قُبَّعَة، معطف وخمْر ورحلة مآلها الحفاء يا شكري يا واهب اللًمعة للقانِطات يا العابر في النهر العابر يا موتا تحقَّق رغم أوتاد خيمة دقَقَتها في الهُناك يا سَكرة في السَّكرة ويا ألْفَة في التّيه أسألك: هل قابلتَ الإله؟ هل عاقبك؟ عن فضِّ بكارة أو جرُم زِنا والكأس المترعة أم عانقك؟ كأنه يحنو على ألم قديم زرعه في أرض الريف؟ شكري، هل تقول لي ماذا أوْمأ بِه الإله عساني أعرف من الآن أيّة طريق أمشِي وأيُّ هباء أصْحبُ كأني أوّل النساء آخِر الحائرات... شكري الحزين سيَّان عندي هذا السقوط وهذا الصعود هذه الليلة سأقضيها باحثة عن مرادف لمعنى الثُّمالة أريد أن أعصُر طنجة حتى بزوغ النًّور وأُخرج منها زيتها، كي أضيءَ وأُخرج منها ماءها كي أثْمل وأُخرج منها نثارها كي أُورق ومنها سأخرج السحب،الغمام ، والموج الصعلوك، على مرآه تتعرى صبايا " مرصيلو" وأخرج تاريخك الأزرق، من دولاب "السوق الداخل" وأُخرج معاطفك الباهتة ألوانها، وارتديها كلها، عساني أصير خبزا حافيا لكل الجائعين في الضواحي،وفي المقابر، وعلى الطرقات وأُخرج منها سفنا وقوارب، وسماء ترى من فوق كل جرائم الانسان ولا ترسل حِممَها وأُخرجُ الصوامع والمآذن،ونواقيس الكنائس، وأدعو الحَمام لصَلاة الرِّيح ولأجلك يا شكري الشريد، سوف أعصر وأعصر هذه " الطنجة" حتى الفتح المبين ولكي يتحقق لي خَبَلي، سوف أعصرها باكرا يوم الأحد، لأن الأحد نحاسي، وكثيرا ما تلمع ساعاته تحت شمس لَعوب ولأن الأحد ايضا كان يومك، لا تقرأ فيه لا تكتب لا تمارس عادتك في اللهو لا تدعو إليك لا امرأة ولا سلطانا الأحد كان يومك، وكنت فيه تربي صغار الأفكار فوق اريكة تهتز، كلما سمعت جرس الباب، وجاءت "فاتي"... سأعصر طنجة في باقي الأيام: سأُخْرِج الإثنينَ نضيفا وببذلة العمل كما صيدلي سأخرج الثلاثاء بجِلباب نسائي أُرجُواني وبحجابٍ يهدِّد بانفجارات شتى وسأخرج الأربعاء متثائبا وبسروال عربي، وأجعله يلاحق صورك من حانة "النيكريسكو" إلى حانة "البيركولا"،وسأجعله يقتنع بأنك كنت ألَقَ طنجة، غادرتها فغادرها الألق الخميس، سأُخرْجه تقيًّا ورِعا، بِجِينْز وسُترة جلدية، وبقصّة شعر تشبه قصة "ريشار دجير"، وسأضع على عنقه قطرات "العود القماري الحر"، وأحشو جيوب بذلته بحشيش طري، وبإشارة أصبعي، سآمره أن يتوضأ ويصلي مع الحمام صلاة الريح الجمعة سأخرجها من قلب طنجة، من كل البيوت التي طهت "كسكسا"، وأطلقتْ في بهوها أجنحة الدعاء السبت، آه من السبت، إِنْ عصرت طنجة، سوف لن أخرِج سوى السبت، بتبان أحمر، وفستان ضيق، وعطر فضاح، وليل طويل طويل، لا يتنتهي إلا بضرورة الانتهاء، سبت بعكب عال، بأحمر شفاه وقح، وبحقيبة يد رخيصة تُوهم بالأناقة، سبت يرقص على إيقاع موسيقى الخليح، ويترك شعره يتدلى يمينا وشمالا، والأصابع تُحاكي أصابع أخرى هناك، في الجهة اليقظى من الغواية، سبت كأنه الوحيد في أيام طنجة من يملك مفاتيح المقاهي والمطاعم والحانات والبيوت المحرمة، سبت تهدأ فيه رياح الشرقي، وتهدأفيه كل الزوابع، إلا زوابع الحب شكري عمت مساء، ماذا بوسعي ان أقدم لك: ريحانة على القبر؟ ماء زهر على تربتك؟ قرنفلات أشتت بتلاتها على شاهدتك؟ أم أفرغ نبيذا معتقا أتى به بهاء الطود من مغارات الغجر بإشبيلية، ام اتلو عليك فصولا من روايته ابو حيان في طنجة، جعلك فيها بطلا عذبا أم أشدو قصائد عبد اللطيف بنيحي، افتقدك فيها حتى لا فقد، ورثاك حتى لا رثاء أم هل أحفر قبرك كي أعثر على يدك، وأبث فيها مسرحية، رجل الخبز الحافي، كتبها الزبير بن بوشتى، ولخص سيرتك مع الحياة هكذا: كانت شهيةً وكنتُ جائعا. ماذا بوسعي ان أهديك؟ هل ما جمعتُ من نفائس وانا اعصر طنجة لأجلك؟ لقد نسيتُ، لم أُخْرج منها جواهر المعنى، فمَا طنجة إلم تكن السّر؟ وما طنجة إن لم تكن السؤال العظيم؟ وهل طنجة طنجة بلا هرقل؟ يرفع هامتها ويقيس قدرته بعدد الرحى المنزوعة من مغارته وهل طنجة بياض، بلا عبد الله كنون، يصعد حي "مرشان" كما لو يتلو ابتهالا، ويطوي وريقات أفكاره كما لو يطوي صكوك غفران وهل طنجة فِتنة، بلا العربي اليعقوبي، يشُكُّ في عُروة البذلة ياقة صفراء، وعلى القبعة الزرقاء يرش قطر " هيرميس" ويهش بعصاه على الوقت، يرَوِّضه، يراقصه، يلاعبه، ويغني طويلا موال الصبر، في طنجة تنْكُر جميلهُ، وتنكر عليه الزمن الجميل مر مسرعا ب" كاديلاك" بيضاء بالقرب من "سورالمعكازين".. وهل طنجة بلا بائعة الخبر على حافة السوق الداخل بلا بائعات الخضر والبقول والجبن البلدي وزيت الزيتون واللبن بلا بائعات الهوى والهواء حين تصبح الحياة اخناقا بِلاهُنَّ بلا نساء المصانع المتعبات، يأكلن ما أعددناه من قوت على الجنبات، وينتظرن يوما صافيا لا يجيء بلا رجال البحر، يجيء عام يموتون فيه تباعا، غرقى في المحيط وفي المتوسط، لا تخرج جثتهم الى الشاطئ، إنما تبقى في ماء الغيب المالح بلا قوارب الموت، وأفارقة اشداء، يحسبون الجنة على بعد موجات، وينتهون في بطون الحوت بلا عاهرات، طنجة بلا عاهرات كأنها مدينة مهجورة، فالعاهرات مِلح طنجة ومرارتها، والعاهرات سخط طنجة وعارها، لكنهن ايضا، بقايا نساء عند كل شيخوخة مُبَكرة وانت يا شكري تحفظ عني السر، فلماذا تصمت صمتك الأليم ولماذا تجعل الروح تلهث وراء بوحك ولو كنت في الماوراء إني اسمعك، فقل: ما السر فيكَ وفيَ في الدودة والبرتقالة في الألم وفي الأرض في الدين وفي الشِّعر قل، فأنت من هناك أدْرى وأنت من هناك أقرب إلى المبدع العظيم، خالق السحاب وخالق الروح علاّم الغيب، وعالم العلوم وحتى إن لم تُجِب يا شكري العنيد، فإني جمعت صمتك في قارورة، وغيبتك في حقيبة جلدية كتِلك التي تدلت من كتفك على طول الطريق حتى وان لم تجب، فإني أتحسس أثر عبورك، روحا تسبح في الفضاء، وتترك وراءها ألف جواب... لكل باب مزلاجها يا محمد، وأنت من أية باب دلفت؟ وهل كان المزلاج عصيا؟ يا محمد، ساغادر سأثمل، سأموت... علمني فقط كيف ادخل السماء دخول الفاتحات...