هل مات علال ركوك؟ هل رحل عنا المؤرخ والأنثروبولوجي المسافر في مسالك المعنى واحتمالات البحث والكتابة؟ هل حقا غادرنا وتركنا نعتصر ألم الفراق؟ سؤال الغياب أو الحضور يفترض جوابين على الأقل، أول سريع يقتضي الإقرار بالرحيل إلى دار البقاء، وجواب ثان متأن بنفس أنطولوجي فلسفي، يرفض توكيد الغياب، ويؤسس عاليا للحضورانية الرمزية، وذلك بالنظر إلى كون المعني بالأمر، انتصر منذ زمن بعيد إلى حكمة البقاء للأثر، تاركا وراءه عشرات الأعمال العلمية الدالة عليه، وعلى أفق انتمائه المعرفي وشهوده الإنساني. عفوا لم يمت علال ركوك، ولن يموت بالمرة، لأنه مدمن حرف وسؤال، ولأنه، وهذا هو الأهم، منتج للمعنى في حقول اشتغاله الأثيرة، ذلك أنه كان يعتمر قبعة المؤرخ، وفي الآن ذاته يشتغل بأدوات الأنثروبولوجي والسوسيولوجي والسيميولوجي والناقد الأدبي، محللا ومفككا لكثير من الديناميات الاجتماعية، ومنتقلا من الهنا إلى الهناك، باحثا ومؤسسا لمنهجية مغايرة في الكتابة التاريخية. فمن أسفي إلى الرباط إلى بوردو إلى بني ملال فالقنيطرة، و الأوبة إلى الرباط أخيرا، نحو المعهد الجامعي للبحث العلمي، كان علال يمتشق دروب البحث عن المعنى، تاركا الأثر تلو الأثر، بما يؤكد الحضور لا الغياب. هناك أكثر من مدخل لتقديم هذا القادم من حاضرة المحيط(أسفي)، هناك الإنسان المجبول على صناعة الفرح حد الامتلاء، وهناك العالم المنهجس بسؤال البحث العلمي، وهناك المناضل الذي يلتزم بقضاياه/قضايانا جميعا، ويقدم في كل حين النموذج الصادق والناصع للمثقف العضوي. وفي كل هذه الاحتمالات لا نقابل إلا رجلا مَرِحاً حَكَّاءً يخرج أحبته من إسار اليومي القاتل إلى جماليات اللقيا، وألق الاستعارات التي نحيا بها ونتفاوض بها مع الزمن الصعب. كل لقاء مع علال ركوك، إلا ويكون موجبا للاستفادة، يهديك قفشات بدوية عذبة، يثير انتباهك إلى ثمرات المطابع، يغادر بك إلى مشروع معرفي قادم، وبين هذا وذاك تتأكد أن هذا الإنسان والعالم عصي على النمذجة المعرفية، أي نعم، فآل التاريخ يفتخرون بأنه مؤرخ وابن شرعي لقارة التاريخ، لكن من حق آل القلق الفكري أن يفتخروا بدورهم بانتمائه الفضيل إلى السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، ففي مختلف أعماله نجد ما يحيل على نفس سوسيو أنثروبولوجي عميق، ففي اشتغاله على الثقافة الشعبية، لاح ممارسا لحرفة الأنثروبولوجي ومستعملا لأدوات السوسيولوجي، ودونما تفريط بالطبع في مسكنه المعرفي الأولي. لقد علمنا كليفورد غيرتز يوما بأن الأنثروبولوجيا هي العلم الذي يختص بترجمة وتأويل الثقافات، بنقلها من لغة إلى أخرى، وإضفاء المعنى على طابع التعقيد الذي يسمها، وبالطبع فإن قارئ أعمال علال ركوك سيلفي حتما هذا الجهد التفكيكي المفتوح على الترجمة والتأويل، كما سيكتشف انهماما آخر بالمهمش والمنسي واللا مفكر فيه، من ديناميات مجتمعية تتصل غالبا بالتعبيرات الشعبية والشفوية. لهذا يمكن القول بأن علال ركوك ينتمي إلى جيل من الباحثين يؤمن بضرورة التحرر من "سلطان الوثيقة"، أو على الأقل إعطاء معنى متجدد لهذه "الوثيقة الغميسة"، والتي لا تتصل حصرا بالمكتوب والممهور بتوقيع القلم السلطاني، فثمة أقلام أخرى تكتب تاريخنا المنسي، وثمة أصوات وتعبيرات وإنتاجات رمزية ومادية أخرى تكتبنا في ماضينا وحاضرنا، فقراءة التاريخ الاجتماعي والجهوي، تنكتب عبر مسارات تعددية المسالك والمباني، ما يمنح المؤرخ ممكنات أخرى لترجمة ثقافة عصر وتأويله. انتماؤه إلى حاضرة المحيط سيدفعه إلى عقلنة شروط هذا الانتماء، وإلى تدبيره بروح علمية، بعيدا عن أي "تضخم هوياتي"، مؤكد باستمرار، بأن ما يملكه من رأسمال رمزي، ليرد الدين لمسقط الرأس، هو قلمه وأفقه المعرفي، لهذا نذر الكثير من وقته وجهده للحفر الأركيولوجي في تاريخ عبدة، والنبش تحديدا في فن العيطة، وباقي تعبيرات الأدب الشفوي المغربي، نافضا بذلك الغبار عن المنسي والمثغور في سجلنا الثقافي العام. وفي هذا الصدد يقول علال ركوك عن متن خربوشة: "هو متن تختلف حوله الطروحات، هل هو اسم واحد أم أربعة أسماء مختلفة؟ وذلك استنادا إلى مطلع العيطة الذي هو: الحمرا، خربوشة، زروالة والكريدة. ويبدو أن كل هذه الأوصاف تنطبق على شخص واحد، وهي حادة الغياتية، وهي امرأة شاعرة تنتمي إلى قبلية أولاد زيد، التي تقطن بمنطقة الساحل شمال أسفي، وقد دخلت هذه القبيلة في حرب مع القائد عيسى بن عمر العبدي الذي قام بسحق هذه الانتفاضة، وخلال هذه المواجهة كانت الشاعرة تقول أبياتا من الشعر عبارة عن حماسة وحث على الجهاد". في انفتاحه على المتون الشفاهية التي أنتجتها الذاكرة الجماعية، سينتصر المؤرخ والأنثروبولوجي فيه لسلطان القلم الشعبي، الذي ينكشف مكتوبه في كل المرددات والأغاني والأهازيج والعيوط وكل إبداعات هذا المغرب المتعدد الأبعاد، الذي واجه الجوع بالنكتة والترميق الغذائي، وواجه الظلم والاستعمار بالغناء والمقاومة والاحتجاج، فالمغربي برأيه يمتلك طاقة هائلة للمقاومة والتفاوض مع الزمن، والمطلوب من الباحث العلمي، كل من براديغمه الخاص، أن يصيخ السمع لنبضات هذه المقاومة وتبيان مساراتها وطرائق حضورها في الذاكرة الشعبية. كل واقعة تاريخية هي بالضرورة ذات أبعاد سوسيولوجية وأنثروبولوجية، ولعله السبب الوجيه الذي جعل فقيد الجامعة المغربية يدعو باستمرار للتلازم والتلاقح الضروري بين هذه الصناعات المعرفية الثقيلة، ويترجم دعوته هاته كتابة في مختلف أعماله ومحاضراته ومناقشاته للأطاريح والرسائل، فلم يكن داعيا بالمرة إلى الانغلاق العلمي، بل مدافعا عن علم منفتح ونقد متعدد الأبعاد بتعبير صديقه وابن "حاضرته" مصطفى محسن، والذي كان له الفضل في تقديمي إلى المرحوم علال ركوك. لما صدر لي كتاب "الرحامنة: القبيلة بين الزاوية والمخزن"، اتصل بي مهنئا، دون أن يكون لي سابق اتصال به، غير معرفتي به باحثا كاتبا مائزا، علمت حينها من كثير من أحبته، أنه يفعل الأمر ذاته مع الجميع، فهو متابع جيد لما يصدر في حقل العلوم الإنسانية، وأنه بهجته تكتمل عندما يرى أعمالا تسائل التاريخ الوطني والمحلي بروح موضوعية بعيدا عن "المعلبات الإيديولوجية" والرهانات اللاعلمية، فالموضوعية عنده شرط غير قابل للتفاوض في بناء العلم وإنتاجه. استمر محتفيا نصوحا، كما يفعل كما الجميع، مؤكدا باستمرار بأن الأستاذ الجامعي يفترض فيه الاضطلاع بثلاث مهمات على الأقل، الأولى نقدية تتأسس على مواصلة النقد العلمي البناء، والثانية تنويرية موجبة للإسهام في تحطيم الجهالات ومقاومة الظلام،، فيما المهمة الثالثة تحريرية بامتياز، لتحرير النقل والعقل وتحرير الفاعل الاجتماعي من كل الإخفاقات والأعطاب والمسلمات الاستسلامية. فليس للأستاذ الجامعي أي معنى، بعيدا عن هذه المهمات الثلاث، الذي تترجم واقعيا في العلم والعمل والخلق. وأعتقد جازما أن فقيدنا كان مجسدا لها في بهي الاكتمال. ما من أحد في هذي البسيطة إلا ويعبر الصحراء، وفي عبور الصحراء يحتاج المرء صديقا مرشدا، ينير له طريق الخلاص، هنا أعترف وأقول بأن علال ركوك من الأصدقاء الخُلَّصِ، الذين يعلمونك فن تدبير الأزمات، يعلمك كيف تموت الأشجار واقعة، وكيف تنزاح بعيدا عن التفاهات، لتقاوم وتعلن الحضور ضدا على الفظاعات والانكسارات، وصفته/نصيحته هي "الالتزام" وعدم تقديم الاستقالة. فما على المرء برأيه، وخصوصا في حقل التربية والتكوين، إلا أن يكون صاحب قضية، وأن يعي جيدا أن قضيته الوجودية هذه قد تقتضي منه النزيف في كثير من الأحيان. الآن فهمت أنه كان ينزف بين ظهرانينا في صمت، وهو يكتب سيرته العلمية الخالدة، وكان يخبرنا بطريقته أنه لن يموت وإن غاب عنا، وأنه باق معنا بمؤلفاته العميقة، الآن فهمت أنه أخبرنا بقرب الغياب/الحضور، وهو ينسق عملا تاريخيا وسوسيوأنثروبولوجيا عن الوفيات والطقوس الجنائزية (آخر ما أهداه للمكتبة المغربية)، ينبجس الفهم في الوقت الضائع دوما، ويغادرنا الكبار دون استئذان، تاركين وراءهم فراغا فادحا وحزنا أقسى. مسافر زاده السؤال، ذلكم هو علال ركوك، الذي آثر أن يعلن الرحيل مسافرا عبر القطار، إلى مناقشة ملف للتأهيل الجامعي، تاركا وراءه سؤال الكتابة التاريخية والثقافة الشعبية يقظا منتجا للمعنى، وفقا لما انحاز إليه من "التزام" ومواطنة، فهنيئا لنا به معلما رائدا وإنسانا باذخا ومثقفا ألمعيا، وإنا لله وإنا إليه راجعون. *- قدمت هذه الشهادة خلال الحفل التكريمي للمرحوم علال ركوك المنظم من طرف المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، يوم الثلاثاء 31 أكتوبر بمقر المندوبية بالرباط. جدير بالذكر أن المرحوم كان قيد حياته عضوا في اللجنة العلمية الاستشارية للمندوبية السامية.