ينتشر وعي اقتصادي في معظم المجتمعات الأوروبية حيث يعيش العضو الاجتماعي حالة قلق دائم بسبب المتغيرات الاقتصادية، ويتحدث بالأرقام والنسب عن الإنجازات المحققة والمعوقات والوظائف المتوفرة، بل أصبح وعيه الاقتصادي يحدد علاقته بالإنجاب، كما أوضحت دراسات متعددة، نذكر منها دراسة قامت برصد قلق نساء هنغاريا من الركود الاقتصادي الذي عرفته البلاد في الثمانينات، أدى بهن إلى العزوف عن الإنجاب. إذا كانت المجتمعات الأوروبية الربحية تحاول التحكم في الانفجار الديموغرافي، ماذا أعددنا نحن للتحكم في النسل بالمغرب؟ هل استطاع الوعي الاقتصادي النفاذ إلى الذهنية الشعبية لكي يصل بنا التفكير في ملاءمة إنتاج الثروة المنوية بشروط إنتاج الثروة الاقتصادية؟ لماذا لا نقوم بتخصيب الحيوانات المنوية حسب متغيرات السوق الاقتصادية؟ وهل تتوفر الدولة على برامج ومخططات لإنتاج الثروة المنوية في المدى المتوسط والبعيد؟ هل نتوفر على ترسانة قانونية تنظم عملية الإنجاب؟ يبدو أن المركزية القضيبية في المغرب تنتج الحيوانات المنوية بذهنية ثقافية موروثة وتمثلات نمطية مازالت تتحكم في حياة الأسر الجنسية، ولا علاقة لها باقتصاد السوق. يتم تفريخ الحيوانات المنوية بطريقة متجانسة في جميع أنحاء المغرب، بل وحتى ضمن الجاليات المغربية في المجهر، بكميات وفيرة، وكأننا في مزارع الديك الرومي وليس في مجتمعات بشرية منظمة تتأرجح حجج الإنجاب فيها بين مفهوم الفحولة ومفهوم عزوة الأبناء، بالإضافة إلى مسوغات ثقافية موروثة أخرى ومرجعيات دينية تؤطر ذهنية الإنجاب لدى شرائح واسعة من المجتمع المغربي. لماذا لا يدرك معظم المغاربة اليوم أن الإنجاب مرتبط بالسوق البشرية التي نعيش بين أحضانها؟ إذ في حقيقة الأمر ليست لدينا مشكلة مع تخصيب الحيوانات المنوية والتبويض و"التفقيس"، ولكن لدينا مشكلة حقيقية عويصة مع استيعاب هذه القاعدة الشبابية الهائلة الموجودة في سوق الشغل، مع تكوينها وتدريبها وتهذيبها وتأهيلها لولوج السوق الاقتصادية. قد يقال إن العيب في الاقتصاد الجامد الذي لا يبتكر ولا يتطور بوتيرة سريعة تمكنه من احتواء الانفجار الديموغرافي، هذا قول سليم، لكن يظل تطور الاقتصاد مرتبطا بسياسات ثقافية تساعده على تحقيق التنمية المنشودة، لهذا فربط قلق الإنجاب بالتطور الاقتصادي سؤال مشروع، فطِنت إليه العديد من المجتمعات الغربية. فلنتأمل مثلا برامج الهجرة التي تنظمها بعض الدول ككندا، أليست هذه البرامج رحبة سوق بشرية تساعد هذه الاقتصادات العالمية على الحصول على يد عاملة مؤهلة تستفيد من خدماتها دون الإضرار بما تنتجه الآلة الجنسية المحلية من يد عاملة مؤهلة ومؤطرة من طرف أجهزة الدولة والمجتمع المدني. ألا يعلم الكثير من المغاربة أن الخصوبة المفرطة والإنجاب الوفير يغرقان السوق حتما بعمالة غير مؤهلة رخيصة، يظل المستفيد الوحيد منها هو المقاولة الرأسمالية؛ إذ تجمد الأجور، وتستغل كد الفقراء في صمت؟ نحن نعيش اليوم في سوق بشرية تشبه رحبة البهائم، نصطف في طوابير الانتظار، ونقوم بعرض مؤهلاتنا وشواهدنا ووثاق ثبوتية أخرى، تظهر خبراتنا ومثابرتنا في العمل، ثم ننتظر الطلب، هذه السوق تصنفنا إلى تقنيين وحرفيين وإداريين ومدرسين وأطباء ومهندسين، وتتناسل الأصناف المهنية بتكاثر احتياجات السوق، وهكذا يتم تشييئ/تأهيل/تمكين الحيوان المنوي ليصبح أداة لإنتاج الثروة الاقتصادية. إن تدخل الدولة المغربية في عملية الإنجاب جد محتشم، وكأن المغرب لا يعاني انفجارا ديموغرافيا مقارنة مع سيرورة إنتاجه الاقتصادي؛ إذ اقتصرت وزارة الصحة في الماضي على توزيع حبوب منع الحمل مجانا في بعض المستوصفات، وساعدت بعض النساء على إجراء عمليات اللولب لمنع الحمل، بالإضافة إلى خلق إعلانات إشهارية تبخس الأسر المكتظة وتسخر منها. هذا مع العلم أن هذه الإجراءات المرتجلة التي بدأت في عهد الملك الراحل بوصفها برامج لتخطيط الأسرة، اضمحلت بشكل ملفت للنظر في مغرب اليوم، وهنا نطرح السؤال: هل تتوفر الحكومة المغربية على مخططات على المدى المتوسط والبعيد للتحكم في الانفجار الديموغرافي ومعالجة ارتداداته؟ هل تتوفر الدولة على مقاربة شاملة تجعل من الحيوانات المنوية ثروة قومية يمكن استخدامها في تنمية الاقتصاد الوطني والتحكم في إنتاجها عن طريق نشر وعي اقتصادي وقوانين تنظم إنتاج هذه الثروة؟ كيف نرسل أقمارا إلى الفضاء وندخل العولمة المعلوماتية من بابها الواسع، ونحن مازلنا نخصب الحيوانات المنوية خبط عشواء؟ إذ نعيش فوضى الإنجاب كما نعيش فوضى البناء العشوائي؟ هل قدرنا أن نشيد مساكن عشوائيا، ونلد عشوائيا، ونرمي بالأطفال إلى الدروب والأزقة قصد التنشئة العشوائية دون تأطير، ثم نوظف عشوائيا، كما حصل بالنسبة للأساتذة المتعاقدين الذين تم إقحامهم تحت ضغط الشارع في الوظيفة العمومية بدون تكوين؟ في ظل غياب الوعي الاقتصادي يستند العضو الاجتماعي إلى مخزونه الثقافي الموروث لتحديد مفهوم الإنجاب؛ إذ يستقي معظم الخطاطات الثقافية والاستعارات الجاهزة للتعبير عن دوره الإنجابي في المجتمع من هذا المخزون. ويعتقد الكثير من الأعضاء الاجتماعيين أن دورهم الأساسي في الحياة هو تكوين أسر وإنجاب أطفال والعمل على تربيتهم. وأمام هذه الهوية التفريخية المنبثقة من ذهنية ذكورية تستمد مشروعيتها من المقدس، تتمركز الفحولة القضيبية بقدرتها على الإنجاب في الذهنية الشعبية، باعتبارها مكونا أساسيا في بناء المجتمع إلى حد أن هذا الأخير يرفض الاعتراف بأشكال أسرية مختلفة عنه، قد تتكون من أفراد عُزّاب، أو نساء متزوجات عاقرات. إن الكوجيتو المغربي يقول: أنا أفرخ أنا موجود. هذا الكوجيتو يحرك الآلة الجنسية المغربية حتى في بلاد المهجر، خصوصا ضمن الجيل الأول من المهاجرين، على الرغم من احتكاكهم بعوالم جديدة تنظم النسل، مما يدفعنا إلى القول بفولاذية الذهنية الشعبية؛ حيث لا تستطيع الإيديولوجيات الدخيلة اختراقها في هذا الباب، وتعد الفحولة الذكورية من الخصائص المجتمعية التي لا يمكن مساومتها إطلاقا بأي شكل من الأشكال في مخيال الإنجاب؛ فالهوية الذكورية تُختزَل في فحولة الذكر، كما تختزل أنوثة المرأة في قدرتها على الإنجاب. ولنكن صرحاء مع بعضنا البعض، لا يرى المجتمع المغربي إعاقة بدنية أسوأ من الوهن الجنسي والعقم، فنكته ورواياته الثقافية واستعاراته التي يحيا بها، جلها تتمحور حول فحولة الرجل وخصوبة المرأة، وإليكم بعض مقومات مخيال الإنجاب بشكل مقتضب، نسردها على الشكل التالي: 1-تبخيس العقم ومركزة فحولة الرجل وخصوبة المرأة تنبني الذهنية الذكورية على التنويه والإشادة بخصوبة المرأة؛ إذ تحقّر العاقر وتنبذها. ويستقي هذا الحكم القاسي على المرأة العاقر منطقه من خصوبة الأرض وعطائها، فالمرأة كالأرض، والجماع حرث لها، فإما هي أرض خصبة معطاء، أو قاحلة عقيمة، يمكن استبدالها بأنثى أخرى، وهذا ما يحدث في غالب الأحيان؛ إذ يلجأ الذكر إلى نكاح النسوة مثنى وثلاث ورباع بحثا عن الذرية، فإذا أنجب البنات، استمر في نشاطه الجنسي المتواصل بحثا عن الذكر الذي سيحمل اسمه ويرثه، حتى ولو كان الإرث سوى براكة صفيح. وترفض الذهنية الذكورية ملامة الرجل في حال إخفاقه في الإنجاب، فحتى مع تطور الطب وإثبات فحوصاته عقم الرجل، مازالت العقلية الذكورية لا تقبل بهذا التصنيف، وتلقي بالفشل في الإنجاب على المرأة، وهكذا يتم استبدال الأرحام والفروج، حتى ولو كان الرجل عقيما، لأن الأمر هنا لا يتعلق بالإنجاب فقط، ولكن بتحدي الفحولة، التي تقاس هي الأخرى بقدرة الذكر على الإنجاب. 2-تشجيع الإنجاب الكمي/ العددي تعمد الثقافة الذكورية بالمغرب إلى تشجيع التفريخ بكميات هائلة، قد تصل العائلة فيها إلى عدد فريق كرة القدم، وهذا يدل في حد ذاته على أن عملية التخصيب لا تخضع لضوابط أخلاقية أو لهواجس اقتصادية، كل ما تفكر فيه الأم أو الأب هو البحث عن النوع في الإنجاب، ومؤانسة الأطفال بعضهم ببعض. لقد اعتادت النساء على إنجاب أطفال فقط لكي يسامروا إخوتهم ويرافقونهم، فتنصح النسوة بعضهن البعض بالقول المأثور: "خاوي ولدك، ما تخليهش بوحدو، راه خاصوا معا من يلعب!". وهكذا، قد تلد أنثى البشر حيوانا منويا فقط ليصاحب إخوته ويلعب معهم، بل قد يصل الاستهتار بالنساء إلى المنافسة العائلية في الإنجاب، خصوصا بالنسبة لزوجات الإخوة الذكور. فكلما أشهرت زوجة أخ حملها، أصابت الغيرة الزوجات الأخرى، فيكثفن الجهود للتخصيب والحمل، وتنتهي منافسة إثبات الذات الإنجابية في الثقافة الذكورية بجيوش من الأطفال، لا أحد في العائلة ولا في المجتمع يعلم مستقبلهم المهني! وهكذا تنزلق العوائل إلى القدرية والحكم الشعبية لمؤازرة اختياراتها، فيحاججك أحدهم بأن "كلها كيتزاد برزقو". وعلى ذكر مفهوم الرزق هذا، سألت ذات يوم قرويا فقيرا عن عدد أبنائه، فأجابني بأنهم ستة، ثم سألته هل ينوي إضافة مولود جديد؟ فأجابني متوترا بأن السنة الفلاحية تشهد جفافا، والزرع قليل، لهذا قال لزوجته بأن تُؤخر الحمل لسنة فلاحية قادمة، وكأن الأمر يقتصر على علف الحيوانات المنوية، وكأن كل كيس زرع بحيوان منوي، ما هذا المنطق! هو المنطق ذاته الذي تجذر في تفكير معظم العوائل المغربية التي تعتقد أن الإنجاب قضية أسرة وليس قضية مجتمع، ويسود منطق كون الإنجاب يتعلق بالأسر لوحدها، فمادامت الأسر قادرة على توفير القوت اليومي للأبناء، فلا دخل للمجتمع بهم، وكأن تربية الحيوانات المنوية تقتصر فقط على "اللّقٓط". إن هذا النمط من التفكير مازال متأصلا بين شرائح واسعة من المجتمع المغربي؛ إذ يخاطبك الكثير منهم بالقول المأثور: "مالك كا تصرف لي عليهم، أنا قاد بهم!" انتهى الكلام! إذن هل تظن عزيزي القارئ أن المنجب المغربي واع بأن إنتاجه المنوي سيتم تصديره إلى رحبة السوق البشرية، وبالتالي هناك عرض وطلب، ووتيرة اقتصادية تتحكم في مستقبل هذه الحيوانات المنوية؟ 3-الإنجاب باعتباره سلاحا مضادا للهيمنة الذكورية: "التغريق المنوي" في حربها للسيطرة على الذكر، تَعتبِر النساء الإنجاب العددي وسيلة ناجعة لكبح جماح الرجل وفرملته في التفكير بالزواج من نساء أخريات، لهذا ينتشر منطق الإنجاب العددي بين النساء تحت شعار "غرّقي بوه أولاد"؛ ذلك أن الرجل "المخفف" في اعتقادهن، قد يرمي بمسؤولياته العائلية في أي لحظة بحثا عن نسوة أخريات. وأمام هذه المحاكمة النسائية الانتقامية من هيمنة الرجل والتسابق لتغريقه بالحيوانات المنوية المخصبة لكي يخضع لمصير الزواج المؤبد، ترتكب النساء حماقات في حق المجتمع، لأن الأولاد ليسوا فقط "أوتادا" لتثبيت خيمة الزواج، كما تعتقد الكثير من النساء، ولكنهم مشاريع هويات مهنية ووظائفية يعتمدها المجتمع لبناء مؤسساته: أبهذه الأوتاد سنشيد اقتصادا ونبني مجتمعا؟ 4-تسليع الحيوانات المنوية المخصبة والمتاجرة فيها انطلاقا من نمط تفكير قروي يرتكز على خدمة الأرض، تَعتبِر الكثير من العوائل المغربية أن الإنجاب يوفر يدا عاملة مجانية تساعد الآباء في كسب العيش، لهذا يتم الإنجاب بكميات هائلة، ثم يرمى بالأطفال في سن مبكرة إلى سوق الشغل لإعالة الأسر الفقيرة؛ إذ هناك من الآباء من لا يشتغل، ويكتفي بتحصيل ما يكسبه أطفاله من خدمتهم في البيوت والورشات الحرفية. إن فكرة استغلال الأبناء بوصفهم موارد اقتصادية لا تقتصر فقط على العوائل الفقيرة، بل تمتد لتشمل العوائل الغنية التي تؤسس شركات عائلية وتستثمر في الإنجاب لتوفير يد عاملة تدير الشركات بأمانة أفضل من الاعتماد على الغرباء. هذا بالإضافة إلى الاستثمار في إنجاب الأطفال باعتبارهم عزوة الغد لقهر الزمن والتقدم في السن، فيحل الأبناء محل مؤسسات الضمان الاجتماعي ومراكز رعاية المسنين في المغرب، ويصبح الإنجاب ضرورة ملحة لرعاية الآباء المسنين، مادامت الدولة لا تتوفر على بنى تحتية لائقة تأوي نزلاء في سن الشيخوخة. 5-المرجعية الدينية في الإنجاب لا يجب أن ننسى أن مخيال الإنجاب يستمد مشروعيته من المقدس الذي يحث المسلمين على التناسل والتكاثر، على الرغم من أن فكرة التكاثر والتناسل في الإسلام لها سياقاتها التاريخية، لكن يفضل الإنسان المغربي البسيط أن يختزل التناسل في تأويل تبسيطي يشرعن له التفريخ اللامتناهي، وهكذا تجد الفكر الشائع هو أن كل دابة رزقها على الله. هذا المعتقد يؤطر عملية الإنجاب على الرغم من معاناة الأسر وغرقها في البؤس والحرمان، والتهميش والفاقة؛ إذ لا تستطيع الذهنية الشعبية أن ترقى إلى وعي اقتصادي يمكّنها من ربط الأرزاق بالسياسات الاقتصادية وتوزيع الثروات. إن الحلم المغربي يتمركز حول الإنجاب؛ هو الهدف الأسمى الذي يسعى إليه معظم الشباب، فتمنح الأولوية في خدمة المجتمع لإيجاد عمل وتكوين أسرة وإنجاب أطفال، وتحقيق استقرار اجتماعي، وليس لتطوير المعارف والابتكار والإبداع في حقل التخصص. أليس هذا ما يفسر انتشار الطقوس السحرية وزيارة الأولياء قصد تحقيق حلم الإنجاب؟ ألم يحن الوقت بعد لتأطير الشباب على أحلام مجتمعية جديدة تنمي الوعي بالتخطيط الأسري والمسؤولية الأخلاقية للأسرة في بناء المجتمع؟ ألم يحن الوقت لربط إنجاب الحيوانات المنوية بمتغيرات سوق الاقتصاد الوطني حتى يصبح مكونا أساسيا في إنتاج الثروة الاقتصادية ومؤشرا قابلا للعد والإحصاء والنقصان والزيادة حسب متطلبات السوق؟ *جامعة شعيب الدكالي