصلنا مُترَجماً، والترجمة هي نوع من الخيانة كما يقول المثل الفرنسي". الحاجة إذن ماسّة إلى ضرورة القيام بدراسة علمية، تاريخية، تحليلية معمّقة لهذه البديهية في الجامعات، والأكاديميات، والمعاهد العليا التي لها صلة بهذا الموضوع؛ فضلاً عن مختلف المؤتمرات، والندوات، والتظاهرات التي تُنظّم بين الوقت والآخر حول اللغة العربية، وحول التأثير المتبادل بين هذه اللغة أو تلك. الكاتب الاسباني الرّاحل "كاميلو خوسّيه سِيلا" (الحائز على جائزة نوبل في الآداب)، فاتته - ذات مرّة- وهو يحاضر في مؤتمر عالمي حول الرّوافد التي أثّرت في اللغة الاسبانية الإشارة صراحة إلى هذه الحقيقة، وإبراز فضل اللغة العربية على الإسبانية، وهو الذي يستعمل في حديثه اليومي وكتاباته عشرات الكلمات العربية أو من أصل عربي، بل هو الذي وضع رواية تحمل عنواناً عربياً واضحاً وهي روايته المعروفة "رحلة إلى القارية"، والقاريّة من السّنام أعلاه وأسفله، أو القرية. إلاّ أنّ هذا الكاتب سرعان ما عاد واعترف خلال ندوة دولية أخرى بأنّ لغتنا العربية ستصبح في قريب الأعوام من أولى لغات العالم أهميةً وانتشاراً حيث قال: "نحن الإسبان وسكان أمريكا اللاتينية نعرف جيّداً أننا أصحاب لغة سوف تصبح في المستقبل القريب من أعظم اللغات الحيّة في العالم، وأنتم تعرفون اللغات الثلاث الباقية وهي الإنجليزية والعربية والصينية". كلمات عربية وأمازيغية في اللغة الإسبانية الباحث عدلي طاهر نور يشير في مقدمة كتابه "كلمات عربية في اللغة الإسبانية إلى أنه "لا جدال في أنّ اللغة العربية ظلت لعدّة قرون في النصف الثاني من العصر الوسيط لغة الحضارة السّائدة في العالم. ولا عجب أن نسمع" ألبارُو القرطبي" وهو من أقطاب الثائرين على المسلمين في القرن التاسع الميلادي يستنكر انصراف المسيحيين في إسبانيا عن دينهم ولغتهم، ويندّد بشغفهم بعلوم المسلمين وباللغة العربية وآدابها، وإنفاقهم الكثير في سبيل اقتناء كتبها، وهو لا يجد بين ألف منهم شخصاً واحداً يستطيع أن يكتب باللاّتينية خطاباً صحيحاً إلى صديق له". خلال التواجد الإسلامي بشبه الجزيرة الإيبيرية، وبشكل خاص في الأندلس، تعايشت كلّ من اللغتين العربية والأمازيغية جنباً إلى جنب، بل كان لهما تأثير بليغ في لغة سيرفانطيس. وبحكم هذه المعايشة هناك العديد من الكلمات العربيّة والأمازيغيّة التي استقرّت فيها، يرى المُستشرق أمريكُو كَاسْترُو أن معظمَ الكلمات الإسبانية التي لها علاقة بالعدّ، والقياس، والأكل، والسّقي، أو الريّ، والبناء، كلها من أصل عربي، فَمَنْ يبني البِنَاء؟ ألبانييل Albañil(بالإسبانية) وهو البَنَّاء، أو الباني، وماذا يبني؟ القصر Alcázar، القبّة Alcoba، السّطح Azotea أوالسقف (وهي بالتوالي تُنطقُ في الإسبانية: ألكَاسَرْ، ألْكُوبَا، أسُوطييّا). وكيف وبماذا يسقي أو يروي الأرضَ؟ بالسّاقية Acequia، والجُب Aljibe، والبِرْكَة Alberca (وهي تُنطق في الإسبانية): أسِيكْيَا، ألْخِيبِي، ألبيركَا. وماذا نأكل بعد ذلك؟ السكّر Azúcar، الأرز Arroz، النارنج Naranja، الليمون Limón، الخُرشُف Alcachofa، التّرمُس Altramuces، السّلق Acelgas، السّبانخ Espinacas وهي تُنطق في الإسبانية بالتوالي: أسوُكار، أرّوث، نارانخا، الليمون، الكاشُوفا، ألترامويسيس، أسيلغا، إيسبيناكاس. وبماذا تزدان بساتيننا أو تُزَيَّنُ حدائقنا..؟ بالياسمين، Jazmín والزّهر Azahar، والحبَق Albahaca، وتُنطق بالإسبانية: أثهَار، خَاثْمين، وَألبَهاَكا.. بالإضافة إلى العديد من الكلمات الأخرى التي لا حصر لها، كلّها دخلت واستقرّت في هذه اللغة، وما فتئت الألسنُ تلوكها، والمعاجم تثبتها، وتنشرها، وتتباهى بها، والكتب والتآليف والمجلدات، والأسفار، والمخطوطات، والوثائق، والمظانّ تحفل بها بدون انقطاع إلى اليوم، سواء في إسبانيا أو ما وراء بحر الظلمات في مختلف بقاع، وضِيَع، وأصقاع العالم الجديد. وهناك كذلك العديد من الكلمات الأمازيغية التي استقرّت بدورها في اللغة الإسبانية مثل (تَزَغّايثْ) أو الزغاية Azagaya (وتعني الرّمح الكبير)، واستعملها كولومبوس في يومياته، بصيغة الجمع Azagayas (الزغايات) وهي موجودة ومُدرجة في معجم الأكاديمية الملكية للّغة الإسبانية، وغير موجودة في المعاجم العربية، لا "لسان العرب " ولا "مقاييس اللغة" ولا "الصّحّاح في اللغة" ولا "القاموس المحيط" ولا "العُباب الزّاخر"، لا في صيغة المفرد، ولا في صيغة الجمع، ما يدلّ الدلالة القاطعة على أصلها وأثلها الأمازيغي حسب ما يؤكّد المُستشرق الثقة المعروف رَيِنْهَارْت دُوزِي (بالهولندية: Reinhart Dozy (ليدن، هولندا، 21 فبراير 1820 الإسكندرية، مصر، 29 أبريل 1883. وكلمة (آش) تُجمع ب"أشّاون" وتعني القرون، ومنها اسم مدينة (الشّاون) المغربية. ويؤكّد صاحب "الإحاطة في أخبار غرناطة"، لسان الدين ابنُ الخطيب، أنّ النّهر الوحيد في شبه الجزيرة الإيبيرية الذي يحمل اسماً أمازيغياً هو "مدينة آش"، ونهر "وادي آش"، أيّ وادي القرن، وهو في الإسبانية "Guadix"، أو "río de Acci"، "Wadi Ash"، "río Ash" بالقرب من مدينة غرناطة إلخ. (وهكذا الأمر مع العديد من الأسماء المتعلقة بالقبائل وبعض الضّيع والمدن مثل مدينة Teruel الإسبانية (بالقرب من مدينة سراقسطة) المقتبسة من اسم مدينة "تروال" المغربية بالقرب من مدينة وزّان (وسط المغرب) (وهي من قبائل بربر صنهاجة)، ومدينة Albarracín بالقرب من ترويل الإسبانية، ويرجع اسمها إلى القبيلة البربرية "بني رزين"، التي عاشت بها واستقرت في ربوعها في القرن الثالث عشر، وآخر ملوكها حُسام الدّولة الرزيني، وهي تنحدر من "بني رزين"، وهي قرية أمازيغية جبلية مغربية، والكائنة في الطريق السّاحلي الرّابط بين تطوانوالحسيمة شمال المغرب..ومنها كلمات مثل Gomera من "غمارة" وهي عند الإسبان اسم جزيرة في الأرخبيل الكناري، de Gomera Vélez. وهذه الكلمة من اسم "بادس"، وهو (اسم شبه الجزيرة المحتلة الكائنة بجوار شاطئ " قوس قزح" وبني بوفراح ونواحيها بإقليم مدينة الحسيمة)، وإليها يُنسب الوليّ الصّالح أبو يعقوب البادسي، الذي ذكره ابن خلدون في مقدمته بكل تبجيل، كما تحمل اسمَه الكريم أعرقُ ثانوية في جوهرة البحر الأبيض المتوسّط مدينة الحسيمة. واسم بادس مُستعمَل بكثرة في إسبانيا مثل:Vélez Rubio, Vélez Malaga,Velez Benaudalla,Velez Blanco ,Rio Vélez, إلخ؛ ناهيك عن أسماء المنتوجات والصنائع التي أدخلها المسلمون إلى أوربا في مختلف الحقول والمجالات وما أكثرها. ويصل "أمريكو كاسترو" إلى نتيجة مثيرة فيقول: "إنّ فضائلَ الأثر والعمل عند المسلمين، والثراء الاقتصادي، والثقافي، واللغوي، والعمراني، وفي مختلف مظاهر الحياة اليومية الذي كان يعنيه هذا العمل، وهذا الأثر كلّ ذلك قُدِّمَ قُرْباناً وضحيةً من طرف الحكّام الكاثوليك والإسبان". ويختم "كاسترو" بكلماتٍ مغلّفةٍ بسخريةٍ مُرّة من بني طينته، مُوردا أنّ "ذلك الثّراء، وذلك الرّخاء، لم يكونا يساويان شيئاً إزاء الشّرف الوطني ."..!! . ويؤكد الباحث المكسيكي "أنطونيو ألاطورّي" في كتابه "ألف سنة وسنة من تاريخ اللغة الاسبانية"، أنه عندما عمد إلى كتابة الفصل المتعلق بتأثير الحضارة واللغة العربيتين في اللغة الإسبانية وجد نفسه يربط التاريخ باللغة العربية.. "فقد بهرني العهد المتعلق بوجود المسلمين في إسبانيا، وشعرت بانجذاب كبير نحو هذا العهد، وأبرز ما استرعى انتباهي فيه هو التسامح، فالمسلمون جعلوا مبدأ التسامح ديدنهم، كان الناس يعيشون في رغدٍ ورفاهيةٍ من العيش، لدرجة أنّ كثيراً من سكان إسبانيا القدامى أصبحوا مسلمين بطريقة عفوية وتلقائيّة.. لقد وجدوا طريقة الحياة عندهم مريحة وجميلة، واتّسمت مظاهر العيش بالرقيّ والازدهار في مختلف مناحي الحياة. ولا أنسى الفيض الهائل من الكلمات العربية التي استقرّت في اللغة الإسبانية وتقبّلها الناس طواعيةً واختياراً. لقد كان المسلمون الذين عاشوا في إسبانيا بحقّ أساتذة الغرب". كولومبوس والعربية ومن أطرف ما يمكن أن يحكىَ في مجال التأثير (اللغوي) العربي في المجتمع الإسباني هو أنّه حتى كريستوفر كولومبوس نفسه استعمل كلمات عربية وأمازيغية في يومياته، ليس فقط تلك التي لها علاقة بميدانه، أيّ علوم البحر، ومعارف الإبحار، بل في المسمّيات اليومية العادية. ويكفي أن نستدلّ في هذا الشأن بالفقرة الأخيرة من يومياته بعد وصوله إلى اليابسة، وهي الفقرة التي تحمل تاريخ السبت 13 أكتوبر1492 حيث يقول: "وعند الصّباح حضر إلى الشاطئ عدد غفير من هؤلاء القوم، ثمّ قدموا في اتّجاه المركب بواسطة "المعدّيات"..(في الأصل الإسباني كما نطقها كولومبوس "ألميدياس").. (مفردها المعديّة وهي كلمة أوردها معجم الدكتور عدلي طاهر نور في كتابه الآنف الذكر، وهي زورق صغير يعبر عليه من شاطئ إلى آخر، ومنها عدوة الأندلس، أو عدوة مدينتي سلا والرّباط على نهر أبي رقراق)، ثم يقول: "واستقدموا معهم لفائف من "القطن"، (وهي كلمة عربية كذلك ونطقها كولومبوس "ألغُودُون" كما تنطق اليوم في الإسبانية).. وكانوا يحملون "الزغّايات"، (وجاءت هذه الكلمة في يوميات كولومبوس باسم "أزاغاياس"، وهي كلمة أمازيغية سبقت الإشارة إليها آنفاً تعني اليوم عند الإسبان الحَرْبة القاطعة التي تثبت في الطرف الأعلى للبندقية التي كان يحملها رجال الحرس المدني)، ويضيف: "كما استقدموا معهم طيور "الباباغايُوس".. (جمع الببّغاء، وهو طائر يُطلق على الذّكر والأنثى، من خصائصه أنّه يُحاكي كلامَ الناس). وهكذا نجد في فقرة قصيرة جدّاً من هذه اليوميات الكلمات العربية والأمازيغية التالية: (المعديّة، القطن، الزغّاية، الببّغاء)، بل إنّ كولومبوس نفسه كان يحمل لقباً عربياً وهو "أمير البحر"، وينطق في الإسبانية مُحرّفاً بعض الشيء "ألميرانطِي". ومازال هذا اللقب يُستعمل في الإسبانية إلى اليوم . *عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا