لم يكن أحد يتوقع أن التيار السياسي الشعبوي ببلادنا الذي بزع إلى الوجود ابتداء من السنوات القليلة الماضية، سيحل خريفه فجأة دون سابق إنذار، وسينهار بنفس الكيفية والسرعة التي ظهر بها، وسيتساقط رواده ومريدوه واحدا تلو الآخر، دون أن تكون لهم القدرة ولا الكفاءة على الصمود أمام عاصفة التغيير التي تُنبئ بإحداث تغير نوعي في طبيعة المشهد السياسي وتوازناته ورموزه، مما قد يفضي إلى ولادة تيار سياسي جديد، لن يكون بالضرورة أفضل من التيارات والنماذج السياسية السابقة. العملية لم تكن صعبة ولم تكن مكلفة، وتمت بشكل محكم وسريع، وبآليات فيها نوع من السلاسة والإبداع والخلق؛ إذ لم يتطلب الأمر أكثر من استغلال أخطاء وهفوات وزلات واختيارات كبير الشعبويين بالمغرب وإزاحته عن موقع رئاسة الحكومة، مما شكل له ضربة موجعة غير متوقعة، أثرت على نفسيته وبعثرت أوراقه وحساباته السياسية ومخططاته الحزبية؛ ولأن العمود الفقري لأحزابنا معظم فقراته تتشكل من شخصية الزعيم ونرجسيته ومزاجيته، فإن ارتداد الضربة بلغ مداه كافة هياكل ومؤسسات الحزب، بل أحدث أعطابا غير قابلة للإصلاح مست النموذج الشعبوي برمته. وقد سهُل هدم التيار الشعبوي لعدم ارتكازه على مقومات سليمة وأسس صلبة، فهو يستمد قوته من الخطاب السياسي الشعبوي الذي يستند بدوره على الثرثرة أكثر من الفعل، والديماغوجية واللعب على أوثار ومشاعر المواطنين ودغدغة عواطف الجماهير أكثر من استعمال المنطق والعقلانية، وتوظيف الأفكار الإيديولوجية والنصوص الدينية أكثر من استناده للأنظمة والنصوص الوضعية، مما يؤدي إلى تخدير فئات شعبية عريضة من المواطنين، وفقدانهم للحس النقدي التشكيكي، وضمان ثقتهم العمياء وتبعيتهم اللامشروطة لشخص الزعيم. تساقط باقي رموز الشعبوية ببلادنا تم بأشكال مختلفة، فمنهم من اختار استباق الأحداث والتنحي إراديا عن موقع الزعامة، إدراكا منه بأن زمن الشعبوية حل خريفه، وبأن صناع المشهد السياسي والقوى المؤثرة فيه، قرروا بأن موسم الشعبوية انتهى وبأن المرحلة القادمة تحتاج نوعا آخرا من القادة والسياسيين؛ وهناك منهم من ظل يقاوم أمواج التغيير العاتية بكل ما تبق له من ذخيرة إلى آخر رمق، متوهما أنه قادر على مجابهتا والنجاة من العاصفة، قبل أن تجرفه مؤخرا أمواج المد بعيدا عن بحر السياسة. في ظل هذه الأحداث المتسارعة، لوحظ، انطلاقا من إعفاء رئيس الحكومة السابق من منصب رئاسة الحكومة، أن الخطاب الشعبوي أفُل نجمه، محدثا فراغا صوريا في المشهد السياسي الوطني، وذلك كنتيجة مباشرة لتقلص عدد القنوات السياسية التواصلية المتاحة لتمرير الخطاب الشعبوي وتسويقه، خاصة المؤسسة البرلمانية بغرفتيها؛ وقد أثر هذا الفراغ على نفسية فئة عريضة من المواطنين الذين اعتادوا متابعة الخطاب الشعبوي والاستئناس به والانتشاء بمضمونه، الأمر الذي جعلهم يحسون في عهد الحكومة الجديدة، التي نهجت أسلوب الصمت في كثير من الحالات، وكأنها حكومة غير موجودة، خاصة وأن أسلوبي رئيسي الحكومة السابق والحالي مختلفين إلى درجة التناقض، وعملية الانتقال من أسلوب إلى أسلوب لم تتخللها أي فترة انتقالية. مع قرب اكتمال كافة مقومات نهاية مرحلة الشعبوية وطي صفحتها، يحق لنا التساؤل عن ماذا قدم هذا الأسلوب للبلد؟ وهل المغرب كان في حاجة لمثل هذا التيار السياسي؟ وهل هذه المحطة السياسية التاريخية ساهمت في تسريع الانتقال الديموقراطي ببلادنا؟ أم أن العكس هو الذي وقع؟ في هذا الإطار، سُجل أن أسلوب الشعبوية، الذي وسم الولاية الحكومية المنتهية، تم توظيفه بقوة في الصراعات والتناحرات الحزبية، وهي صراعات شخصية وخاصة في غالبيتها، أدت إلى انحطاط فحوى الخطاب السياسي واللغة المستعملة فيه؛ وهذه الصراعات لم تكن مؤسسة على منطق مفهوم وواضح، إذ لوحظ أنه بين ليلة وضحاها يتحول العدو اللدود إلى صديق حميم قبل أن يعود إلى عدو في الليلة الموالية، والأمر نفسه بالنسبة للتحالفات السياسية التي سادتها حالة من التذبذب واللاستقرار. كما لوحظ أن هناك هوة عميقة بين القول والفعل، من جهتي الأغلبية والمعارضة، فالحكومة التي تكلم زعيمها كثيرا، جاءت حصيلتها ضعيفة، ولم يدركها الوقت لملامسة جوهر الإشكالات الحقيقية، فأغلب القرارات الكبرى التي تم اتخاذها في عهد الحكومة السابقة هي قرارات مجحفة في حق المواطن؛ أما المعارضة فقد اكتفت هي الأخرى بالمساهمة في إثراء المشهد السياسي الشعبوي الذي ميز المرحلة. إن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية غير المرضية التي تعيشها البلاد، تحتاج إلى قادة وزعماء سياسيين يعملون أكثر مما يتكلمون، لهم القدرة والكفاءة على تفكيك الإشكالات وتدبير الملفات الكبرى، فالصراعات السياسية والإبداع في مواجهة الخصوم السياسيين، لن يفيد المواطن في شيء؛ لأن الهدف الأساسي من السياسية برمتها هو تحسين أحوال المواطنين والرفع من مستوى معيشتهم، لا خلق الفرجة والبهرجة والضحك على ذقون المواطنين البسطاء. *باحث في قضايا تدبير الشأن العام