موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    البطولة: الدفاع الجديدي يلحق الهزيمة بشباب المحمدية في مباراة شهدت أعمال شغب بين الشوطين    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    إعطاء انطلاقة خدمات 5 مراكز صحية بجهة الداخلة وادي الذهب    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    دعوات لإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الفلسطينيين بالمدارس والجامعات والتصدي للتطبيع التربوي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    نظام العالم الآخر بين الصدمة والتكرار الخاطئ.. المغرب اليوم يقف أكثر قوة ووحدة من أي وقت مضى    الدرهم "شبه مستقر" مقابل الأورو    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    نهيان بن مبارك يفتتح فعاليات المؤتمر السادس لمستجدات الطب الباطني 2024    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    موجة نزوح جديدة بعد أوامر إسرائيلية بإخلاء حي في غزة    الأمن الإقليمي بالعرائش يحبط محاولة هجرة غير شرعية لخمسة قاصرين مغاربة    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    غوتيريش: اتفاق كوب29 يوفر "أساسا" يجب ترسيخه    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    "طنجة المتوسط" يرفع رقم معاملاته لما يفوق 3 مليارات درهم في 9 أشهر فقط    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شقير يناقش تطور الدولة بين المقاربة الانقسامية والمعالجة الاجتماعية
نشر في هسبريس يوم 24 - 12 - 2017

شكلت الدولة في المغرب موضوعا لأغلب الكتابات التي بحثت وتبحث في إشكالية تطور الدولة بالمغرب. ويمكن أن نصنف هذه الكتابات إلى ثلاث مقاربات أساسية:
أولا: المقاربة التاريخية
ثانيا: المقاربة السوسيولوجية
ثالثا: المقاربة الاقتصادية
وقد انبثقت المقاربة السوسيولوجية من خلال الدراسات الأجنبية التي اهتمت برصد البنيات الاجتماعية لمغرب ما قبل الاستعمار وبالأخص مفهوم القبيلة، الزوايا، أو المخزن أو الدولة بصفة عامة. ويمكن أن نصنف هذه الدراسات إلى الاتجاهات التالية:
- المدرسة الفرنسية التي تزعمها كل من روبير مونتاني وجاك بيرك وميشو بيلار.
- المدرسة الانجلو-ساكسونية التي تجسدت من خلال أعمال كل من جيلز وواتربوري.
- المدرسة المغربية التي بدأت معالمها تتضح من خلال بعض المنشورات الدورية (النشرة الاقتصادية والاجتماعية المغربية ومجلة أبحاث) وكذا من خلال إشراف بعض الأكاديميين على بض الأعمال الجامعية التي تصب في الميدان السوسيولوجي.
وقد أخذت هذه الأخيرة على عاتقها في البداية انتقاد المرتكزات النظرية التي استندت إليها المدرستان السابقتان؛ وذلك لسببين رئيسين: أولهما ظاهر يتجلى في فضح "الخلفية الاستعمارية" لهاتين المدرستين، وخاصة الفرنسية، والثاني يكمن في رغبة السوسيولوجيين الجدد في إثبات ذاتهم وطموحهم إلى "مغربة" القطاع السوسيولوجي بالمغرب.
لكن إلى جانب ذلك، اهتمت هذه المدرسة أيضا بملامسة البنيات السياسية المغربية، وخاصة تطور الدولة بالمغرب. ويمكن أن نحدد الكتابات التي اهتمت بهذه الاشكالية في اتجاهين اثنين: الطرح التصنيفي والطرح الترصيفي.
1 - الطرح التصنيفي
يرتكز هذا الطرح على إشكالية رئيسية تتمحور حول التساؤل التالي: ما هو الشكل والمضمون الذي اتخذه الحكم السلالي في المغرب؟
وللإجابة عن هذا التساؤل، يتم تحديد الإطار المعرفي الذي سيبحث من خلاله عن إجابة عملية لهذه الاشكالية، حيث تستدعي الاجابة على هذا السؤال محاولة رصد مفهوم الدولة عبر التاريخ السياسي المغربي ابتداء من دولة البرغواطيين والأدارسة وانتهاء بدولة العلويين.
أما مسلمات هذا الطرح فقد تم تحديدهما في معطيين اثنين: الواقع القبلي والميراث السياسي الاسلامي. وهكذا يشير صاحب هذا الطرح إلى ما يلي:
"إن الحكم السلالي في المغرب كواقع اجتماعي وسياسي يجد جذوره الاجتماعية في تواجد عاملين أساسيين: الواقع القبلي الذي يميز ويتميز به المغرب، وكذا الميراث السياسي الاسلامي كفقه وكتاريخ".
من هنا خلص صاحب هذا الطرح إلى وضع تصنيف لمختلف الدول التي عرفها المغرب من خلال الاستناد إلى معيارين أساسيين: العصبية والشرف.
أ - الدولة والعصبية
من خلال هذا المنظور، عرف صاحب هذا الطرح الدولة القبلية بأنها تلك الدولة التي "تنبثق عن حركة قبلية تتجسد في المطالبة بالسلطة السياسية من طرف قبيلة أو اتحاد قبلي؛ وذلك عبر عصبية بدوية تطعمها دعوة دينية تنادي بإصلاح ديني-سياسي-اجتماعي وتطعن في الشرعية السياسية للدولة القائمة".
ومن أهم مميزات هذه الدولة القبلية ما يلي:
- تكون هذه الدولة عبارة عن مطالبة إحدى الاتحاديات القبلية الكبرى بدورها في ممارسة السلطة.
- تكون هذه الدولة تعبيرا عن الخصوصيات البربرية وعن الإدارة في الاستقلال السياسي-الديني.
- تكون العلاقة بين السلطان والفقهاء والزوايا شبه متساوية.
- طابع هذه الدولة هو الجهاد الخارجي.
ورغم أن هذه الخصائص تتميز بها مختلف الدول القبلية، إلا أن هناك خاصية معينة استند إليها صاحب هذا الطرح ليضع تصنيفا آخر لهذه الدولة. ويتجلى هذا المعيار في مسألة التبعية؛ فهناك دول تميزت بطابعها الانفصالي وتتحدد في: دولة برغواطة، ودولة الأدارسة.
ودول تميزت بطابعها التبعي وتتحدد في: دولة بني أبي العافية، ودولة بني يفرن، والدولة المغراوية.
ودول استقلت نهائيا عن الخلافة المشرقية وتتجلى في: دولة المرابطين، ودولة الموحدين، ودولة المرينيين.
وقد تم تحديد فترة امتداد الدولة القبلية ما بين الفتح العربي للمغرب وانقراض الدولة المرينية. لكن "هذا لا يعني أن الدولة القبلية لم تكن معروفة قبل الفتح العربي-الإسلامي؛ فتجارب ماسينسا وجوغورتا كانت تجارب سياسية قبلية...".
كما يؤكد هذا الطرح على أهمية الدعوة إلى قيام واستمرارية الدولة القبلية المغربية؛ حيث تجلت هذه الدعوة السياسية في ترسيخ المذهب المالكي في المغرب؛ وذلك منذ المراحل الأولى لقيام هذه الدولة "فتبعية الدول الزناتية للخلافة الأموية مهدت الطريق أمام ترسيخ المذهب المالكي في المغرب، والذي سوف يكرس مع وصول المرابطين إلى الحكم".
ووفق هذا الطرح، فإن ارتكاز الدولة القبلية على الدعوة سيؤدي إلى إعطاء مكانة سياسية متميزة للفقهاء؛ وذلك للأسباب التالية:
- احتكار الفقهاء لمعرفة اللغة العربية.
- إضفاء الشرعية السياسية على الحكم.
وفي هذا يقول اكنوش: "لفهم دور الفقهاء في الدولة المرابطية، لا بد من ضبط المعالم النظرية للإسلام المرابطي. فمنذ دعوة عبد الله بن ياسين، ونظرا لقلة أو لعدم معرفة برابرة الصحراء باللغة العربية، جاء إسلاما بسيطا يعتمد بالأساس على الفروع من صلاة وصوم وزكاة، وينفي الأصول وكل ما يتصل بالإيمانيات وعلم الكلام. فكان بذلك مشجعا للفقهاء على أن يلعبوا دورا كبيرا في المجتمع المرابطي قصد تدبير شؤون العبادات بين الجمهور. بل تعدوا ذلك وأصبح لهم تأثير بالغ في الأمور السياسية العامة...".
ولم يقتصر هذا الأمر على المرابطين فقط، بل استمر أيضا مع الموحدين وكذا مع المرينيين الذين عملوا على تكريس المذهب المالكي من خلال عدة إجراءات رسمية، من أهمها:
- بناء المدارس
- وضع برامج دراسية إجبارية تحرص على دراسة كتب الخليل ومالك
- الإشراف على حج المغاربة للديار المقدسة
وفي هذا الإطار يشير اكنوش إلى ما يلي:
"قام السلطان أبو سعيد عثمان المريني سنة 1321 بإعطاء نقطة الانطلاقة ببنائه لمدرسة البيضاء بفاس الجديدة ثم بنيت فيما بعد مدارس الصهريج والعطارين والطالعة بسلا وكذلك مدارس المصباحية والبوعنانية. وقد كان يصرف على هذه المدارس انطلاقا من عائدات الأملاك المحبسية... بالإضافة إلى هذا وضعت السلطات المرينية برامج دراسية إجبارية داخل هذه المدارس. كما جعلت من كتب الخليل ومالك كتبا رسمية وإجبارية في دراسة الفقه الإسلامي. ومن النتائج الأساسية التعليمية الانتاج الهائل للكتب الفقهية التي تتطرق أساسا للفروع لا للأصول إلى درجة أن المغرب صار يصدر للخارج وخاصة إلى الشرق فقهاء مالكيين لا معين كبرهان الدين الصنهاجي وبدر الدين الغماري وأحمد بن يعقوب الغماري".
ب - الدولة والشرف
بالموازاة مع الخصائص التي تتميز بها الدولة القبلية، يحدد اكنوش سمات معينة تتميز بها الدولة الشريفية، وتتمثل فيما يلي:
- عدم الانتماء إلى قبيلة أو اتحاد قبلي معين، فهدفها هو التعالي على القبائل ومحاولة إخضاعها لسلطة موحدة.
- ظهور السلطان الشريفي، بخلاف السلطان العصبوي، بمظهر الحكم الأجنبي الذي لا يخوض في غمار الصراع العصبي.
- الدولة الشريفية لا ترتبط في شرعيتها بمركز خلافي معين.
- علاقة السلطان بالفقهاء وأرباب الزوايا علاقة متمايزة ومتفاوتة؛ فالسلطان يظهر بمظهر المحتكر للإنتاج الرمزي، ويبقى مدبرو المقدس اليومي الآخرون في موقع التبعية والولاء.
- طابع هذه الدولة يبقى الجهاد الدفاعي ضد الغزو الأوروبي وإعادة إحياء السنة السياسية الدينية الاسلامية، وكذا تقوية الجبهة الداخلية وخلق شروط بناء الدولة الأمة.
من خلال هذه الخصائص، يتضح أن الباحث رسم حدودا فاصلة بين الدولة القبلية والدولة الشريفية. ومما يؤكد ذلك إشارته التالية:
"إن السلطة السياسية المعتمدة على مفهوم الشرفاوية لم تظهر في المغرب إلا خلال نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر الميلادي، فهو يعني نهاية الدوران السلالي حول الحكم والمنبعث من أصل قبلي. وهذه القطيعة السياسية التي حققتها الدولة الشريفية مع الدولة القبلية أفضت، حسب الباحث، إلى تغيير شامل، في بنية السلطة سواء من حيث ركائزها أو وسائلها أو أهدافها.
- ففيما يخص ركائز السلطة؛ فالدولة الشريفية أصبحت تعتمد في جوهرها على الانتماء للبيت النبوي، وعلى الدور الذي يقوم به الشرفاء كنخبة اجتماعية وسياسية".
- أما وسائل السلطة، فإنها تقوم بالأساس على إنتاج سياسة دينية ترمي إلى احتكار الخطاب الديني والسياسي في البلاد، مما يفسر بالطبع كل الاجراءات التي اتخذها السلاطين، من مختلف الأسر الحاكمة، ضد كل منافس أو معارض للسياسية الرسمية. كقتل محمد الشيخ للونشريسي والزقاق والخطيب أبي علي حرزوز، وإعدام السلطان محمد المتوكل للفقيه عبد الله محمد الأندلسي، وسجن السلطان المنصور الذهبي لأحمد بابا السوداني، وسجن المولى إسماعيل لقضاة بمكناس وإعدام بعضهم ثم امتحانه للفقهاء في مسألة تملك عبيد البخاري.
- ويكمن هدف السلطة في خلق وترسيخ دولة مركزية تتجاوز كل الخصوصيات القبلية وتحاول تفكيك كل الفعاليات الجهوية؛ ذلك أن "هدف الدولة الشريفية التعالي على القبائل ومحاولة إخضاع هذه الأخيرة لسلطة موحدة ومحايدة بالنسبة للنزاعات القبلية. وخلق شروط الدولة-القومية".
وعموما، فإن ميزة هذا الطرح تكمن في الطموح إلى تحديد ورصد التطور الذي عرفته المؤسسات السياسية بالمغرب. ويتجلى هذا بوضوح من خلال إشارة الباحث التالية: "نخص التاريخ السياسي والمؤسساتي المغربي بالأولوية الأولى؛ وذلك من الفتح العربي الاسلامي إلى يومنا الحاضر متتبعين في ذلك كل التغيرات والتطورات التي عرفها المغرب في الميدان المؤسساتي".
كما تكمن الميزة الثانية لهذا الطرح من خلال محاولة تفسير العملية السياسية التي كانت وراء إحياء المؤسسات التراثية منذ منتصف الثمانينات والعمل على إدماجها في مؤسسات الدولة العصرية المغربية. بالإضافة إلى ذلك، هناك ميزة ثالثة يتضمنها هذا الطرح، تتجلى على الخصوص في محاولة تفكيك الخطاب الايديولوجي للنظام السياسي القائم على اعتبار "العرش العلوي نفسه الوريث الوحيد لأربعة عشر قرنا من التاريخ السياسي السلالي المغربي، كما يعتبر نفسه ضامن هذه الاستمرارية السلالية. فالخطاب السياسي للملكية حول ذاتها يتمحور باستمرار حول كون هذه المؤسسة وريثة المملكة الإدريسية الفاسية. بالإضافة إلى هذا يربط الخطاب الايديولوجي المؤسسة الملكية بالدين الاسلامي، ويجعل من الإثنين -الملكية والإسلام-رمز الوحدة المغربية...".
كما تتجلى الميزة الرابعة لهذا الطرح في اهتمامه منذ البداية بانتقاد الكتابات السوسيولوجية والانثربولوجية التي أغفلت ربط الواقع القبلي المغربي بالسياق التاريخي والسياسي، على عكس الاخباريين والمؤرخين الذين كانت لهم "نظرة مزدوجة للقبيلة، عرقية وسياسية. فهم لا ينظرون إليها إلا كوحدة سلالية لها علاقة متينة بإشكالية السلطة والدولة".
غير أن حدود هذا الطرح تتجسد من خلال منطلقاته الفكرية والمنهجية. فهذا الطرح يرتكز بالأساس على البحث في تطور الحكم السلالي بالمغرب. لكن ما هو الحكم السلالي؟ في الحقيقة، لا يوجد ضمن هذا الطرح أي تعريف محدد لماهية الحكم السلالي. هناك فقط تشخيص لهذا الحكم الذي اعتبر واقعا اجتماعيا وسياسيا مرتبطا بتواجد النظام القبلي والميراث الاسلامي. لذا فالحكم السلالي، وفق هذا المنظور، يعتبر ماهية سياسية متعالية "لا يمكن أن نرصد تطورها إلا من خلال الأشكال السياسية التي تتخذها. وتكمن هذه الأشكال بالطبع في مفهوم الدولة". لكن مفهوم الدولة يبقى غامضا وغير محدد. ويتجلى ذلك من خلال التصنيف الذي تم به تحديد أشكال الحكم السلالي:
- فهناك دولة قبلية مقابل دولة شريفية
- لكن ضمن كل دولة من هاتين الدولتين هناك دول: فالدولة القبلية تتضمن دولة برغواطة، دولة الأدارسة، دولة مغراوة، دولة المرابطين... في حين إن الدولة الشريفية تتضمن دولة السعديين ودولة العلويين.
مما يجعل المرء يتساءل عن حدود التمييز بين الدولة القبلية وتفريعاتها (دولة برغواطة مثلا)، ما دمنا نطلق التسمية نفسها على كلتا الدولتين.
وإذا اعتبرنا أن معيار العصبية قد يشكل معيارا مقبولا للتمييز بين الدولة القبلية والدولة الشريفية، فمعيار الشرف يبقى مع ذلك غير مقنع بدليل أن الدولة الإدريسية، التي تم اعتبارها ضمن نموذج الدولة القبلية، هي في إحدى خصائصها دولة ينتمي مؤسسوها إلى السلالة النبوية.
بالإضافة إلى ذلك، فالشرف كان مثار جدل بين الأسر التي تدخل ضمن نموذج الدولة الشريفية، مما يفضي إلى القول بأن الشرف لم يكن أبدا عنصرا حاسما في الوصول إلى سدة الحكم، وهذه هي النتيجة التي تم التوصل إليها ضمن هذا الطرح؛ حيث تمت الإشارة إلى ذلك من خلال ما يلي:
"على كل حال، فإن الطعن في النسب الشريف للسعديين، يعني سياسيا واجتماعيا أن موضوع الانتساب للشجرة النبوية لعب دورا متواضعا في وصولهم للحكم".
ويبلغ التناقض مداه، حينما يتم ربط نشأة دولة السعديين والعلويين بظروف سياسية بعيدة عن معطى الشرف. ويظهر ذلك من خلال ما يلي:
"تختلف ظروف ظهور الشرفاء السعديين عن ظروف ظهور الشرفاء العلويين، فإذا كانت ظروف ظهور الأولين تتعلق أساسا بظاهرة الاحتلال الأجنبي للساحل المغربي، فإن ظروف ظهور الآخرين تمحورت بالأساس حول إعادة توحيد البلاد وإنعاش الجنوب المغربي اقتصاديا".
2 - الطرح الترصيفي
يدخل هذا الطرح ضمن منظومة الأبحاث التي اهتمت برصد التطور الذي عرفته الدولة العربية المعاصرة، سواء في بعدها القومي أو بعدها القطري. فعلى المستوى القومي، يميز العروي بين نوعين من الدول: الدولة السلطانية ودولة التنظيمات. وعلى المستوى القطري، يرصد الهرماسي انتقال الدولة المغاربية من دولة مخزنية إلى دولة باترمونيالية.
وفي هذا السياق، يأتي كتاب بلمليح (البنيات السياسية للمغرب في عهد الاستعمار) ليطرح منظورا جديدا في تحديد التطور الذي عرفته الدولة المغربية عبر تاريخها. وتتجلى جدة هذا الطرح في البعد الديناميكي الذي يميزه؛ وذلك من خلال رصد حثيث لعملية تطور الدولة المغربية من دولة سلطانية إلى دولة تراصفية أو سديمية (Etat sedimental).
وهكذا حدد صاحب هذا الطرح عملية التطور هذه من خلال ثلاث مراحل أساسية:
- المسار التاريخي للدولة السلطانية
- تكون الدولة التراصفية
- مأسسة النظام التراصفي.
أولا: المسار التاريخي للدولة السلطانية
ينطلق هذا الطرح من مسلمة أساسية تتلخص في هشاشة البنيان السياسي للدولة السلطانية منذ مراحل تكونها الأولى. وتتجسد هذه الهشاشة في التشرذم السياسي الذي كان يعرفه المغرب، سواء قبل الاحتلال الروماني أو بعده. فالاحتلال الروماني للمغرب، نتيجة لطبيعة هذا الاحتلال وأهدافه الاستراتيجية، لم يستطع تغيير هذه الوضعية؛ حيث بقي المغرب حتى بداية الفتح العربي "مجالا سياسيا متشرذما وتعدديا"، بل إن طبيعة التقسيم الإداري الروماني للمغرب قد زادت من حدة هذا التشرذم.
ورغم المنظور السياسي الجديد الذي حمله الفاتحون العرب إلى المغرب، والذي يقوم بالأساس على ضرورة تبني مفهوم الوحدة السياسية، ورغم المحاولات التي قام بها الأدارسة لتكريس هذا المفهوم وتكوين معالم مركز سياسي يتجلى في بناء عاصمة سياسية للبلاد، فإن هشاشة البنيان السياسي للدولة السلطانية بقي مستمرا حتى في عهد الأسر الحاكمة التي أتت بعد الأدارسة.
وقد حاول بلمليح أن يرصد عوامل هذه الهشاشة السياسية من خلال الأسر الحاكمة التي تعاقبت على عرش المغرب؛ حيث خلص إلى أن كل واحدة من هذه الأسر قد عانت من هذه الهشاشة، ولم تتمكن، رغم كل الجهود السياسية التي بذلتها، من إيجاد حل لهذا المشكل:
- فالحكم المرابطي لم ينجح في إقامة جهاز حكومي مستقر، ولم يستطع حل لا المشكل العسكري ولا التنظيمي ولا الايديولوجي. ويفسر الباحث هشاشة الحكم المرابطي بطبيعة البنيات الاجتماعية القائمة والمضمون الإيديولوجي للمشروع السياسي المرابطي. "ففي مجال ذي طابع انقسامي، تقوم السلطة المركزية بالأساس على القوة العسكرية؛ إذ إن مجموعة ذات طابع انقسامي تنفصل عن البنية القبلية العامة لتفرض سلطتها. وبالتالي ففرض الطاعة يرتبط بالأساس بميزان القوى. أما على المستوى الايديولوجي، فالاستناد إلى الدين يقوم بوظيفة إدماجية تسهل عملية الاستيلاء على السلطة. لكن ثبت أن أي حكم ينزلق إلى المجال الاصلاحي عادة ما يضعف نفسه؛ بحيث يكثر من منافسيه السياسيين ويجعل من الحاكمين هدفا سهلا للمناوئين".
- أما الحكم الموحدي فرغم تشدده الايديولوجي وبنيته التنظيمية المتطورة نسبيا، فقد بقي يعاني من تناقضات على المستوى الضرائبي والعسكري وكذا على مستوى سياسته الخارجية؛ الشيء الذي فسره الباحث بما يلي:
"إن هشاشة الدولة الموحدية تكمن في ثلاثة عوامل: مضمون المشروع السياسي، وطبيعة القوة الاجتماعية التي اعتمد عليها، وأهمية العامل الخارجي".
- في حين إن الحكم المريني، الذي ظهر في خضم تحولات اجتماعية وسياسية داخلية ودولية عميقة، تميز على الخصوص بمحاولته الاستقلال عن المجتمع القبلي؛ وذلك من خلال الاعتماد على موارد خارجية وتكوين جيش من بني هلال كلف بجمع الضرائب. أما على المستوى الايديولوجي، فقد ساعد على ترسيخ المذهب المالكي.
ورغم كل ذلك، فإن الحكم المريني لم يسلم من التشرذم السياسي وظهور قوى سياسية معارضة عملت على الاطاحة به. وبحلول القرن 16 الميلادي، واجه المغرب عدة تغيرات سياسية داخلية وخارجية حددت شكل الحكم المركزي وطبيعة أسس الشرعنة التي سيستند إليها. كما واجه المغرب تهديدات خارجية تمثلت بالأساس في الامبريالية الايبرية والتركية وتحول طرق التجارة.
- وللتأقلم مع هذه المستجدات، ظهر الحكم السعدي معتمدا على الشريفية كأساس جديد للشرعية السياسية، وعى نظام مخزني متطور يتجاوز النخب القبلية، وعلى جيش يتكون من عناصر أجنبية. وقد تطلب كل ذلك موارد مالية ضخمة حاول السعديون أن يستخلصوها من الحملات الخارجية واحتكار بعض النشاطات التجارية بعدما أثقلوا كاهل الشعب المغربي بالضرائب. لكن رغم كل هذه التجديدات السياسية والتطويرات التنظيمية، فقد "بقي مشكل الهشاشة السياسية مطروحا، الشيء الذي أدى إلى انهيار الدولة كما ينهار قصر من الورق".
ويفسر الباحث هشاشة الحكم السعدي بالعوامل التالية:
- فشل الحملات الخارجية في تأمين الموارد المالية للدولة.
- اضطرار الحكم السعدي للتعامل مع قوى سياسية داخلية، سواء عبر التحالف أو عبر الحرب.
- اعتماد الحكم السعدي على الشرف جعله يواجه عدة معارضين للسلطة وطامحين للاستيلاء على الحكم بدعوى انتمائهم للبيت النبوي.
من هنا ظهرت الدولة العلوية في إطار السيرورة السياسية المعادة نفسها، التي تقضي بإعادة توطيد السلطة المركزية لكن في مناخ سياسي داخلي خاص يتميز بظهور الزوايا كمراكز لسلطة موازية. لذا فإن المشروع العلوي قد تحقق في إطار تشرذم سياسي اضطر معه الحكام إلى اللجوء إلى سياسة تخلط بين الدبلوماسية والقوة والتحكيم. ومع ذلك فقد حاول بعض السلاطين أن يقووا من استقلالية الدولة عن المجتمع القبلي وذلك بإنشاء جيش من العبيد يعمل على ضمان استقرار الدولة والبحث عن موارد مالية خارجية من خلال التعامل التجاري مع أوروبا. غير أن هذا التعامل سيرهن موارد الدولة بالتجارة الأوربية؛ الشيء الذي ستستغله القوى الأوروبية للتدخل في المصير السياسي للمغرب.
بعدما رصد الباحث مظاهر الهشاشة السياسية للدولة السلطانية والعوامل التي كانت وراء ذلك، حاول رصد التهديدات الخارجية التي بدأت تواجهها منذ منتصف القرن 19. وقد تمثلت هذه التهديدات في التدخل الأوروبي مستخدما في ذلك عدة أساليب تمثلت على الخصوص في:
- أساليب تجارية (تكثيف التجارة مع المغرب وعقد اتفاقيات تجارية معه)
- أساليب قانونية تمثلت في الشبكات القنصلية ونظام الحماية
- أساليب دعائية تجسدت في البعثات التبشيرية والتطبيب.
وأمام هذا الخطر الذي بدأ يتهدد الحكم السلطاني، والذي تمثل على الخصوص في تقليص مظاهر سيادة الايالة الشريفة، عمد السلاطين إلى تدشين مجموعة من الاصلاحات شملت عدة ميادين من أهمها:
- الميدان العسكري؛ وذلك من خلال تكوين نواة لجيش نظامي.
- المجال الإداري؛ وذلك من خلال خلق بعض الأجهزة وبعث بعض الأطر للتكوين سواء في مصر أو أوروبا.
- المجال الضرائبي؛ وذلك بفرض ما يسمى بالمؤونة التي أثارت حفيظة العلماء والشرائح الحضرية.
لكن كل هذه الإصلاحات باءت بالفشل-نتيجة ليس فقط لغياب اتفاق حولها-بين المخزن وأوروبا والشعب، ولكن أيضا لأسباب عميقة فسرها الباحث بما يلي:
أولا: إن المجتمع المغربي في القرن 19 لم يكن متوفرا على الشروط التي تسمح بقيام طبقة اجتماعية تشكل عنصر تغيير وتكون صاحبة مشروع اجتماعي على شاكلة البرجوازية الأوروبية.
ثانيا: إن الإصلاحات التي كانت تنادي بها النخبة المغربية كانت ترتكن إما إلى منظور سلفي أو منظور تقني.
ثالثا. كان الهدف من هذه الإصلاحات هو إنقاذ الدولة السلطانية أو تقويتها، في حين تم تغييب المجتمع المدني.
رابعا: كانت الاصلاحات التي تطالب بها القوى الأوروبية تستهدف بالأساس إضعاف الدولة السلطانية وليس توطيدها، بالإضافة إلى ذلك كان منطق الاصلاحات التي تطالب بها لا يتلاءم ومنطق الدولة السلطانية.
وقد تمثل فشل هذه الإصلاحات في المصير المحتوم الذي انتهت إليه الدولة السلطانية المغربية؛ بحيث أرغمت على التنازل عن سيادتها لكل من فرنسا وإسبانيا.
ثانيا: تكون الدولة التراصفية
يعتبر الباحث أن إدخال المؤسسات الاستعمارية يشكل منعطفا هاما في تاريخ الدولة بالمغرب. فتلاقي شكلين للدولة ومنطقين سياسيين ونوعين من الهيكلة السياسية يشكل ما يطلق عليه الباحث عملية "ترصيف سياسي"، أو ما سماه بالدولة التراصفية (Etat sédimental). وقد تكونت هذه الدولة-في نظر الباحث-انطلاقا من 1912، حيث إنه في الوقت الذي كانت فيه الدولة السلطانية في مرحلة احتضار، تسرب الحكم الاستعماري، لا لكي يقضي على هذه الدولة، بل لكي يحافظ عليها من خلال منحها وظائف خاصة في سير النظام التراصفي système sédimental)).
وقد تم إرساء هذه الدولة من خلال ثلاث مراحل أساسية:
1 - فرض الحماية على المغرب
يعتبر الباحث أن الحماية التي فرضت على المغرب ترتبط بالأساس، وبشكل وثيق، بالجنرال ليوطي. فهذا الأخير هو الذي أعطى لهذا المفهوم "معنى مغربيا بحتا".
بالإضافة إلى الجوانب القانونية التي يتضمنها هذا المفهوم والانعكاسات السياسية الداخلية والخارجية التي ترتبت عنها، فالحماية شكلت مرحلة لتطبيق أفكار ليوطي التي أثرت بشكل كبير في التاريخ الاستعماري للمغرب؛ وذلك للأسباب التالية:
- السبب الأول: يتجلى في أن ليوطي يعتبر أول من أدخل الإصلاحات على المجال المؤسسي بالمغرب؛ حيث مر مسلسل هذه الإصلاحات من مراحل ستة:
- 1914-1912 التي تميزت بتحويل سلطة القرار من القصر إلى الإقامة العامة ومركزة المخزن بالرباط.
- 1917-1920 التي تميزت بإنشاء مديريات تقنية كمديرية الأشغال العمومية ومديرية الفلاحة.
- 1926-1927 التي تميزت بتوسيع المشاركة في مجلس الحكومة.
- 1944-1947 التي تميزت بخلق مجلس للوزراء.
- 1952-1953 التي تميزت بإدخال عدة تعديلات على الجوانب التشريعية والتقريرية لمجلس الوزراء وتقوية صلاحياته.
- السبب الثاني: يتلخص في أن ليوطي قد كون جيلا من الرجال الذين استمروا في التأثير على الميكانيزمات المؤسسية في المغرب.
2- التحكم في المجال القبلي
بالإضافة إلى هذا، شكلت الإصلاحات أداة لتقوية الدولة في مواجهة المجتمع القبلي؛ بحيث لجأت هذه الأخيرة إلى عدة أساليب لتفكيك البنية القبلية من أهمها:
أولا: الأساليب الردعية وتتمثل في:
- استخدام العنف أو ما كانت تسميه الأدبيات الاستعمارية بعمليات التهدئة.
- الاستخبار عن القبائل المتمردة؛ وذلك من خلال القيام بدراسات ومونوغرافيات سوسيولوجية واقتصادية وجغرافية حولها.
- اللجوء إلى الحصار لخنق القبائل اقتصاديا وإجبارها على التسليم والطاعة.
ثانيا: الأساليب الإدارية وتتجسد في:
- التأطير الإداري
- التطبيب
- بناء الطرق والمدارس.
وبهذه الوسائل استطاعت الدولة أن تقتحم المجال القبلي وتسيطر عليه، لتشرع بعد ذلك في تقطيعه إداريا. وقد تجلت فعالية التأطير الإداري الاستعماري في ضبط المجال القبلي والتحكم فيه نتيجة لاعتماده على نظام مركزي صارم يقوم بالأساس على ضرب الأسس التنظيمية للقبائل التي تتمثل في الجماعة، وكذا التكريس القانوني لنظام القايدية.
وباستخدام مختلف هذه الأساليب استطاعت الدولة التراصفية أن تقيم في قلب المجتمع القبلي المغربي وأن تحطم قواه التنظيمية التقليدية، وبالتالي داوم الحكم الاستعماري على فرض رقابة على المجتمع المستعمر وتأطير مجاله ومتابعة تحركاته.
لذا فقد تميزت الدولة التراصفية بخاصية انفردت بها عن الدول المركزية الأخرى، وتتمثل هذه الخاصية في "الحرص الدائم على التقسيم في بحثها المستمر عن التوحيد".
ثالثا -مأسسة النظام التراصفي
إن النظام التراصفي الذي تم تدشينه في المغرب من خلال إرساء المؤسسات الاستعمارية بدأ يتمأسس بشكل حثيث منذ عشرينات هذا القرن. وقد تم اللجوء في مأسسة هذا النظام إلى الدعائم التالية:
1 - الدعائم السياسية:
انطلاقا من بعض التصورات المحددة للمجتمع المغربي، وضعت السلطات الاستعمارية سياسة للتعامل بها مع مكونات هذا المجتمع والتحكم فيه. وقد انطلقت هذه السياسية الاستعمارية من مبادئ سياسية محورية تتلخص في:
أ - مبدأ الأصالة أو المحافظة الذي يقوم بالأساس على الحفاظ على البنية السلطانية؛ الشيء الذي أتاح لسلطات الحماية أن تعتمد على النخب التقليدية المحلية وفي الوقت نفسه إضفاء الشرعية على السياسة الاستعمارية.
ب - النزعة البربرية التي كانت تقوم على محاولة إدماج جزء من المجتمع المستعمر ثم العمل على التفريق بين شرائح هذا المجتمع لمواجهة الأفكار القومية والسلفية.
ج - التقسيم سواء على المستوى الترابي (3 مراكز نفوذ) أو المؤسسي (أجهزة فرنسية وأجهزة مغربية) أو القضائي (محاكم فرنسية، محاكم إسلامية، محاكم يهودية، محاكم عرفية) أو على المستوى التعليمي (مدارس إسلامية، مدارس بربرية) وحتى على المستوى العمراني (مدن جديدة -مدن قديمة).
د - مراقبة العالم القروي؛ بحيث فرضت السلطات الاستعمارية مراقبة مشددة على الوسط القروي حتى لا تتسرب إليه الحركة الوطنية. فقوت الجهاز القايدي، وفرضت رخص التنقل وواجهت الدعاية الوطنية في الأسواق.
2 - الدعائم الاجتماعية:
تم الاعتماد في هذا الإطار على دعامتين أساسيتين: الجهاز الإداري والنخب الاستعمارية.
أ - الجهاز الإداري كوسيلة للمأسسة:
شكلت الإدارة أهم مؤسسة في النظام التراصفي بوصفها كانت عاملا منظما ومنسقا وضامنا للمشروع الاستعماري. وهكذا تفرعت الإدارة في مختلف جوانب ومكونات المجال المغربي معتمدة في ذلك على المراقب العسكري والمراقب المدني اللذين كانا يجسدان الإدارة على الصعيد المحلي، ورئيس الجهة الذي كان يمثلها على الصعيد الإقليمي.
أما من ناحية الصلاحيات، فقد توفرت الإدارة على اختصاصات واسعة وامتد نشاطها إلى عدة ميادين. "فالنظام التراصفي هيمنت عليه الإدارة التي تعتبر بمثابة جهاز لاتخاذ وتنفيذ القرارات. وبالتالي فهي محرك النظام السياسي". وترجع هيمنة الإدارة الاستعمارية داخل النظام التراصفي إلى عدة عوامل من أهمها:
- طبيعة النشاطات التي تقوم بها وكذا الوسائل التقنية التي اعتمدت عليها.
- الثقافة السياسية المحلية التقليدية المرتكزة على أسس شمولية.
- عدم وجود قوة مضادة تحد من سلطة الإدارة، فلم تكن هناك أية مؤسسة أو قوة اجتماعية منظمة تستطيع مواجهة المنطق السلطوي للإدارة.
ب - النخب الاستعمارية:
عملت السلطات الاستعمارية على خلق الشروط الاجتماعية المواتية لإعادة إنتاج النموذج الاستعماري؛ وذلك من خلال التشجيع على ظهور شرائح اجتماعية تحافظ على استقرار النظام التراصفي.
وقد تشكلت هذه الشرائح من نوعين من الفئات:
- الفئات الاستعمارية:
وقد تكونت هذه الفئات خاصة من المعمرين والباطرونا الذين كانوا يشكلون جماعات ضغط تهتم بالتأثير على أجهزة الإقامة العامة أو على مستوى سلطات الميتروبول.
وبالإضافة إلى هاتين الفئتين، كانت هناك فئة من التجار والموظفين والعمال الأوربيين التي كانت حريصة على تكريس إيديولوجية النظام الاستعماري وضمان استقراره السياسي.
كما لعبت الجالية الجزائرية دور الوسيط بين الفرنسيين ومسلمي المغرب؛ حيث تمثل هذا الدور بالخصوص في اشتغال الجزائريين في قطاع التعليم والترجمة.
- الفئات المحلية:
اعتمد النظام الاستعماري على شريحتين اجتماعيتين محليتين تتمثلان في القواد والزوايا. فاختيار الحكم الاستعماري القواد كحلفاء في البداية يرجع إلى طبيعة المنطق التراصفي للنظام وكذا لاعتبارات سياسية وتكتيكية. وقد تم توظيفهم فيما بعد لاستكمال مأسسة النظام والتحكم في المجال القروي. لذا فقد وجد فيهم النظام حليفا استراتيجيا أثناء صراعه مع القصر والحركة الوطنية، وتمثل ذلك على الخصوص في تزعم بعض القواد حركة الاطاحة بالسلطان محمد الخامس.
كما اعتمد الحكم الاستعماري على الزوايا كوسيلة للتحكم والمراقبة نظرا للوظائف التي كانت تلعبها داخل المجتمع المغربي، والتي تجسدت على الخصوص في الوساطة والتنشئة السياسية وكمركز للمراقبة.
لذا فقد وجدت السلطات الاستعمارية في الزوايا حليفا أساسيا منذ بداية التدخل الاستعماري في شمال المغرب؛ وذلك عن طريق الشريف الوزاني الذي قام بتسهيل مرور القوات الفرنسية، في حين وجدت ضالتها المنشودة في شيخ الكتانيين عبد الحي الذي لعب دورا أساسيا في عملية الانقلاب ضد العرش.
وعموما، فإن هذا الطرح يرتكز على مفاهيم متقدمة جدا في تناولها لتطور الدولة في المغرب. فهو يضع هذا التطور في إطار إشكالية ديناميكية وأكثر شمولية.
- فمن الناحية الشمولية، اهتم هذا الطرح برصد البنيان السياسي المغربي منذ ملامحه السياسية الأولى إلى مراحله الأكثر تقدما من ناحية التنظيم والتأسيس. وبالتالي، فإن هذا الطرح يسائل تاريخا سياسيا أكثر طولا وامتدادا. بالإضافة إلى ذلك، تبنى هذا الطرح تصورا أكثر اتساعا لمفهوم الدولة، حيث اعتبر الدولة المغربية كيانا سياسيا يتطور بشكل حثيث ومتواصل ابتداء من تبلوره كمركز سياسي، فتدرجه إلى دولة سلطانية ثم دولة تراصفية. وتكمن أهمية هذا التصور في تجنبه للتصنيف التقليدي الذي كان يقرن ظهور أية أسرة حاكمة بدولة ما (الدولة الإدريسية، الدولة المرابطية... الدولة العلوية...).
- أما من الناحية الديناميكية، فقد اعتمد هذا الطرح على عدة مؤشرات كان الهدف منها رصد تطور الدولة بالمغرب وتحديد عناصر القطيعة والاستمرارية فيها.
وتتمثل هذه المؤشرات في ما يلي:
- مؤشرات ثقافية حاول من خلالها الباحث أن يرصد الانعكاس الإيديولوجي للتدخلات الخارجية على تطور الدولة بالمغرب، وخاصة تأثير النموذج السياسي الاسلامي والنموذج السياسي الأوروبي على التغيرات التي لحقت بالدولة المغربية.
- مؤشرات اجتماعية اهتمت بالأساس برصد ديالكتيكية الدولة والمجتمع بالمغرب، والكيفية التي حاولت بها الدولة السيطرة على مجالها الاجتماعي، سواء من خلال اعتماد السلطة على البنى القبلية أو من خلال تجاوز الدولة هذه البنى وتحقيق استقلاليتها.
- مؤشرات تنظيمية، تركز فيها الاهتمام على رصد تطور الأسس التنظيمية التي قامت عليها السلطة، سواء في إطار الدولة السلطانية أو الدولة التراصفية.
وقد أدت مختلف هذه الجوانب إلى إغناء التصور الذي انتهجه بلمليح في تعامله مع إشكالية تطور الدولة بالمغرب. فقد نظر إلى هذا التطور كسيرورة استيعابية وليس كسيرورة إقصائية. فالدولة المغربية، عبر تاريخها، كانت عبارة عن حلقات تندمج فيما بينها؛ بحيث إن كل تجديد كان يندرج في إطار ما هو قائم ليتولد عنه نموذج سياسي. وأحسن مثال على ذلك الاندماج الذي وقع بين العنصر السلطاني والعنصر الأوروبي في فترة الحماية.
إن مثل هذا التصور قد شكل قفزة نوعية في الدراسات التي تناولت هذه الاشكالية (سواء كانت في منظورها التاريخي أو السوسيولوجي أو حتى الاقتصادي)؛ إذ لأول مرة يتم تجاوز النظرة الشكلية في التعاطي مع الدولة المغربية في سيرورتها، والتي كانت تكتفي بدراسة الأسر الحاكمة وكأنها دول قائمة بذاتها ومنفصلة عن بعضها البعض، وتعويضها بنظرة أكثر عمقا تقوم بالأساس على اعتبار الدولة المغربية عبارة عن تراكمات سياسية قد تعرف بعض القفزات النوعية التي تغير من مضمونها وأشكالها لكن في إطار سيرورة سياسية مستمرة.
وقد أدى هذا التصور إلى اختزال الكثير من الأشكال السياسية (أدارسة، مرابطون، سعديون، علويون) في إطار نموذج سياسيي موحد (الدولة السلطانية)، وبالتالي تحولت كل هذه الأسر التي جعل منها الإخباريون والمؤرخون والسوسيولوجيون المغاربة محطات رئيسية للتحقيب والتصنيف السياسي عبارة فقط عن مشاريع تصب كلها في إطار تكوين وتدعيم وتوطيد الدولة السلطانية.
كما أن هذا التصور سلط الضوء أيضا، بشكل أكثر موضوعية، على عملية التلاقي بين الدولة السلطانية والنموذج الأوروبي (الدولة -الأمة) والانعكاسات التي ترتبت عن ذلك. فالدولة الأمة لم تقص الدولة السلطانية، بل عملت على توظيفها واستيعابها لتولد نموذجا سياسيا جديدا سماه الباحث بالدولة التراصفية.
ومع كل هذه المزايا، فإن هذا الطرح تعتوره بعض النقائص التي ترجع إلى الأسباب التالية:
أولا: الانطلاق من المرجعية الأوروبية؛ حيث تم تبني نموذج الدولة-الأمة في صفائها المفاهيمي والسياسي ومحاولة تطبيق ذلك على التاريخ السياسي المغربي، الشيء الذي أدى إلى الخروج بعدة استنتاجات خاطئة. فعلى سبيل المثال حاول الباحث منذ بداية طرحه رصد جوانب الهشاشة السياسية للدولة السلطانية بالمغرب، وأرجع ذلك إلى التشتت السياسي الذي كان يعرفه المغرب ما قبل الاسلام وعدم تأثير الاحتلال الروماني في البنيان السياسي المغربي. بالإضافة إلى ضعف كل الأسر الحاكمة التي تعاقبت على سدة الحكم بالمغرب، وعدم قدرتها على جعل الدولة تتحكم في مجالها السياسي.
وهكذا، فإن الانطلاق من هذه المسلمة أوقع الباحث في مزالق علمية قاتلة، يكمن أهمها في عدم مراعاة الخصوصية السياسية والاجتماعية والثقافية التي تميز الدولة بالمغرب. كما أنه أغفل أن نموذج الدولة-الأمة، حتى في تربته الأوروبية، لم يكتمل إلا بالتدريج، وأن كل بلد أوروبي عرف فترات هشاشته السياسية تجسدت عي عدم اختراق الدولة لمجالها السياسي، فالدولة المركزية في فرنسا مثلا لم تتحقق إلا مع لويس14.
ثانيا: إن اختزال تطورات الكيان السياسي في المغرب في نموذجين رئيسين: دولة سلطانية ودولة تراصفية قلص من حيوية هذا التطورات؛ إذ من حق المرء أن يتساءل: ألم يعرف المغرب نماذج أخرى غير النموذج السلطاني والنموذج التراصفي؟ ولعل وعي الباحث بهذا المعطى جعله يعمد إلى تصنيف النموذج السلطاني إلى نموذجين فرعيين: النموذج شبه الامبراطوري والنموذج الباترمونيالي.
ثالثا: التناقض والغموض الذي يكتنف استخدام مصطلح الدولة التراصفية؛ فالتراصف هو عملية وصف لسيرورة سياسية وليس تجسيدا لهذه السيرورة. فإذا حق لنا أن نستخدم هذا المصطلح في تحليل عملية اندماج المؤسسات الاستعمارية بالمؤسسات السلطانية، أو ما سماه الباحث بالنظام التراصفي، فيبقى من غير الجائز استخدام المصطلح نفسه لتعيين الدولة التي تولدت عن هذه العملية نظرا لأن هذا المصطلح لم يتضمنه بعد القاموس السياسي المغربي، وكذا لأن المصطلح لا يتماهى والتربة السياسية التي انغرس فيها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.