أبانت التجربة، منذ عقود، أن العدالة الاجتماعية كمطلب شعبي ورهان مجتمعي هي واجهة صراع اجتماعي وسياسي بين قوات ومصالح، صراع ضد سياسات اقتصادية واجتماعية ما فتئت تنتج الفقر وتفاقمه، وتكرس الفوارق الطبقية وتوسعها، وتقصي فئات عريضة من فرص الشغل والولوج إلى الخدمات الحيوية لتحقيق العيش بكرامة. المسؤولية الأولى في ذلك واضحة، إنها تقع على طبيعة الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية للنظام السياسي والحكومات المتعاقبة، اختيارات رهنت البلاد بتوجيهات وتوصيات المؤسسات الدولية ورضخت ل"لولبيات" مصالح بورجوازية طفيلية ريعية، فاقدة لأي حس اجتماعي وإنساني، هاجسها الاغتناء بدون تنمية، والاستهلاك بدون استثمار منتج وذي مردودية على الاقتصاد الوطني.. إنها الليبرالية الاقتصادية المتخلفة والمتوحشة وغير المتشبعة بالقيم المؤسسة للمواطنة، والتي تحول في ظلها مطلب العدالة الاجتماعية إلى "خطاب" شعبوي وانتخابوي يدغدغ بالشعارات ويجيش بالمتاجرة في الفقر باسم "الإحسان"؛ فلم ينتج، بالتالي، ويقترح تصورا لنموذج تنموي بديل يضع ذاك المطلب على سكته السليمة، فلا يكفي التغني بالمقتضيات الدستورية بخصوص العدالة والمساواة.. إلخ، فالنص الدستوري كوثيقة لا يوفر شغلا أو خبزا، ولا يبني مدرسة أو مستشفى، ولا يوفر لملايين الفقراء الخبز والكرامة.. إن ذلك يقتضي إرادة سياسية أولا وقبل كل شيء، وتبني اختيارات وسن برامج ذات بعد تنموي واجتماعي حقيقي، يتجسد من خلال سياسات عمومية تتجاوب مع حاجات الناس الضاغطة ومع تطلعاتهم المشروعة في المساواة والكرامة والعدالة.. وفي هذا السياق، فمن أولويات أي سياسة اقتصادية واجتماعية تتوخى فعلا ربح رهان العدالة الاجتماعية: - مواجهة فعلية ملموسة ومدروسة لاقتصاد الريع، وأنظمة الامتيازات في مجال العقار التي أفرزت طبقة من "القطط السمان" اغتنت بسرعة وفي الظلام، وذلك على حساب ذوي الدخل المحدود والمستضعفين، ومحاربة مختلف أشكال الفساد المستشرية في دواليب الدولة وفي مختلف المجالات والمرافق العمومية والخاصة؛ - اتخاذ إجراءات تحقق تكافؤ الفرص في توزيع الدخل والثروة بما يقوي لقدرة الشرائية لأغلبية الفئات الاجتماعية، بما فيها جزء كبير من الطبقة المتوسطة، وفي مقدمة هذه الإجراءات الملحة مراجعة جذرية للمنظومة الضريبية المجحفة وغير العادلة ولمنظومة الأجور المستفزة بفوارقها الخيالية؛ - ضمان تكافؤ الفرص في ولوج سوق الشغل، بمحاربة المحسوبية والزبونية بما يكفل حق خريجي الجامعات والمعاهد العليا، بغض النظر عن تخصصاتهم، الحق في الشغل ويفتح أمامهم آفاق تطوير كفاياتهم، والارتقاء الاجتماعي والشخصي؛ - إحداث صناديق لمكافحة الفقر كآلية تضامن وتعاون تؤمن حق العيش الكريم على أساس مبدأ "الخبز مع الكرامة". وبدون توفر الإرادة السياسية لكل الفاعلين المركزيين، على مختلف مواقع مسؤولياتهم، سنظل نستيقظ كل يوم على ما ينتجه الفقر من مآس يومية ..فلا يقضي على الفقر غير العدالة الاجتماعية التي تشكل في مجتمعنا المعاصر قيمة إنسانية عليا... وسلاما على أرواح شهيدات سياسات التفقير بضواحي الصويرة.