اشتهرت قرية رشيدة إقليمجرسيف، كمدرسة عتيقة، لعب مسجدها الأعظم نفس الدور الذي كانت تلعبه المساجد في المغرب على مدى قرون، حيث تخرجت منه أفواج من حفظة القرآن، فضلا عما كان يدرس في رحابه من علوم الشرع واللغة وغيرها. وقد كانت للمسجد مكتبة زاخرة تعرضت للحرق في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، لأسباب ظلت مجهولة ومتضاربة، لكن النتيجة الوحيدة المؤكدة هي ضياع ثروة علمية وتاريخية لا تقدر بثمن. ولم تكن المكتبات العائلية -وحتى الخاصة- أسعد حظا، فمكتبة "أهل الزاوية"، ومكتبة "الشعبة" لم يعد لهما أثر وكذلك الشأن بالنسبة لمكتبة سيدي المصباح ب "الفرمة" التي تعرضت للحرق بشكل متعمد، وهي للمفارقة، الزنقة التي ينحدر منها شاعرنا سيدي أحمد الحبيب.. وأكثر من ذلك، فحتى المخطوطات التي آلت بالإرث غالبا إلى أفراد، إما أهملت إلى أن تلاشت، أو تم التفريط فيها، أو بيعها بثمن بخس لا يساوي لا قيمتها التاريخية ولا مضمونها العلمي. إن هذا الاستهلال كان ضروريا لإدراك حجم الصعوبة التي يجدها المرء حين يحاول النبش في تاريخ إحدى أبرز الشخصيات التي طبعت تاريخ القرية. * مولده ونشأته: ولد الشاعر أحمد الحبيب، في قرية رشيدة(1) معقل الزاوية اليعقوبية وفيها توفي سنة 1243ه رحمه الله (2). أما تاريخ ميلاده، فغير معلوم، وإن كان يغلب على الظن أنه ولد نهاية القرن 12 الهجري، بحكم حصوله على إجازة أحد شيوخه سنة 1218 ه كما سيأتي بيانه أدناه. * نسبه: جاء في تذييل الشيخ محمد بن جعفر الكتاني (3)، لكتاب التقاط الدرر للقادري، ما يلي هو: "أبو العباس أحمد الحبيب بن مَحمد بن أحمد بن مَحمد بن أحمد بن عبد القادر بن مُحمد بن مَحمد بن مَحمد ابن العارف بالله سيدي يعقوب بن عبد الواحد الحسني، الرشيدي اليعقوبي، دفين رشيدة؛ على مرحلة من تازة". وهذا قريب من النسب الذي أورده صاحب إتحاف المطالع (4) وفيه أنه : "أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن أحمد بن العارف يعقوب بن عبد الواحد..".. وفيه أيضا أنه توفي يوم تاسع وعشرين محرم، فاتح السنة أعلاه. * مكانته العلمية نشأ في بيت علم وفقه وقضاء. حفظ القرآن الكريم بجامع الزاوية اليعقوبية، وأخذ أصول الفقه والعربية عن والده وغيره من العلماء في مسقط رأسه. ثم رحل إلى فاس فدرس بجامع القرويين على علماء عصره، فأجازوه. (5) أخذ عن سيدي عبد الواحد بن مَحمد الفاسي، وعن سيدي سليمان الحوات؛ وقد ذكرهما في إجازة لبعض تلاميذه. (6) وقد وضعه الشيخ عبد الحي الكتاني ضمن من أجاز سيدي الحاج الهاشمي الرتبي إلى جانب كبار علماء القرويين من قبيل العباس بن أحمد بن سودة، والعباس بن كيران، وعثمان بن محمود القادري البغدادي التازي، مما يدل على مكانته العلمية. (7) وقد أجازه أبو العباس أحمد بن سودة (8) وحلاه ب"الفقيه النبيه الدراكة الوجيه، العالم الماهر الأديب، البارع الباهر، الأوحد الألمعي الأمجد". كما أجازه الشيخ سليمان الحوات (9) ووسمه قائلا: "العالم الأديب الألمعي النجيب... تام المشاركة ذو الباع العريض في قول القريض، تعترف له أذكياء الزمان بأنه المبرز على الأقران". وقد حررت هذه الإجازة، في منتصف ربيع الثاني سنة 1218 ه. وحلاه الشيخ محمد بن جعفر الكتاني قائلا: "العلامة النحرير، الصالح الأديب، الفقيه البركة"، وهي كلمات موزونة بميزان الذهب، خاصة وأنها صادرة عن واحد من كبار علماء الحديث في المغرب بداية القرن الماضي. كما حلاه الشيخ عبد السلام بن عبد القادر بن سودة في كتابه إتحاف المطالع بوفيات أعلام القرن الثالث عشر والرابع بقوله : "الشيخ الإمام، العلامة الهمام". وقال عنه أبو القاسم الزياني صاحب الترجمانة الكبرى :"الفقيه الأديب، اللوذعي الأريب، محبنا السيد أحمد الحبيب الرشدي" (10). وقال عنه القاضي أحمد بن قاسم المنصوري المكناسي (11) الذي ولي القضاء بتاوريرت ودبدو بين سنتي 1937 و1942، :"إن في سفح جبل رشيدة الشامخ، وفي شقة من ذلك الطود الراسخ، وبين شواهق تلك الصخور التي لا تأوي إليها إلا الوعول والنسور مرش (12) صغير ذو بناء حقير، دوره من طين وحجر، لا يقعى عليه البصر، ولا يلتفت إليه النظر، وهناك بين نبات الحلفاء والشيح، ومهب عواصف الريح نشأت هذه اليتيمة الفريدة بقرية رشيدة". إن هذه الشهادات تصب كلها في نتيجة واحدة، مؤداها أن شاعرنا رحمه الله كان ضمن النخبة العلمية والأدبية في عصره، وهي مكانة لم يكن من السهل إدراكها، خاصة في ظل المنافسة الشديدة، وفي ظل احتكار أسر معينة لشؤون العلم والأدب والفقه على مستوى حواضر المغرب الكبرى، وعلى رأسها فاس التي كانت يومها عاصمة علمية وإدارية واقتصادية. وهذا علما أننا نتحدث عن شخصية لمع نجمها في عهد مولاي سليمان العلوي السلطان العالم الفقيه، الذي تشهد سيرته بأنه كان عالما مشاركا، مدرسا ومؤلفا، وكانت مجالسه العلمية قبلة لنوابغ عصره. * الإنتاج الشعري: مع الأسف، لا يمكن الحديث عن إنتاج شعري، بالمعنى الصحيح لهذا التعبير، فأحرى عن إنتاج فقهي أو فكري أو قضائي، للمحتفى به سيدي أحمد الحبيب، في ظل غياب مادة كافية للقيام بدراسة علمية وافية، تؤكد المكانة العلمية التي وصل إليها كما أشرنا إليها أعلاه. وهي حقيقة سجلها - باستغراب واضح- القاضي أحمد بن قاسم المنصوري في مخطوطته الموسومة ب"الأبحاث الرشيدة عن الأدب بين تاوريرت ورشيدة"(13) حيث وصف سيدي أحمد الحبيب ب : "الذي أسدل عليه الخفاء ليله، إذ لم أر من رسمه بجرة قلم، أو تحدث عن أدبه أو ألم، على أنه نور على علم، أدبا وفطنة، فصاحة ومكنة، مع قرب داره ودنو مزاره، وخدمة منيفة للأعتاب السليمانية الشريفة، روض من الأدب خصيب، إلى شعر يذوب ويذيب، ذلك هو أبو العباس أحمد ابن الحبيب..".. غير أن ما اطلع عليه القاضي المذكور من إبداع شاعرنا رحمه الله، على قلته وندرته، أهله ليقول في حقه : "له شعر محكم المباني راسخ المعاني، مصقول المرآة، وضيء المشكاة، صقلته البادية وفصاحتها، ومتنته الطبيعة ونصاعتها. ولهذا الأديب ولوع وغرام بمدح النبي الحبيب ويكثر فيه القصائد المفتتحة بالتغزل والنسيب".. من جانب أخر، هناك وثيقة مهمة، (14) عبارة عن رسالة موجهة لبوزيان الشاوي، وهو من أخوال السلطان مولاي سليمان وأحد رجال المخزن، حيث كان عامل تازة، كما كان أيضا في مرحلة ما قائدا على عين بني مطهر، فضلا عن كونه من كبار أعيان قبيلة الاحلاف أصهار السلطان العلوي محمد الثالث (سيدي محمد بن عبد الله). ويستشف من هذه الرسالة أنها تضمنت أمرا لهذا العامل بنسخ كناش فيه "كلام ولي الله تعالى سيدي أحمد الحبيب"، ثم إعادته لأصحابه. ويبدو من تاريخ الرسالة، أنها حررت على عهد السلطان عبد الرحمان بن هشام. إلى هذا، حسب موقع معجم البابطين لشعراء العربية، على الانترنيت، فإن هناك مجموعة قصائد الشاعر أحمد الحبيب، عبارة عن مخطوط بالمكتبة العامة بالرباط ضمنها قصيدة رائية، في مدح جده القطب يعقوب الوامغاري ذكر الأستاذ الامراني رحمه الله في مقاله المشار إليه إليها أنها من 108 أبيات، ومخطوط آخر بخزانة تطوان، لكن جهود الوصول إليهما والاطلاع عليهما لم تثمر بعد. وحسب نفس الموقع فإن شعر سيدي أحمد الحبيب يعكس صورة عن حياته وطبائع عصره، وفي هذه الصورة - في جانبها الذاتي - تبدو حياته بما عاناه من بؤس وحرمان وغربة إبان دراسته، وما تحقق له من رفاه وجاه إبان توليه القضاء. وقد تطرق في شعره إلى مختلف موضوعات القصيد في زمانه من قبيل : المدح والرثاء والشكوى والوصف، وأسلوبه لا يتجاوز أساليب عصره، وإن بدا عنده اهتمام بالمحسنات البديعية وبأشكال النظم، فهو شاعر تقليدي بوجه عام. لكن، كما قلت يصعب الحكم على الإنتاج الشعري للشاعر، في ظل غياب الجزء الأكبر من شعره، خاصة وأن ذ.الامراني رحمه الله، رئيس المجلس العلمي لتازة سابقا، قال إنه عثر على 8 قصائد للشاعر، مجموعها 225 بيتا (15) وللوقوف على صعوبة القيام بتقويم موضوعي لشعر سيدي أحمد الحبيب، لابد من تسجيل مفارقة اكتشفتها مؤخرا من باب المصادفة المحظة، وتتمثل في أن كلا من الشيخ عبد السلام بن عبد القادر بن سودة والشيخ محمد بن جعفر الكتاني، نسبا إليه منظومة بعنوان : "فريدة السمط الفريد، في رثاء الحسين ولعن يزيد"... بل إن الشيخ الكتاني أكد أنه اطلع عليها هي و"الوظيفة السينية في الأذكار السنية والدعوات النبوية" من خط العلامة سيدي الطالب ابن الحاج، وهو من كبار علماء عصره. وهناك مصادر تسمي هذه القصيدة "فريدة السمط في رثاء السبط"، والتي مطلعها : حسين أفديك من هالك ** بنفسي ويا ليت ذاك صدر وكما هو واضح من العنوان فإن هذه القصيدة قد توحي بميول "شيعية" لشاعرنا سيدي أحمد الحبيب، وهو أمر قد يبدو مستبعدا، لأسباب تاريخية وواقعية، ليس أقلها أن المحتفى به كان من علماء القرويين، وكان يجيز تلاميذه في الحديث، وولي القضاء .. وكان ضمن حاشية السلطان العلوي "السلفي" مولاي سليمان.. كما أن التمدد الشيعي لم يكن يومها بالقوة التي نراها اليوم، وهذه كلها مؤشرات ترجح أن الأمر قد لا يتجاوز نوعا من المبالغة في حب "آل البيت". ومع الأسف، لم أتمكن من الحصول على هذه القصيدة، كما ان الأبيات المتداولة منها لا تفي بالغرض لأنها لا تتضمن الإشارة إلى الخليفة يزيد، فضلا عن أنها مليئة بالأخطاء المطبعية التي يصعب التعامل معها في غياب النص الأصلي. كما تجدر الإشارة أيضا، إلى أن نسبة هذه القصيدة لشاعرنا ثابتة، بالنظر إلى اللبس الذي وقع فيه صاحب إتحاف المطالع، في ترجمته للمحتفى به عندما نسبه إلى لمطة (من بلاد وادي نون) وتافيلالت والحال أن أبا العباس أحمد الحبيب اللمطي الفلالي لم يكن شاعرا. ومن هنا تأتي مشروعية طرح الجانب الآخر من هذه المفارقة، والمتمثل في العلاقة الخاصة بالسلطان مولاي سليمان، الذي يعتبر أحد مؤسسي السلفية في المغرب. لا يتسع المجال للخوض في سيرة هذا السلطان، لكن الواقعة التي أوردها أبو القاسم الزياني في ترجمانته الكبرى، يمكن أن تقودنا إلى استنتاجات وخلاصات كثيرة ومهمة. فمن المتداول على نطاق واسع، خطبة السلطان للمولى سليمان العلوي التي انتصر فيها للسنة ومحاربة بدع الطوائف، وقد قيل عنها الكثير، وكتب عنها الكثير، بل اعتبرها البعض بمثابة خريطة طريق في مجال السياسة الدينية في فترة حساسة من تاريخ المغرب والعالم الإسلامي، بل إن الزياني صنفها سادسة أهم ست خطب انتفع بها الناس أجمع، أربع منها للخلفاء الراشدين، والخامسة لعمر ابن عبد العزيز. ما يهمنا هنا، هو أن أبا القاسم الزياني (16) يقول : ولما سمع هذه الخطبة الفقيه الأديب، اللوذعي الأريب، محبنا السيد أحمد الحبيب الرشدي مدحها ومدح منشيها أمير المومنين بهذه القصيدة الغراء التي أولها: الخير كله في محبة أحمد ** غوث العوالم ذي المقام الأحمد وسلوك سيرته لنيل مقامها ** سبب يحن إليه كل مسدد وبه تمسك صحبه ومن اقتدى ** بهداهم من كل شيخ مرشد إلى أن يقول.. فيها دعا لله قوما أعلنوا **بالشطح والتصفيق والفعل الردي جعلوا مواسم مالها في سنة ** أصل بأضرحة الفحول الزهد رفضوا علوم الشرع إيقالا كما **جلسوا لتنقيص الشيوخ بمرصد فهم على دين النبي أضر من **متبوعهم والكل عاد معتد حتى رماهم ربنا بثواقب **من عدل سيدنا الهمام الأجود فأقامهم والله راض عنه ** في سجن المهانة بالمقام الأبعد إن لم يعالجهم بنعمته التي ** يعني بها أهل الهوى فكأن قد تالله إن إمامنا لموفق** للحق والتحقيق طالع أنجد فزنا بأكسير الهدى والسعد إذ** كنا رعية ذا المليك الأمجد يدعو العباد لربهم ويدلهم** أبدا على نهج الصواب الأرشد وكذاك شأنه ليس تحدث بدعة** إلا محاها باللسان وباليد من كان يلتمس السعادة راجيا** من ربنا نيل النعيم السرمد فالفوز كله في لزوم جماعة** وإمامهم فخر الملوك الرشد أبقاه مولانا لخلقه رحمة ** يهديهم هدي النبي محمد صلى الله عليه ما هطل الحيا**يوما فأحيا كل روض أغيد وعلى الأماجد آله ما أنشدوا** الخير كله في محبة أحمد فلا يخفى في هذه القصيدة نفسها السلفي، وثناء ناظمها على موقف السلطان الصارم إزاء أصحاب البدع، وما جاء في خطبته من هجوم الطوائف التي ارتبطت طقوسها بالاحتفال بالمناسبات الدينية، خاصة عيد المولد النبوي. الهوامش: (1) تقع قرية ارشيدة بالجنوب الشرقي لإقليمجرسيف، وأغلب سكانها من ذرية سيدي يعڭوب بن عبد الواحد الأمغاري الإدريسي الحسني، الذي اختار لمستقره هذا الاسم تحديدا -حسب بعض الروايات- تيمنا باسم شيخه سيدي أحمد بن يوسف الملياني الراشدي (2) إتحاف المطالع بوفيات أعلام القرن الثالث عشر والرابع لعبد السلام بن عبد القادر بن سودة - دار الغرب الإسلامي – 1997 ج 1 ص142 (3) أبو عبد الله محمد بن جعفر بن إدريس بن محمد الزمزمي بن محمد الفضيل الكتاني الحسني (1857 - 1927 م). (4) إتحاف المطالع ج 1- ص: 142 (5) ذ. محمد بن أحمد الامراني – مقال بالملحق الثقافي لجريدة العلم "من أعلام تازة في الشعر والتصوف" (غير مؤرخ) (6) نفس المرجع السابق (7) فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات لعبد الحي بن عبد الكبير الكتاني- دار الغرب الإسلامي/ 1982 ص 920 (8)“الأبحاث الرشيدة عن الآداب بين جبال دبدو ورشيدة” مخطوطة بالخزانة الحسنية تحت رقم 12125 (9) المرجع السابق (10)الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور براً وبحراً لأبي القاسم بن أحمد بن علي بن إبراهيم الزياني ط :2 دار نشر المعرفة -1991 ص :471 (11) أحمد بن قاسم المنصوري المكناسي داراً وقراراً، الزياني مَنْشَأً، بقرية خنيفرة ببلاد زيان 1897م- 1965م (12) المَرْشُ : أسفلُ الجبل وحضيضُه يسيل منه الماءُ فَيَدِبُّ دبيبًا ولا يَحْفِر (معجم المعاني) (13)“الأبحاث الرشيدة عن الآداب بين جبال دبدو ورشيدة” مخطوطة بالخزانة الحسنية تحت رقم 12125 (14) الوثيقة متداولة في القرية، لكن عبر نسخ غير صالحة للنشر (15) مجلة دعوة الحق عدد 286 نونبر 1991 (16) الترجمانة الكبرى ص 471 وما بعدها