أسقطت أزمة الانفصال التي ألمت بالجارة الاسبانية، عبر استفتاء تقرير المصير بإقليمها الكاطالوني، ورقة التوت عن الديبلوماسية الجزائرية التي ظهرت أمام الرأي العام الجزائري أولا، وأمام المنتظم الدولي ثانيا، في حالة شرود واضحة عن القناعات التي كانت ولاتزال إلى الأمس القريب تروج لها في مختلف المحافل الدولية بخصوص حق الشعوب في تقرير المصير، لتبدو مرة أخرى في صورة ديبلوماسية متنطعة، مرتبكة، انتهازية، تكيل بمكيالين، وفاقدة بالخصوص لذاك الخيط الناظم الذي يمكن أن نتلمس به عادة مواقف الدول الرصينة المبدئية ذات المصداقية على مستوى إفراز السلوك على صعيد العلاقات الدولية. لقد فاجأ المشكل الكاطالاني قصر المرادية سواء بتسارع أحداثه وتلاحقها، أو بالإخراج الشعبوي الذي أسفر عنه لذاك الاستقلال المباغت الذي حل على حين غرة بالجهة الشرقية الشمالية للجار الأوروبي، خصوصا وقد جاء بدوره، ولسخرية القدر، متلفعا بأطروحة حق الشعوب في تقرير مصيرها بكل حرية. تلك الأطروحة العزيزة على قلوب المسؤولين الجزائريين، التي شكلت على الدوام جوهر عقيدة السياسية الخارجية للجزائر، وقميص عثمان الذي تناصب وتحشد به العداء للمغرب. لذلك تأخرت الجزائر كثيرا في الافصاح عن موقفها من الإعلان أحادي الجانب لاستقلال كاتالونيا، وتلكأت في الجهر بتأييدها لوحدة إسبانيا، إلى أن تبين لها فشله الواضح بعد أن غادر بوجيدمونت إسبانيا في اتجاه العاصمة الأوروبية بروكسيل رفقة أربعة من وزرائه. وفي الحقيقة، كانت الجزائر تحبس أنفاسها، وتتابع مجريات الأزمة واضعة في الحسبان إمكانية نجاح هذا الانفصال. فهو السيناريو الوحيد الذي رغم تضاؤل حظوظه يخدم مصالحها أو بالأحرى لا يحرجها، لأنه يمنحها دولة وليدة لم تكن لتتوقعها للدعاية لرببيها البوليساريو مع ما يعنيه ذلك من إسبانيا مهيضة الجناح يمكن أيضا للجزائر أن تنتظر منها تأييدا معلنا لمشروع انفصالي بجنوب المغرب قد نفذ صبرها كله في انتظار تحققه. ولهذا وضع سيناريو هذا الاستقلال المجهض القادة الجزائريين أمام امتحان قاس جدا بأن جعل كل الشعارات التي أطرت أطروحات الحرب والصراع اللذين جمعاهم مع المملكة المغربية على المحك وقيد الاختبار. فمن المؤكد أن الجزائر الرسمية لم تتوقع أبدا هذا الفخ الديبلوماسي الذي أوقعتها فيه الأحداث الإسبانية. فهي من جهة لا تريد أن تستعدي الجار الإسباني من خلال تأييد انفصالييه ولو بالقول، وخصوصا بعد أن تبدت نذر هزيمتهم وانكسارهم. ومن جهة أخرى لا تستطيع إظهار هذا الود لإسبانيا في هذا الظرف العصيب دون أن تتناقض مع ما تدعيه من مناصرة طالما جاهرت بها لحق الشعوب "الذي لا يقبل التنازل" في تقرير مصيرها. ثم وهي تتضامن مع إسبانيا، كيف يكون لها أن تنتظر رد الجميل من طرف هذا الجار مستقبلا في قضية انفصالية شبيهة تأخذ بلبها، وإسبانيا نفسها قد جربت مساوئها ومخاطرها على أرض الواقع. لذلك فالجزائر التي لا تحتكم لمبادئ ثابتة في ديبلوماسيتها، تعد من أكبر الخاسرين من اندلاع هذا الفتنة الكاطلانية الطارئة. إذ ستنتظر الخارجية الجزائرية حتى 30 أكتوبر 2017 لتؤكد على لسان الناطق باسمها عبد العزيز بنعلي الشريف تمسكها بوحدة اسبانيا وسلامة وحدتها الترابية، والذي ذكر بعلاقات الصداقة والتعاون وحسن الجوار التي تربط بين الجزائر وإسبانيا. هذه الأخيرة التي تستطيع حسب البيان الذي تلاه تسوية أزمتها الحالية بالاحتكام إلى الدستور والمؤسسات الديمقراطية الإسبانية. وبالطبع لم ينس هذا الناطق الرسمي بالمناسبة دعم سيادة العراق على كافة أراضيه، في إشارة إلى رفض نتائج استفتاء برزاني بكردستان تأييدا في ذلك بالخصوص للموقف الإيراني. من الواضح أن مثل هذا الموقف لا يتلاءم والصورة التي "جاهدت" الجزائر لتكونها عن نفسها لدى الرأي العام الدولي. إذ لا يمكن هضمه من قبل الفاعلين الدوليين دون أن تتهم الجزائر الرسمية بالميل إلى التمييز في سياستها الخارجية، هي التي ما فتئت تدعم منذ عقود عصابة البوليساريو سعيا إلى تفكيك المغرب تحت يافطة تقرير المصير. هذا الموقف رغم رصانته، فإنه يبين للعالم مع ذلك أن الجزائر غير جادة فيما تدعيه من مناصرة الشعوب في تقرير مصيرها، بل يفضحها، وهي تنتقي من هذه الشعوب من في عقيدتها يجب أن يقرر مصيره ومن لا يتوجب له ذلك، وذلك بحسب الدولة الأم التي ينتمي إليها هذا الشعب وحسابات الحكام الجزائريين التي تعتمد الإضرار بالمصالح الحيوية للمغرب وليس إسعاد الشعب الجزائري الصبور. لكن هذا الموقف سيجعل الشعب الجزائري رغم كل شيء يكتشف مرة أخرى وبالملموس زيف ونفاق حكام المرادية الذين يرهنون حاضر البلاد ومستقبلها بمعركة لا فخر ولا مجد مع بلد شقيق كالمغرب تجمعهم به أكثر من إسبانيا عناصر الأخوة من لغة ودم ودين وتقاليد وتاريخ ومستقبل مشترك. سيستوثق الشعب الجزائري بمناسبة الأزمة الكاتالانية من مقامرة حكام المرادية بأحلامه وتعطيلهم لقضاياه التنموية جريا وراء وهم وسراب اسمه الجمهورية الصحرواية، جمهورية مستحيلة أكثر من كاتالانيا. إذ الظاهر أنهم فقط يقومون بصرف الأنظار عن المشاكل الحقيقية للجزائر، ويصدرون أزمة حكمهم تجاه عدو مفترض اسمه المغرب، ويضعون ثروات الجزائر من النفط والغاز في رعاية مشروع فاشل في مهده لإنشاء دويلة مصطنعة. وتزداد ورطة حكام الجزائر تجاه شعبهم بمفارقة حصول انهيار للحلم الكاتلاني رغم نجاح استفتاء الانفصال في صناديق التصويت، وهو الانهيار الذي حصل بسبب النزعة الوحدوية للإسبان، وبسبب قرف الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي من مثل هذه الكيانات المصطنعة التي لا داعي لها. إن هذه النهاية غير المجدية لهذا الاستفتاء تظهر تهافت ولا جدوى المشروع الجزائري لإنشاء كيان مصطنع على حساب سلامة الوحدة الترابية للمغرب بمجرد استفتاء. وهاهم الأكراد والكاطالانيون يفشلون في إيجاد موقع تحت الشمس لدويلاتهم ولهم استفتاء ناجح في جيوبهم. فما بالك بالمغرب الذي يدمج كل مواطنيه، وخصوصا مواطني الأقاليم الصحراوية، في المسلسل الديمقراطي والتنموي وقدم كل التضحيات، كيف له أن يستغني أو يتخلى يوما ما عن جزء من أراضيه بمناسبة استفتاء؟؟؟ مما لا ريب فيهم أن حكام الجزائر سينتبهون جيدا من خلال هذا الدرس إلى أن المغرب والمغاربة ليسوا أقل وحدوية من اسبانيا والإسبان، وأن الوقائع السياسية من استفتاء وتقرير مصير وغيره لا تنتج واقعا انفصاليا على الأرض، وخصوصا حين تكون قضية الوحدة الترابية قضية نظام وأمة. ولست أظن أن صناع السياسة الخارجية الجزائرية ليسوا على إطلاع الآن بأن مياه كثيرة جرت تحت الجسر، وأن المجتمع الدولي صار يتجنب المزيد من بلقنة الدول والقارات، لأن ذلك يضع متاريس إضافية أمام تنقل البشر والبضائع عبر العالم، ويخلق مزيدا من بؤر التوتر والنزاع في العالم، وأنه يميل الآن إلى الحلول السياسية المتوافق بشأنها أكثر من ميله إلى تقرير المصير، وقد ظهر هذا واضحا في ثلاث قارات: كردستان العراق وكاتالونيا إسبانيا والكاميرون الناطقة بالإنجليزية. وقد كشفت بعض المنابر الجزائرية وتعليقات الجزائريين في مواقع التواصل الاجتماعي عن موجة كبيرة من التندر والتهكم والسخرية تجتاح تعليقات الجزائريين من حكامهم على منصات التواصل الاجتماعي، بعد أن تنكروا للطرح الانفصالي، وأداروا ظهورهم لكاتالونيا التي كانت تضع دائما مؤسساتها رهن إشارة الجمهورية الصحراوية المزعومة، طالبين منها أن تسترجل و"تستأسد" كعادتها في مواجهة المغرب، وتدعم استقلال كاتالونيا أو كردستان، مبرزين أن حبل الكذب والنفاق قصير، ومذكرين بالموقف غير المشرف بهذه المناسبة للجزائر الرسمية من قضية كوسوفو المسلمة مع دولة الصرب وتجاه الشيشان مع دولة روسيا. ولا تسلم جبهة البوليساريو أيضا من سهام السخرية، وهي التي لم تجرؤ على التضامن والوفاء لكاتالونيا حليفتها ومثيلتها في طلب الانفصال، طمعا في استمرار العطف الإسباني على مخيمات تندوف، وتجنبا لموقف مناقض لموقف الاتحاد الأوروبي من قضية كاتالونيا. وهنا لا بد أن تنتبه كيف ستجد الجزائر نفسها إفريقيا في وضع غير مريح، وهي تساير رغبة الاتحاد الأوروبي في التملص من الحركات الانفصالية أوروبيا، وتزعج أفريقيا واتحادها بهذا اللحن النشاز الذي تعزفه ليل نهار حول حق الشعب الصحراوي في تقرير المصير. وأخيرا، ودون أن نشير إلى النزعة الانفصالية في منطقة القبايل الجزائرية التي كان يمكن أن يغذيها موقف جزائري رسمي مساند لكاطالونيا، فإننا نشير إلى أنه إذا كان الشعب المغربي والدولة المغربية يصدران عن قناعة تأييدهما لوحدة إسبانيا، وكان الشعب الجزائري كذلك يصدر عن هذه القناعة نفسها تأييده لوحدة إسبانيا ووحدة المغرب لأنه مل من استغلال أطروحة تقرير المصير للشعب الصحراوي لتعطيل مسيرته التنموية وتأخير بناء المغرب الكبير، فإن الجزائر الرسمية تساند إسبانيا مرغمة بحسابات الربح والخسارة التي تجعلها تضبط سياستها الخارجية وترهن مستقبل الجزائر على معاكسة المغرب. حسابات الربح والخسارة هاته بالبداهة ليست نفسها بالنسبة للشعب الجزائري الذي يرى ربحه في تعقل حكامه وابتعادهم عن إيذاء المغرب، وفي فتح الحدود بين شعبين طال فراقهما، وفي الكف عن السعي نحو اصطناع مزيد من الحدود الوهمية. أما البوليساريو فلا هو قد ساند كاتالونيا، ولا هو يستطيع إعلان مساندته جهرا لإسبانيا دون أن تتكشف حقيقة أنه مجرد ربيب للجزائر الرسمية. هذه الأخيرة التي لن تكون بالفعل وفية لأرواح مليون من شهداء حرب التحرير من دون أن تحب لأخيها المغرب ما تحبه لنفسها أو على الأقل ما تعلن أنها تحبه لجراها الإسباني. وفي انتظار أن تكف الجزائر عن استعمال سلاح تقرير المصير ضد المغرب فقط، يكفي أن الأزمة الكاتالانية قد قلبت السحر على الساحر حين ألزمت الجزائر الدولة بالانقلاب على شعاراتها، والكشف عن حجم أباطيلها وضلالاتها بخصوص الوحدة الترابية للملكة المغربية. ويكفينا نحن أنها أبانت أن الاستفتاءات لا تفل عزم الشعوب وتصميمها على حماية وحدتها، وأن التصويت لا يلغي أبدا الحقوق التاريخية الأصيلة. *دكتور في العلوم السياسية