تقول الحكمة الصينية إنه عندما تهب الرياح يبني البعض المخابئ بينما البعض الآخر يبني طواحين الهواء. وهذه حكمة بليغة تلخص ردة فعلنا حيال التغيير التكنولوجي الذي يشمل البيتكوين بين خائف ومستفيد. رياح البيتكوين هبت سنة 2009 لتتحول من نسيم إلى إعصار يهدد النظام المالي الحالي، إذ إن هذه العملة المتمردة قفزت لتصبح سادس أكبر عملة في العالم من حيث التداول، متجاوزة عملات كالجنيه الإسترليني، الروبل، اليوان، وفقا لبنك التسويات الدولية، وقريبا قد تصبح ثاني أكبر عملة في العالم بعد الدولار. كما أننا إذا ما اعتبرنا البيتكوين دولة لصنف من ضمن 20 دولة الأولى، متجاوزا دولا، كالمغرب أو الإمارات أو فنلندا من حيث الناتج الإجمالي الخام. هذه العملة حديثة السن عرفت انتشارا مهولا، خاصة في سنتنا الجارية، إذ إن منصة COINBASE الرائدة في الاتجار والتعامل بالبتكوين أصبحت تسجل 100 ألف مستعمل جديد كل يوم. كما أن قيمة البيتكوين القياسية مقابل الدولار في تزايد مطرد لم تشهده أي عملة أو أصل مالي من قبل. يصاحب هذا الارتفاع المطرد ازدياد حجم المعاملات، إذ إن منصة bithumb وهي الثالثة عالميا في متاجرة البيتكوين تسجل 2.28 مليار دولار أمريكي في حجم التداول اليومي متجاوزة حجم التداول في بورصةNASDAQ . كل هذه المؤشرات وأخرى تؤشر على ثقة الناس بهذا الوافد الجديد، وأننا نعاصر ميلاد نظام مالي جديد أكثر عدلا واستقلالية. صاحبت هذا النجاح الباهر من بدايته شكوك واتهامات لهذا النظام المالي الجديد بغسيل الأموال أو تسهيل التجارة غير القانونية، وهي تهم لا تفارق أي عملة، فمثلا الدولار 90% منه فيها آثار كوكايين، ما يدل على استعمالها في شرائه أو استعماله. كما أنه تعرض لمحاولات الإيقاف في بدايته، لكن البيتكوين خرج منتصرا مبرهنا على حصانته من العبث الخارجي واستقلاليته، ما لفت انتباه الناس إليه وجلب له سمعة حسنة من وسط حملات التشويه وفي خضم أزمة مالية عالمية عصفت بثقة الناس في النظام المالي الكلاسيكي. وهنا يفهم الجميع أن البيتكوين إنما استمد نجاحه مبدئيا من فشل النظام المالي الحالي الهش المحكوم بأزمات دورية خانقة توالت بعد انهيار نظام بريتونوودز في 1971، وكانت آخرها هزة 2007، كما أنه يمثل تحقيقا لحلم المرور إلى عصر المالية الرقمية المعتمد على عملة رقمية تتماشى مع طبيعة العصر وتفتح الباب للحرية المالية؛ وذلك بإزالة الوسطاء في تنفيذ المعاملات التجارية على شبكة الإنترنت؛ وفكرته الجوهرية تتلخص في خلق نظام يخلق جو الثقة اللازم لتبادل المعاملات بشكل ثنائي ما بين الأفراد باستعمال التكنولوجيا، لا بالرجوع إلى سلطة مركزية، ثبتت بالدليل إمكانية خرقها للثقة الموضوعة فيها، كما يشير إلى ذلك مؤسس بتكوين: "تاريخ العملات الورقية مليء بالانتهاكات للثقة التي يضعها الناس في البنوك المركزية". مصير التكنولوجيا المنع: البيتكوين كأي تطور تكنولوجي لديه القدرة على تغيير جذري للوضع الراهن في فترة قصيرة بشكل لا يصدق، وهذا ما يخلق غالبا مقاومة ورفضا من بعض المؤسسات الرسمية أو التجارية؛ كان ذلك بسبب الخوف أو الجهل أو الحمائية بخلاف الناس اللذين يتدفقون على التكنولوجيات التي تجعلهم أكثر استقلالية وتسهل حياتهم. قد تبدو لك معارضة الابتكارات، مثل المعدات الزراعية الميكانيكية، القهوة، الطباعة، الكهرباء، حاليا، أمرا غاية في السخف، لكنها عانت من المنع في الماضي لقصور في فهم المعارضين اللذين دائما عبر التاريخ يتحججون بحجج نبيلة؛ فمثلا تم منع الطباعة لقرون في الامبراطورية العثمانية خوفا من أن تدخل أخطاء على نقل العلوم والنصوص الدينية، ليرفع المنع بعد ذلك بقرون مفوتا الاستفادة من هذه التكنولوجيا. النمط نفسه يتكرر مع أي تكنولوجيا تتحدى الوضع القائم بالتغيير، وهذا ما نعيشه الآن في المغرب بعد قرار مكتب الصرف. البيتكوين: سبق لي أن نشرت في هسبريس مقالا مفصلا حول ماهية البيتكوين وطريقة عمله عنوانه "الثورة التكنولوجية الثانية..البلوكشين والعملات المشفرة"، ويمكن الرجوع إليه ما دام مقالي هذا إنما للتطرق لقرار مكتب الصرف. للتذكير فالبيتكوين في الوقت نفسه عملة رقمية وشبكة حاسوبية لأي أحد الحق في الانضمام إليها للبدء بإرسال واستقبال المعاملات؛ ليس فيها لأحد سلطة مركزية تتحكم في مصير المعاملات أو تمنعها بصورة مستقلة، دون الحاجة إلى مؤسسات مالية.. من حيث كونه عملة فهو قيمة رقمية مسجلة في سجل يسمى البلوكتشين، مقتسم بين أعضاء الشبكة؛ أي إنه ليس للبيتكوين شكل حسي كملف رقمي. تشبه هذه العملة في مبدأها الذهب، أي إنها محدودة الكمية، كما أنها تخرج للوجود كمكافأة لجهد أحد ما قام بالتنقيب عبر الحفر، لكن في حالة البيتكوين تكون مكافأة لقاء جهد يبذله أعضاء الشبكة للتحقق وتأكيد المعاملات، ومن الناس من يسميها الذهب الرقمي. منع المغرب للبتكوين: من خلال إعلان رسمي يرفع علامات استفهام كثيرة قرر مكتب الصرف اعتبار البيتكوين غير قانوني في المغرب لخرقه قوانين الصرف بين المغرب والخارج، وبذلك جلب دعاية سلبية جدا في الأوساط العالمية، ووضع بلدنا مع الأسف جنبا إلى جنب دول معدودة وهي: فنزولا، زيمبابوي، بوليفيا، قيرغيزستان، لبنان، نيبال، بنغلادش، الجزائر؛ وهي دول إما لها مشاكل سياسية أو اقتصادية خانقة.. مع التنبيه إلى أن الصين لا تمنع البيتكوين كما يروج الناس. ويفسر هذا العدد القليل للدول المانعة بتوصل الأغلبية إلى عدم جدوى المنع، إما لعدم خرقه لقوانينها الداخلية أو لانتباهها للمصالح الممكن استخلاصها من العملات الرقمية؛ كما أن العديد منها تعكف منذ سنوات على وضع باقة قوانين خاصة تتيح للمواطنين التعامل به بشكل قانوني. فإن كانت هناك دول تقبل بالبيتكوين كعملة رسمية معترف بها، كاليابان اوفيتنام (العام المقبل)؛ فالبقية العظمى من الدول لا تصنف العملات الرقمية كوسيلة للدفع، وترى أنها "مواد للمضاربة"، كفرنسا وأستراليا. في حين أن دولا كألمانيا ترى أنه "مال خاص"، وفي المملكة المتحدة يتم التعامل مع بيتكوين كعملة أجنبية؛ بينما تعتبر دول أخرى (مثل الولايات المتحدة كوريا الجنوبية، هونغ كونغ) ملكا أوسلعة تخضع للضريبة وفقا للمبادئ المطبقة على الضرائب على الممتلكات. الاعتبارات المختلفة لطبيعة البيتكوين على مستوى العالم بين اعتباره عملة سلعة أو أصلا ماليا أو أداة استثمار غالبا ما ترتكز على طبيعة استعماله في حدود البلد. وبما أن البيتكوين في المغرب يبقى بصفة شبه مطلقة مستعملا كمادة للمضاربة فإن تطبيق قوانين الصرف أمر مجانب للصواب. كما أن غياب توصيف قانوني للعملات الرقمية يصعب تحديد القوانين اللازم اتباعها والجهمة المخولة بالرقابة. ينضاف إلى هذا غياب فكرة الحدود عند الحديث عن البيتكوين؛ فهو ليس عبارة عن عملة تابعة لدولة تنتقل عبر الحدود، لأنه كما سبق الذكر نظام لا ممركز له وجود في الإنترنت. والبتكوينات مخزنة في سجل منتشر حول العالم يمكن للناس استعماله داخل البلد الواحد دون التجارة مع الخارج. كما أن شراء البيتكوين يتم في احترام تام لقوانين الصرف، باحترام عتبة الصرف المحددة في 40 ألف درهم؛ اذ يتم شراء البيتكوين كما يتم شراء أي سلعة أو خدمة عبر الإنترنت أو عبر الأبناك المغربية. الأبعد من هذا هو أن المنع يطال عملات مرتبطة بعملات حقيقية، كالدولار أو الذهب. كما أن المنع سيصطدم بتوجهات مجموعة سيداو)المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا( التي يطمح المغرب إلى الانضمام لها، وهي تعمل على عملة رقمية موحدة ECFA. هل البيتكوين وهم: يتناسى كثير من الناس أننا عبرنا نحو عالم رقمي منذ زمن أصبح فيه كل شيء يتم رقميا، إن لم يكن في بلدنا فعبر العالم. الربط بين الرقمي والوهم إنما هو تدليس، فلم لا نتخذ الحكم نفسه عندما نتبادل وثائق رقمية أو نستعمل عقودا رقمية لا وجود لها عينيا. ويحتار الناس كذلك في فهم كيف لشيء ليس لديه وجود في العالم المحسوس قيمة مالية، وينسون أن الذهب له قيمة فقط لأن الناس تقدر له قيمة معينة؛ فقيمة أي شيء ملموس أو رقمي إنما تأتي من تقييم الناس لها، لا لشيء ملازم لها. والبتكوين نظرا لعصرنا الإلكتروني وخصائصه المتناغمة مع هذا الطابع وسهولة ورخص استعماله جعل من الناس تثمنه شيئا فشيئا ليصبح الذهب الرقمي. المشككون الأكثر تخصصا يتعللون بالحجم القزم لسوق البيتكوين، وهم على حق، إذ إن إجمال قيمة البيتكوين لا يتعدى 200 مليار دولار، ما يمثل أقل من 3.2 في المائة من 7.6 تريليونات دولار من العملات والسندات البنكية، و2.3 في المائة من سوق الذهب، و0.25 في المائة من سوق الأسهم العالمية، و0.19 في المائة من المعروض النقدي. ربما المقارنة الأكثر عدلا ستكون مقارنة سوق العملات الرقمية الكلي ضد هذه الأصول، لكن ذلك لن يغيرالكثير بما أن بيتكوين يشكل نصف القيمة الكلية. لكن هذه المقارنة مجحفة في حق أصل مالي له من العمر أقل من 10 سنوات. كما أن الوضع في طريقه للتغيير. ونحن الآن على أبواب إنشاء اقتصاد مالي معتمد على البيتكوين.. يدلل على ذلك تهافت الأسواق المالية مثل CME، أكبر سوق للعقود الآجلة في العالم، و"ناسداك"، اللتان تدرسان تداول العقود الآجلة للبيتكوين في 2018. كما أعلنت CBOE أنها ستطرح العقود الآجلة على بيتكوين هذا الأحد، 10 ديسمبر؛ في حين أعلنت شركة إدارة الأصول الفرنسية توبامرسميا إنشاء أول صندوق للاستثمار بفرنسا مع وجود صناديق بالمئات حول العالم. كما أن السماح بإنشاء صندوق المؤشرات المتداولة مخصص للبيتكوين سيسرع نموه. لكن مع الأسف رفض التصريح مرتين في الولايات المتحدة الأمريكية. كما يتعلل الناس بوجود مضاربة حادة ستؤدي إلى مآسي وانهيار محتوم. مصاحبة فقاعة للبيتكوين أمر قطعي، وذلك حال أي تكنولوجيا ناشئة. وهذا لا يعني أن نتخذ ذلك حجة للتخاذل وإفلات الفرص والمنع، فالإنترنت عرف واحدة من أكبر الفقاعات الاقتصادية، لكن ذلك لا يضير الإنترنت في شيء، بل سرع تطوره في سنواته الأولى، وكذلك حال العملات الافتراضية. وجود الفقاعة في حد ذاته ليس خطرا، بل الخطر هو الجشع الذي ينكر حقيقة كهذه. تضاف إلى هذا صعوبة وصف الحالة الاقتصادية لهذه السوق الجديدة؛ إذ إن أذكى علماء الاقتصاد لا يمكنهم أن يبرهنوا هل دخلنا مرحلة الفقاعة أم ليس بعد؛ فلا أحد يعلم ما هي القيمة الحقيقية للبيتكوين، بخلاف كل الفقاعات السابقة التي كان لنا علم مبدئي حول القيمة المنطقية للأصل المالي، بما في ذلك مواقع الإنترنت في خضم فقاعة سنة 2000. البلوكتشين أولا وأخيرا: تكنولوجيا البلوكتشين التي يقوم عليها البيتكوين هي تكنولوجيا ثورية تثير اهتمام كل الدول عبر العالم والمؤسسات المالية العالمية. هذه التكنولوجيا لها القدرة على تخفيض التكلفة وخلق خدمات جديدة مبدعة تسهل المعاملات المالية أو تسهل التعامل بين الأطراف باستعمال ما يسمى العقود الذكية. يشهد مجال هذه التقنية تهافت الدول لتسخير قدراتها وخلق بيئات حاضنة للإبداع تستميل هذا الاقتصاد الجديد. وهذا دأب دول عديدة كالإمارات، سنغافورة، بريطانيا، الولايات المتحدة الأمريكية، كازاخستان، إسرائيل. ولعل هذه الأخيرة الأنشط في هذا المجال، إذ قال رئيس هيئة سوق الأوراق المالية في البلاد إن إسرائيل يجب أن تنظر إلى انفجار العملات الرقمية كفرصة لتطوير مركز مالي دولي لما يسمى بعروض العملة الأوليةوسن قوانين متعاطفة "وحتى جريئة" للسماح باستمالة هذه الثورة الرقمية. في حين أن دبي ترنو إلى خلق بلوكتشين محلي يشمل كل الخدمات الحكومية. ينضاف إلى هذا اهتمام الأبناك المركزية حول العالم بتسخير التكنولوجيا التي تقف خلف البيتكوين من أجل إنشاء عملات محلية. وقد بينت دراسة حديثة أجراها مركز كامبريدج للتمويل البديل، شملت 25 بنكا مركزيا، أن كل هذه الأبناك تعمل على الاستفادة من هذه التكنولوجيا، إذ إن 20٪ منها تتوقع استخدام تقنية بلوكتشين بحلول عام 2019. كما أن الدراسة نفسها بينت أن أكثر من 80٪ من البنوك المركزية تعمل على تسخيرها لإصدار عملات رقمية خاصة بها. وهذا يتماشى مع ما أعلنته دول عديدة، مثل الصين، روسيا، السنغال، بريطانيا.. وليعلم القارئ أننا في زمن متغير ونسير نحو عالم جديد، وأن تتعامل دول بعملات رقمية رسمية إنما هي مسألة وقت. ولعل الحاجز كسر بإعلان فنزويلا عن عملة رقمية مرتبطة بالبترول والمعادن النفيسة. مصلحة المغرب: وأختم مقالي بنقل تحذير رئيسة صندوق النقد الدولي كريستين لاكارد للأبناك تنبهها من ثورة قادمة بسبب البيتكوين، وتحث الأبناك المركزية على العمل على بدائل وفتح الباب لهذه التقنيات والخدمات الجديدة وعدم رفضها، إذ إن المستعمل سيتجه حتما نحوها لمنافعها. لقد رأينا كيف أن قرار مكتب الصرف كان حديث الصحافة العالمية، سواء المالية أو الإخبارية، فلما لا نستغل هذه القوة الإعلامية مجانا لصالحنا؟ ماذا لو أعلن المغرب حملة سياحية من بين شعاراتها نقبل البيتكوين.. ستكون سابقة عالمية تجلب الأنظار من كل أنحاء العالم وتغير الصورة النمطية التي نرسمها عن وطننا بمنع كل شيء وكأننا أعداء التكنولوجيا. من موقعي كمتخصص لسنوات في هذا المجال أرى أن للمغرب كل مقومات النجاح. تبقى فقط الإرادة والتخطيط. علينا التفكير مليا في موطئ قدم لنا في هذا العالم الجديد والتفكير بشكل متنور حول طرق الاستفادة، مع إصدار تشريعات تحمي مواطنينا مع تسهيل التجارة الحرة للعملة الرقمية، والتفكير في جعل المضاربة نشاطا مدرا للدخل للفرد وللدولة عبر الضرائب، ومقنن عبر أسواق محلية. إن كل الإشكالات والهواجس المتعلقة بهذه العملات يمكن حلها والتغلب عليها، يبقى فقط فتح باب الحوار.. *خبير بلوكتشين