من المطالب المركزية التي تؤطر الحراك الاجتماعي والسياسي في بلادنا وبقية البلدان العربية الأخرى، مطلب العدالة الاجتماعية، موصولا وثيق الصلة بمطلب إسقاط الاستبداد والفساد، ففي جميع التظاهرات والمسيرات ترفع شعارات منددة بأوضاع الفقر والتهميش والإقصاء التي ترزح تحت نيرانها فئات عريضة من المجتمع. العدالة، من المفاهيم الكبرى في الفلسفة السياسية، وفي الفكر السياسي الحديث والمعاصر، فهي «أم الفضائل» عند أرسطو، وهي ما يحقق إنسانية الإنسان في فرديته الخاصة وفي علاقاته بالدولة والمجتمع، وهي غاية الفعالية البشرية في الفكر الاشتراكي، الذي ربط تحقيق العدالة الاجتماعية لا فقط بالمساواة القانونية في الحقوق وتكافؤ الفرص، وإنما أساسا، بالقضاء على جذور الاستغلال والفوارق الطبقية المتمثلة في النظام الاقتصادي الرأسمالي ذاته، وآلياته التي توفر له الاستمرارية والهيمنة . الحراك الجاري اليوم، يتوحد داخله التوجهان معا، الليبرالي والاشتراكي، إلى جانب «المنظور الإسلامي» للعدالة، الذي يشتق مفرداته من المرجعية الإسلامية، دون أن يتجاوز أبعاد ومضامين هذا المطلب ضمن المنظومتين الليبرالية والاشتراكية، رغم الطابع الأخلاقي المميز له دعويا. ودون الانزلاق هنا نحو نقاش نظري للموضوع، وهو نقاش مطلوب اليوم فتح صفحاته ومنتدياته من طرف النخب الفكرية والسياسية والثقافية، يبقى السؤال الذي يفرض نفسه، من وجهة الممارسة والفعالية والتدبير هو : ما السبيل إلى إقرار عدالة اجتماعية على أرض الواقع ولو في حدودها الليبرالية (كمرحلة تاريخية انتقالية ومفتوحة على الأفق الاشتراكي) ؟ أي، بما هي هنا، ضمان فرص متكافئة أمام الجميع للعيش الكريم وللارتقاء الاجتماعي، وللتأهيل الفردي للمواطن في المستويات الاجتماعية والثقافية والمهنية .. الخ ؟ لقد سطر الدستور الجديد للمغرب إطارا سياسيا لتقاسم السلطة ، ودمقرطة الحقلين السياسي والمؤسسي، كما نص على مبادئ ومقتضيات عامة حول حق جميع المغاربة في التعليم والصحة والشغل والسكن والحماية الاجتماعية من كل ما يهدد حقهم في عيش كريم، وهي نفسها المبادئ والمقتضيات التي رصعت ما سبقه من دساتير على امتداد نصف قرن . وقد أبانت التجربة منذ عقود، أن العدالة ليست مجرد إعلان مبادئ ونيات، وإنما هي صراع اجتماعي وسياسي بين قوى ومصالح، اختل فيه الميزان، ليفرز كل مظاهر اللاعدالة التي تفاقمت مع مر العقود، من فقر وبطالة وإقصاء اجتماعي لفئات واسعة من أوليات الحياة الكريمة. ولعل المسؤولية الأولى في ذلك، تقع على الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية للحكومات التي رهنت البلاد بتوجيهات وتوصيات المؤسسات الدولية، «ولولبيات» مصالح بورجوازية طفيلية فاقدة لأي حس اجتماعي وإنساني، هاجسها الاغتناء بدون تنمية، والاستهلاك بدون استثمار منتج و ذي مرودية على الاقتصاد الوطني، إنها الليبرالية الاقتصادية المتخلفة والمتوحشة، وغير المتشبعة بالقيم الليبرالية المؤسسة للمواطنة. ورغم المجهود الإصلاحي الهام الذي بذلته حكومة التناوب، والذي أنقذ البلاد من«السكتة القلبية»، فمازالت مظاهر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية تراوح مكانها، معبرة عن نفسها اليوم بشكل واضح ومقلق، من خلال: تفاقم بطالة الخريجين من الجامعات والمعاهد العليا، وفشل مشاريع الإصلاح للمنظومة التربوية بفعل المقاربة «التكنوبيروقراطية» لاختلالاتها، والتدهور المريع للخدمات الصحية العمومية، وتعثر مشاريع القضاء على السكن العشوائي، والتفقير المتواصل لفئات حيوية من الطبقة المتوسطة ..الخ. إن كل ذلك، وغيره كثير، يجعل من سؤال العدالة الاجتماعية «جوهر جواهر» الإصلاح في المرحلة السياسية الراهنة، وعلى المديين المتوسط والبعيد، إذ لا تقدم للبناء الديمقراطي، السياسي والمؤسسي، كما حدد الدستور الجديد إطاره وأدواته وأفقه، بدون التأهيل الاقتصادي والاجتماعي والتربوي والثقافي للإنسان المغربي.