يُعد عمر الزيدي واحدا من مؤسسي اليسار الجديد بالمغرب، هذا المكون السياسي الذي ظهر بُعيد الاستقلال مباشرة، لأسباب مرتبطة بالتحولات الإقليمية والدولية التي شهدها العالم آنئذ. كما أن عمر الزيدي يعتبر من مؤسسي حركة "لنخدم الشعب" ذات النزوع الماركسي اللينيني، التي تأسست داخل بيته رفقة بعض الأسماء التي لازالت على قيد الحياة، منها من تنكر "لنخدم الشعب" وارتمى في أحضان "عدو الأمس"؛ بينما ظل الزيدي يشتغل في أحضان المجتمع، من العمل السياسي والأفكار الحالمة في التغيير إلى العمل من خلال المجتمع المدني.. في هذا الحوار، الذي ستنشره هسبريس منجما، سنحاول أن نرصد التاريخ الثقافي لمدينة سلا، وهي المدينة التي نشأ فيها صاحبنا/الزيدي، وكذا التوقف عند التنشئة الثقافية والسياسية لجيل اليسار الجديد، ومعرفة جزء من الذاكرة/ التاريخ الراهن للمغرب من خلال جيل آمن بالتغيير عن طريق الثورة فتحول إلى الإيمان بالتغيير المدني.. كيف حدث ذلك؟؟! هذا ما سوف نعرفه من خلال هذه السلسلة من الحوارات!! 11 كيف كانت حياة السجن في سيدي سعيد بمكناس؟ وكم كان عددكم؟ قبل السجن أتذكر أننا كنا في درب مولاي الشريف أكثر من 130 معتقلا ومعتقلة، وأن الحراس (الحجاج، نناديهم الحاج حتى لا تعرف أسماءهم) من القوات المساعدة كانوا كذلك معتقلين قبل مجيئنا، خاضعين للبحث بعد اكتشاف ملابس داخلية تم إدخالها سرا لعائلة الجنرال أوفقير التي وضعت في معتقل سري. إذن هؤلاء كانوا هم الحراس. ووجدنا كذلك 5 معتقلين من "حركة 3 مارس"، من ضمنهم الجعواني والشهيد إبراهيم الزايدي الذي سيتوفى في ما بعد في سجن لعلو بالرباط نتيجة الإهمال، وهم معتقلون قضوا حوالي أربع سنوات في الاعتقال السري. عند تقديمنا لوكيل الملك تم الافراج عن 24 معتقلا، من ضمنهم الفقيد نورالدين الخمالي الذي كان الجلادون ينادونه "العريس"، فهو ذو قامة طويلة وبدين، وحين اعتقلوه كان يلبس الجلباب و"البلغة". تركوه بدون قيد لأن معصمه كان أكبر من حجم القيد. كم كان عددكم في سجن سيدي سعيد؟ حين وضعونا في سجن سيدي سعيد بمكناس كنا 105، وانضاف إلينا حوالي 20 من الصحراويين المرتبطين حسب الاتهام بجبهة البوليساريو، تم إطلاق سراح 18 معتقلا في يوليوز 1978 بعد وقف الإضراب عن الطعام الذي خضناه في يونيو لمدة 20 يوما. وفي سنة 1979 سيلتحق بنا عبد الله ازريقة و15 مناضلا من "لنخدم الشعب" اعتقلوا في سلاوالدارالبيضاء. هذا هو العدد الإجمالي للمجموعة، وكان ضمنهم 5 مناضلات (فاطنة البيه، مارية الزويني، لطيفة الجبابدي، خديجة...ونقية وهي ضمن المجموعة الصحراوية). كانت المجموعة تضم كل الطيف اليساري الجديد: 23 مارس بفصيليها، الأول، عبد الواحد بلكبير، عبد الجليل طليمات، شوقي بنيوب، نجيب كومينة، الزيادي، بودلال وآخرون. الثاني، محمد حيثوم، الفقيد مريد جعفر، الفيغة عبد السلام، عبد الهادي بنصغير، زكرياء ملوك، الكاتي محمد... عناصر قاعدية مرتبطة ب"إلى الأمام"، مثل قاسم شباب، فؤاد عبد المومني، الفقيد بنيس عبد الحق، القباب، عبد السلام أومالك وغيرهم. وعناصر قاعدية غير مرتبطة بأي تنظيم، مثل عزيز إيد بيهي، ورشيد الزويني، وآخرين. لنخدم الشعب، 3 في البداية، أنا ومحمد شركو والفقيد نجيب البريبري، إضافة إلى 15 معتقلا سيلتحقون في ما بعد في 1979، من ضمنهم محمد بنعياد، سعيد بندحمان، عبد الرحيم الظريف، علال لقصيور، عبد الله المكي ونورالدين الرياضي. يضاف إلى كل هذا 26 معتقلا من الصحراويين المرتبطين بالبوليساريو حسب محضر الاتهام، ضمنهم صالح لهنا (وهو التامك المدير الحالي لإدارة السجون)، الفقيد لحسن موثيق وحسين موثيق وعلي موثيق ومحمد موثيق، الحبيب الديماوي وعبد السلام الديماوي، وميما المحجوب، وماء العينين، وآخرون. وهنا لابد من الاعتذار للرفاق والرفيقات الذين لم أذكر أسماءهم/ن، فأنا أتكلم من الذاكرة فقط. كانت أمامنا منذ حللنا بالسجن مهمتان؛ الأولى توفير شروط ملائمة للعيش داخل السجن، والثانية تدبير الحياة الجماعية داخله حتى لا يشعر أي طرف بالقهر أمام الاختلافات السياسية بين هذا الطيف المجموع في ملف واحد. ما هو أهم عمل قمتم به بعدما تجمعتم في السجن؟ منذ البداية هاجمنا مدير السجن بعنف، إذ قال لنا "إن هذا السجن شبه عسكري وعلى الجميع الامتثال للأوامر"، وقسمنا على أربعة أفواج للخروج إلى الساحة مثنى مثنى لمدة نصف ساعة في الصباح وأخرى بعد الزوال. أول مواجهة قمنا بها هي عصيان الأوامر، ونظمنا إضرابا عن الطعام لمدة أسبوع احتجاجا على نقلنا من عين برجة إلى مكناس. وماذا كان رد فعل الإدارة؟ استدعتنا الإدارة وفق إرادتها، ولم تحترم اللجنة التي حددناها، إذ استدعت 9 أفراد من بينهم أنا، عبد الواحد بلكبير، حيثوم، عزيز إد بيهي، صالح...فعبرنا للمدير عن أن "هذا الإضراب يعتبر احتجاجا على نقلنا من الدارالبيضاء إلى مكناس، أما الأوضاع في هذا السجن فقد تتطلب أكثر من معركة لأن عدة شروط غير متوفرة، وعلى رأسها رفضنا لما أسميتموه النظام العسكري"، قبل أن نخبره بأننا لن نحترم هذا النظام وسنقاومه بكل الأشكال، وإن أراد أن تسير الأمور على ما يرام فعليه بالحوار، لأننا نرفض أي تعسف ولن يرهبنا بسلطته. وهل حققتم شيئا بعد هذه المقابلة؟ كان من نتائج هذه المقابلة تحويل أربعة أفواج في الساحة إلى فوجين، ثم إلغاء الأفواج. هذه الخطوة ستفتح بيننا إمكانية التجمعات ونقاش وضعنا، خاصة حين استأنف رفاقنا في السجن المركزي بالقنيطرة الإضراب عن الطعام بعد توقيف معركة 45 يوما من الإضراب التي أدت إلى استشهاد الرفيقة سعيدة المنبهي. النقاش بيننا اتخذ وقتا طويلا، لأننا رفضنا أن يدخل البعض دون الآخر، لأن ذلك سيكون بداية لتسمم العلاقات بين أفراد المجموعة، وتصبح أمراض الكليشهات التي يعاني منها الرفاق في المركزي منتشرة عندنا كذلك، من قبيل اليمين واليسار، المنهزم والصامد إلخ... فتوصلنا إلى صيغة الإضراب الجماعي دون مغامرة، بحيث حددنا سقف 25 يوما، ونناقش حسب التطورات إن كان بإمكان الاستمرار أو التوقف. دخلنا الإضراب في بداية يونيو فواجهتنا الإدارة في اليوم نفسه بالليل بحملة تفتيش وإهانات وإغلاق الزنازين ومنع الزيارات، إلى غير ذلك من التعسف، ولم تفتح معنا الحوار حتى اليوم 12، إذ استدعت لجنة الحوار. في هذه الظروف لعبت عائلاتنا دورا أساسيا بالاحتجاج في الشارع ولقاء وزير العدل ومدير إدارة السجون والأحزاب والبرلمانيين. عرضنا ملفنا المطلبي وطلبنا رفع كل المضايقات إن أرادوا استمرار الحوار. كان يحضر الحوار قاضي التحقيق ومدير إدارة السجون ومدير السجن والطبيب الإقليمي. تمت الاستجابة لرفع مظاهر التضييق بفتح الزنازين والخروج إلى الساحة. اللقاء الثاني كان بعد 14 يوما من الإضراب، إذ عبرت لجنة الإدارة عن استعدادها للاستجابة لمطلب الدراسة وتحسين وجبات التغذية والتباحث في إمكانيات توفير شروط آلات تسخين التغذية وغيرها، لم نجب عن ذلك وتشبثنا بالملف كاملا على أن نعود لاستشارة الرفاق. يوم 20 من الإضراب تم استدعاؤنا للحوار من جديد، فأبرزت لجنة الإدارة مرونة في الكلام وعبرت عن استعدادها للاستجابة لبرنامج التغذية، وتوفير الحليب يوميا، وتزويد الحي الجنائي الذي وضعنا فيه بإمكانية التسخين بالخشب ريثما يجرون إصلاحات في كهرباء الزنازين لتزويدها بسخانات كهربائية. اشترطنا الرجوع إلى الرفاق فعقدنا تجمعا. كنا أمام القبول وفك الإضراب في ذلك اليوم، أو الرفض، وهذا سيتطلب الاستعداد لتجاوز 30 يوما من الإضراب لأن لجنة الإدارة لن تتنازل أكثر آنذاك، حسب تقديرنا. توقف الإضراب إذن؟ اتخذنا قرار وقف الإضراب والاستمرار في اليقظة، لأن المعارك ستستمر يوميا، كما كنت أقول للرفاق "يجب أن نكون كقبضات الملاكم، يد تهاجم ويد تواجه الضربات (تطاكي)". الأساسي كان هو الكرامة وفرض الاحترام حتى نستطيع تنظيم حياتنا الجماعية كما نريد. نظمنا حياتنا بشكل جماعي، وخلقنا لجنة للتغذية يتناوب عليها الرفاق يوميا، ووضعت الإدارة رهن إشارتنا زنزانة فارغة، أقامت فيها سخانا بالحطب. يزودونا بالحطب يوميا، فاهتدينا إلى صناعة الفحم من ذلك الحطب، نوزعه على الزنازين، حيث تكفل كل الرفاق بصناعة "مجمر" لهم للطهي، فأصبحت كل زنزانة تطهو غذاءها كما أرادت، نستغل الخضر المطهية واللحم المفروم التي تزودنا بها الإدارة في وجبات الغذاء، نغسلها ونعيد طهيها بالطماطم والبصل الطري الذي تزودنا به العائلات. التغذية التي تزودنا بها العائلات توضع في الزنزانة الجماعية وتتكفل بتوزيعها حسب الدور الذي تشرف عليه لجنة التغذية وفق برنامج مسطر مكتوب ومعلق في الزنزانة الجماعية. لا أحد يأخذ ما جاءت به عائلته. يأخذ الوجبة التي جاءت في دور الزنزانة (دجاج، لحم، سمك وغيره).. الأمر نفسه بالنسبة للخضر. وهكذا فالذين لا ينعمون بزيارة العائلة، أو زياراتهم قليلة، لا يشعرون بالفرق بالمقارنة مع الآخرين. تكلفنا بمكان الحلاقة.. الرفيق تسيوسة كان حلاقا ماهرا، اشتغلت معه بعض الأوقات لأتعلم، وأول تجربة فشلت فيها حين تدربت في رأس الرفيق جعفر مريد، إذ أحدثت فيه خريطة، فما كان إلا أن بادره تسيوسة "بتصليعة" لإصلاح الخطأ. لم يكفينا يوم من الضحك على هذه الفعلة. وماذا عن النقاشات السياسية؟ أضيف رغم ذلك بعض مظاهر الحياة داخل السجن، لأنها ليست دائما تعب وتعذيب، ونادرا ما يتم الكلام عنها. استطعنا صناعة بانجو من علبة حلوى وخشبة، وتكفلت العائلة بتزويدنا بالأوتار، كان محمد كاتي عازفا ماهرا على العود وعبد الله زريقة يزودنا بالقصائد. من ضمن القصائد التي لحناها وغنيناها في السجن "زغردي يا أمي، يا أم الثوار. مكناس حبلى بالأحرار. زغردي فالحب دم ونار، زغردي تسمعك كل الأطيار". إلى آخر الأغنية التي يتغنى بها المناضلون والمناضلات حتى الآن في القطاع الطلابي. كنا نقيم الحفلات بيننا، نفرش ممر الحي بعد تنظيفه (كنا نرفض أن ينظف سجناء الحق العام حينا.. كنا نتولى ذلك بأنفسنا). تكون الحفلات بالمناسبات التي نختارها، يلقى فيها الشعر والغناء، (الغيوان، لمشاهب، الشيخ إمام..). كنا كذلك ننظم الندوات في الساحة، سياسية وثقافية. كان السجن بالنسبة لنا استمرارا للحياة العامة. أما بالنسبة للنقاشات السياسية، فهي مستويين، الجانب السياسي العام كنا نقيم فيه ندوات لنقاش الأوضاع العامة في البلاد، نناقش القضية الفلسطينية والوضع الدولي إلى آخره. المجالات الأخرى المرتبطة بالانتماءات المختلفة وتفاصيل ملف المتابعة تركنا لكل مجموعة أن تناقشها بين أفرادها، حتى لا نسقط في ما سقط فيه الرفاق في المركزي، من اتهامات متبادلة، ما فكك العلاقات وأضعف إمكانيات العمل المشترك بين مختلف الرفاق. ومتى كانت محاكمة مجموعة مكناس؟ منذ 1977 ونحن معتقلين، ووصلنا إلى سنة 1980 ولازال الحكم غير مستعد لمحاكمتنا، وربما لم تكن له الرغبة حتى في نقلنا من "درب مولاي الشريف" إلى السجن لولا استشهاد الرفيقة سعيدة المنبهي أيقونة اليسار بعد 36 يوما من الإضراب. هل كنتم تتواصلون مع الخارج للتحسيس بقضيتكم؟ كان الحكم في حيرة مع مجموعتنا أمام الحملات الحقوقية في العالم والقوة التي أبانت عنها حركة العائلات بشكل غير مسبوق من اعتصامات في مسجد السنة ومحاصرة للبرلمانيين والوزراء وإحراجهم، وكذلك أمام القوة النضالية للحركة الطلابية بعد استعادة "الاتحاد الوطني لطلبة المغرب" لشرعيته وعقده لمؤتمره السادس عشر. فمجموعتنا كانت الامتداد الطبيعي للمجموعة التي تعرضت للمحاكمة/المهزلة في يناير/فبراير 1977. ما العمل إذن؟ قررنا الدخول في إضراب مفتوح عن الطعام تحت مطلب واحد: "المحاكمة أو إطلاق السراح". انطلق الإضراب على ما أذكر يوم الخميس 06 مارس على الساعة 12 زوالا، كما هي العادة في كل الإضرابات، إذ نعلن الإضراب بشكل جماعي بعد تلاوتنا نشيدا جماعيا وتقديم رسائل إعلان الإضراب للإدارة لتتكفل بإيصالها إلى الجهات المعنية (قاضي التحقيق، إدارة السجن، وزير العدل، إدارة السجون). مباشرة بعد ذلك نادت الإدارة على لجنة المفاوضات، كنا أربعة: أنا ومحمد حيثوم، عبد الواحد بلكبير. ولا أذكر الرابع، ربما عزيز إيد بيهي. وجدنا أمامنا لجنة تتكون من مدير إدارة السجون، قاضي التحقيق، المدير والطبيب الإقليمي.. فاجأتنا السرعة، إذ لم تمر إلا ساعة على إعلان الإضراب. فهمنا بعد ذلك أن جريدة المحرر أعلنت الخبر في الصباح.. كان دور العائلات مهما في المعركة. وبالمناسبة أحيي عاليا الأدوار التي لعبتها والدتي، وأمهات كل من ملوك ومريد والنجاري، وأب الغويتة علي والسي أحمد البريبري وآخرين، أعتذر لهم إن خانتني الذاكرة، إضافة إلى الأدوار التي قامت بها المناضلات حليمة زين العابدين ونجية اعبابو ومليكة والفقيدة آسية الوديع والفقيد محمد التهامي الحكوشي، وما قام به الطلبة في تلك المعركة دون أن أنسى الجمعية المغربية لحقوق الانسان، وهي في بداية مشوارها (تأسست في يونيو 1979)، وخاصة الأستاذ عبد الرحيم الجامعي الذي كان كاتبها العام. اللجنة جاءت بمقترح واضح، طرحت علينا أن نمهلها 15 يوما لتسوية الملف نهائيا. أجابها عبد الواحد بلكبير: "أمهلناكم 3 سنوات، والقانون الجنائي واضح، بحيث إذا كلف قاضي التحقيق بملف المس بسلامة الدولة عليه إبعاد كل الملفات لديه ومباشرة ذلك الملف بأولوية واستعجال". بقيت اللجنة تطلب منا وقف الإضراب حتى تستطيع مباشرة الملف في غضون 15 يوما فقط، فأجبت: "إننا في إضرابنا حتى تنهوا عملكم في غضون 15 يوما"، ووقفت كإشارة مني للرفاق بالمغادرة، فقام كل الرفاق وخرجنا من مكتب الحوار بعد أن قلنا لهم إننا في الإضراب وموعدنا بعد 15 يوما. وكيف تصرفت معكم إدارة السجن هذه المرة؟ ما لاحظناه في هذا الإضراب هو أن الإدارة لم تتصرف بعنف كالسابق، بل تركت الزنازين مفتوحة طيلة اليوم كالعادة، والساحة مفتوحة. أرجعنا الأمر في البداية للمدير الجديد الذي خلف ذلك العسكري منذ 1978 بعد إضراب 20 يوما. في الغد، أي الجمعة، بعد الزوال، وضعت الإدارة مكتبا في الساحة وبدأت تنادي بعض المعتقلين وتسجل عناوينهم. أقمنا تجمعا على الفور في الساحة واعتقدنا أن الإدارة تتخذ ترتيبات لتوزيعنا على السجون، فاتفقنا بكلمة واحدة على أن الإضراب سيبقى مستمرا حتى زيارة لجنة المفاوضات. السبت صباحا، قبل فتح الزنازين سيخبرني أحد الحراس بأن مجموعة من المعتقلين سيطلق سراحهم هذا الصباح. وبالفعل عند فتح الزنازين بدأ أحد الحراس ينادي على 46 معتقلا للإفراج، نادينا من جديد للتجمع خوفا من أي مناورة، فكان رأي الرفاق هو الاتصال بالمدير للتأكد وتحذيره إن كانت مناورة للترحيل. فأكد لنا السي صالح، وهو مدير طيب، ينتظر تقاعده، أن الذين تمت المناداة عليهم سيفرج عنهم وأن ملفاتهم بقي قاضي التحقيق يدرسها حتى الثانية صباحا، وأن الآخرين سيعرفون المصير نفسه بعد دراسة ملفاتهم. أخبرنا الرفاق وودعناهم. يوم الاثنين سينقل 15 معتقلا إلى سجن لعلو لمحاكمتهم في سلا، كخطوة نحو الإفراج. وبالنسبة إلى من تبقى من رفاقكم؟ بالنسبة للفقيد نجيب البريبري نقل إلى سجن الخميسات لقضاء مدة السجن التي حكم عليه بها في حادثة محاولة الهرب صحبة الرفيق سيون أسيدون والشهيد جبيهة رحال، الذي قضى في تلك الحادثة. بقينا 7 مضربين، لأن المناضلين الصحراويين لم يدخلوا هذا الإضراب واعتبروا أنفسهم "معتقلي حرب". بقي السيد المدير يترجانا أن نفتح الإضراب، وكان يزورنا باستمرار صحبة الطبيب للاطمئنان علينا، فكنت أجيبه: "السي صالح، تمت تلبية طلبات الرفاق الذين أفرج عنهم.. حين يحددون لنا تاريخ المحاكمة سننهي الإضراب". كنت تعتقد أنه سيتم الإفراج عنك؟ لم يكن في اعتقادي ولو لحظة أنه سيفرج عني. بعد مرور 13 يوما من الإضراب، نزل عندي الضغط الدموي بشكل كبير، وأصبحت أعاني من الإغماء فنقلوني بسرعة إلى المستشفى. الأمر نفسه سيفعلونه مع الرفاق الآخرين، عبد الواحد بلكبير، الفيغة عبد السلام، غزة نورالدين، عبد الهادي بنصغير ومحمد موثيق (الوحيد من الصحراويين الذي شارك معنا في الإضراب). أراد الطبيب الإقليمي الذي زارنا أن يضعنا تحت "الصيروم"، وقال لنا إننا في خطر الموت، فرفضنا وأجبناه، إن الصيروم بالنسبة لنا هو الطويجنات أو كسيكسو، وإذا كنا في خطر فقل ذلك في تقرير لقاضي التحقيق. حوالي الساعة 21 جاء قاضي التحقيق مصحوبا بكاتب الضبط، وبدأ التحقيق مع عبد الواحد بلكبير، وأخبره بالإفراج المؤقت، والأمر نفس فعله معي. قال لنا أنتم في سراح ويجب أن تغادروا؛ فتوجهت له بملتمس أن يتركنا نقضي تلك الليلة في المستشفى فوافق. نادينا على الطبيب آنذاك وطلبنا منه الصيروم وتكفلت بعض الممرضات بإعطائنا بعض الأكل في غرفة أخرى من حليب وحساء... إذن يوم 19 مارس سأغادر السجن صحبة عبد الواحد بلكبير. عند وصولنا إلى الرباط وجدنا المئات من الطلبة والعائلات في استقبالنا في محطة الساتيام التي كانت وسط مدينة الرباط بباب الأحد. لا أعرف كيف تكفل المناضلون بحمل 15 علبة كبيرة من الكتب إلى منزلي، وبقي المنزل لما يفوق الشهر مليئا بالزوار. ما وقع للملف أمام الضغوط الكبيرة والأزمة الخانقة التي كانت تمر منها البلاد أن الحكم فضل تحويله من جنائي إلى جنحي، فوزع كل المعتقلين على محاكم متعددة. عينت متابعتي بالمحكمة الابتدائية بالدارالبيضاء صحبة عبد الواحد بلكبير ومحمد شركو ولطيفة اجبابدي وأومالك عبد السلام، وهي المحاكمة التي تعذر انعقادها لسنين طويلة حتى جاءت الإنصاف والمصالحة فأقبرت. أفرج عني إذن وبدأ مشوار آخر من العمل.