في محاضرة ضمن سلسلة محاضراته العلمية الافتتاحية لمقره الجديد "منار المعرفة" استضاف مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة مؤخرا الباحث والمفكر المغربي مصطفى المرابط في أمسية فكرية ناقش فيها موضوع "الربيع العربي إلى أين؟". الأستاذ سمير بودينار رئيس المركز أشار، في تقديمه للمحاضرة التي احتضنتها قاعة المحاضرات الكبرى بالمركز وتابعها مئات من الحضور، إلى أهمية السؤال الذي يلتقي هذا الجمهور الكبير من الباحثين والمثقفين والمهتمين لتدارسه ومحاولة تقديم إجابات عليه، وهو سؤال يتمحور حول وجهة ما يسمى بالربيع العربي ومآلاته، خاصة وأنه انطلق متأبيا على أي قدرة مسبقة على الارتياد الفكري للتنبؤ به، متجها في مسارات متعددة تثير أسئلة كثيرة حول الاستراتيجية الحاكمة له، والفاعلين الحقيقيين والثانويين فيه، والمصالح الحقيقية التي يصب فيها هذا الحراك الماثل في أكثر من ساحة عربية، منوها إلى أن من يستضيفه المركز لمناقشة هذا الموضوع يجمع بين رؤية المفكر، وممارسة الباحث المتابع، بالنظر إلى رصيده العلمي جامعيا ومحاضرا ورئيسا لتحرير مجلة "المنعطف" الفكرية وواحدا من المستشارين الأكاديميين للمركز ثم مديرا لمركز الجزيرة للدراسات منذ تأسيسه قبل أن يعود إلى بلده. استهل المحاضر حديثه بالتأكيد على المجازفة الكبيرة التي تحملها محاولة تقديم جواب على السؤال موضوع اللقاء في هذه المرحلة، وذلك بالنظر إلى أن الوقت لا يزال مبكرا لاتضاح رؤية المشهد العربي الراهن في كامل أبعاده، إذ لا تزال أحداثه تتسارع وتفاصيله تتتابع لرسم مشهد متحرك باستمرار، وكمثال على ذلك ساءل المحاضر مصطلح "الثورة" الذي شاع استعماله في الخطاب الإعلامي اليوم لوصف طبيعة الحراك العربي، معتبرا أنه مصطلح لا يناسب طبيعة المشهد الراهن لاعتبارين أساسيين أولهما أن حركة الشارع العربي لم تكن مؤطرة بنخب قائدة تمثل ما يسمى في أدبيات الثورة ب"طليعة ثورية"، كما لم تكن لها رؤية واضحة للتغيير الذي تنشده. وفي هذا السياق أشار المحاضر إلى حالة الإفلاس المفاهيمي الذي باتت تعاني منها مؤسسات التفكير العربية من قبيل الجامعات ومراكز الأبحاث، والتي تجلت في عجزها الكامل عن التوقع، أو استشراف أي من ملامح المشهد في أكثر من بلد عربي، خاصة وأن كثيرا من المعطيات الأولية ذات العلاقة بمستويات الفقر والأمية وتآكل الطبقة الوسطى وتواضع معدلات تنمية حقيقية وشاملة وتخلف النظام السياسي وإفلاس النظام التعليمي... كانت متاحة باستمرار، غير أن الوقائع بعد ذلك أثبتت أن مجتمعاتنا أكثر تركيبا من قدرتنا كنخب على التتبع بله الاستشراف. وفي محاولة لاقتراح مسار لقراءة الحدث العربي لفت مدير مركز الجزيرة للدراسات سابقا الانتباه إلى الثالوث الذي ظل يشكل تحديا مزمنا في وجه نهضة هذه المنطقة وتحررها الكامل، وهو ثالوث "الفساد-الاستبداد-التبعية" والذي يمثل قاسما مشتركا بين كافة الدول التي تحركت فيها موجات الاحتجاج الشعبي. غير أن السؤال الأهم الذي ينبثق من تحليل طبيعة الحراك العربي وظروفه وسياقاته، هو سؤال ماذا بعد الحراك؟، لأن الذي يحدث اليوم في مجتمعاتنا هو عملية مزدوجة: عملية هدم وبناء في نفس الوقت، فإذا كانت عملية الهدم قد تمت ولازالت تتم بشكل مباشر من "الداخل"، فإن عملية البناء رهان معقد، يتربص بها "الخارج" بشكل مقلق. وفي هذا الإطار نبه المرابط إلى الضرورة القصوى للربط بين ما يحدث اليوم في عالمنا العربي وبين إطاره التاريخي ومحيطه المحلي والإقليمي والدولي، إذ لا يمكن قراءة ما يحدث اليوم في العالم العربي بعيدا عن آثار الأحداث الكبرى التي شهدتها المنطقة والعالم، بدءا من سقوط جدار برلين (كحدث تاريخي) مرورا بحرب الخليج وأحداث الحادي عشر من شتنبر، فغزو أفغانستان والعراق ثم العدوان على جنوب لبنان وغزة و الأزمة الاقتصادية العالمية، فضلا عن التطورات التكنولوجية المذهلة والثورة الإعلامية في العالم العربي، لهذا يرى المفكر المغربي أن هذا الحدث في الواقع لم يكن مفاجئا إلا لمن انطمست ذاكرته التاريخية . فإذا كان التعدد الأفقي (التنوع الإثني والقبلي والطائفي..) سمة تاريخية للمجتمع في المنطقة العربية مثل مصدر غنى لتجربته الحضارية، فإن تعددا عموديا طارئا على هذا المجتمع هو ذلك الذي مس مستوى المرجعية، الذي كانت له انعكاسات مازالت آثاره البالغة تتحكم في لحمة المجتمع واستقراره، بالإضافة إلى عدم انبثاق نخبة سياسية وفكرية قادرة على تقدير دقيق لهذا الإشكال التاريخي واستيعاب والتحديات الفكرية والمفاهيم الكبرى، الناتجة عن هذا الإشكال، التي واجهت هذا المجتمع في أفق صياغة رؤية تركيبية تتجاوز هذا الانكسار الحضاري، وكمثال على ذلك أورد المحاضر مفهوم الديمقراطية الذي تميز الموقف تجاهه بحالة من الشلل الفكري، داعيا إلى اجتهاد مزدوج لتجاوز هذه الحالة: يتجه فكريا نحو تجريد المفهوم من هالة القدسية التي أحيطت به باعتبارها مكونا إنسانيا وتاريخيا في الاجتماع السياسي الحديث، وتاريخيا بامتلاك الوعي اللازم للانتقال من الانحطاط إلى النهوض بإبداع صيغ خلاقة تتناسب والمرحلة التاريخية وتتجاوب مع أسئلة المجتمع. وقد وسع المحاضر من أفق السؤال موضوع المحاضرة ليعتبر أن أهميته لا تكمن فقط في آنيته وحجمه، وإنما أيضا في كونه معلما رئيسا من معالم هندسة المشروع المجتمعي المستقبلي للمنطقة، وبالتالي فإنه يقتضي الحفر في أعماق المعمار المجتمعي والبحث في معالم مستقبل هذه المجتمعات، مقترحا مدخلا لإنجاز هذه المهمة "الإبداع الفكري النقّاد"، الذي يؤسس لتقاليد نقدية للأطر التي ظلت تحكم فكرنا الاجتماعي والسياسي الحديث والمعاصر. وفي الختام دعا الأستاذ مصطفى المرابط إلى تجاوز المفهوم السياسي للإصلاح والتغيير والنهوض إلى النظر والتدبر في المشاريع المجتمعية وليس البرامج المجتمعية فحسب، والتي تشكل هذه اللحظة فرصة سانحة له. مقترحا لذلك مدخلين كبيرين للتفكير والنقاش المجتمعي وهما ضرورة إبداع صيغة جديدة للديمقراطية تتجاوز أعطاب التجربة التاريخية في التنزيل والتي ظلت حبلى بالأزمات والكوارث من جهة، ومن جهة ثانية استعادة جملة من الرؤى المتقدمة في هذا الاتجاه كمفاهيم "الكتلة التاريخية" التي دعا إليها المرحوم محمد عابد الجابري، و"التيار الأساسي للأمة" الذي يدعو إليه المفكر والمؤرخ العربي المستشار طارق البشري، كتعبير عن الحاجة الماسة إلى بناء ما سماه المحاضر ب"حلف ثقافي" بين النخب الثقافية من أجل صيانة الكيانات العربية في هذا الظرف الدقيق من التفكك لمواجهة ما يلوح في الأفق من تحديات تهدد مستقبل هذه المجتمعات في وحدتها واستقرارها، والذي قد يؤدي إلى حروب أهلية في غياب ترشيد الحراك الحالي في اتجاه تحقيق أهداف الإصلاح، الذي يستجيب لتطلعات الأمة ويشرك كافة أطيافها واتجاهاتها في التحرر والنهوض.