حينما نقارن بين الشخصية في الأدب الروائي والشخصية السينمائية، نتذكر وبشكل مباشر مقولة كريستيان ميتز، أن الفن السينمائي ذو مدلول مباشر على العكس من الفن الروائي الذي لا يعتمد المدلول المباشر (الصورة المرئية في الأول، والكلمة المكتوبة في الثاني)، هذه المقولة تربطنا بالبناء الذي تكون عليه الشخصية سواء في الرواية أم الفيلم، ولكن في كلتا الحالتين تبقى الشخصية حاملة للمعنى، إلا أن ما يميز الشخصية السينمائية عن الشخصية الروائية هو كونها "وعاء يحمل الفعل ورد الفعل أكثر من كونه وعاء يحمل الفكر" (ماهر مجيد، البناء العلامي للشخصية السينمائية، جريدة الحوار المتمدن، العدد: 2044، 20/09/2007)، فما يمكن أن تكونه الشخصية الروائية بسبب الوسيلة الفنية (الكلمة المكتوبة)، فإن الشخصية السينمائية تكون عكس ذلك، فهي تحتاج إلى الفعل ورد الفعل لتوصل إلى المتلقي ما تحمله من أفكار أو قيم، وهنا تكمن صعوبة بناء الشخصية الحاملة للأفكار في السينما، لأن الحوار أو الصوت من خارج الكادر لا يعد الحل الأمثل لبناء الشخصية قدر اعتماد صانع العمل للفعل ورد الفعل لإخبارنا، فلو طالعتنا شخصية سينمائية لتقول إنها تحمل أفكارا أو تمثل جملة أفكار فلسفية، فيجب أن ينعكس ذلك على سلوكها أي أفعالها، في حين يمكن للشخصية الروائية أن تخبرنا طالما أن عملية السرد الكلمي هو السمة المهيمنة على النص الروائي. إن الفكر في الصورة السينمائية "يتطلب نمطا مميزا من الشخصية، وتأكيد تميز الشخصية يأتي من تحديد أنواع الأفعال التي يقوم بها لإيصال المعنى إلى المتلقي أولا، وثانيا لأن عملية بناء سرد الأحداث الفيلمية تركب النسق السردي المؤدي إلى تبلور الأفكار" (المرجع نفسه). كما أن الرواية تتمتع بالزمن الكافي لبسط الشخصيات والغوص في أفكارها بواسطة أسلوب أدبي يستعمل كل المحسنات البلاغية والصور المجازية في نقل المشاعر وتقريب الأحاسيس. وهذا ما لا تملكه السينما التي تعجز عن البسط الوصفي الشامل، لارتكازها على عنصر الصورة التي تقدم لنا نماذج جاهزة لا تحتاج إلى سفر في عوالم الخيال. والشخصيات السينمائية تتجاوز كونها شخصيات داخلية لا تنتمي إلا إلى الفيلم السينمائي كما هو الشأن مع الشخصيات الروائية؛ ذلك أنها تحمل معها صبغتها التشخيصية للأدوار المسندة إليها، كما تحمل معها طريقة ملبسها وعملية تمويهها التي يقوم بها الماكياج الذي استعملته، إضافة إلى ضرورة تكيفها مع عين الكاميرا المسلطة عليها التي ستحتويها داخلها وتحولها إلى مجرد صورة، وآلة التسجيل الصوتي المصاحبة لها التي تلتقط نبرات صوتها بشتى تعبيراتها الانفعالية، إلا أنها "ما أن تتم عملية تأطيرها داخل الفيلم وانتقالها إلى مجرد صورة، حتى تتحول من إطارها الواقعي هذا إلى إطار تخييلي، تصبح إثرها مجرد علامات من العلامات المشكلة لبنية الفيلم" (لودوكا، تقنية السينما، ترجمة فايزكم نقش، منشورات بيروتباريس 1989، ص: 86 87). وتتم دراستها انطلاقا من ذلك، حتى وإن ظلت بالنسبة إلى المتلقي المشاهد تحمل بعدين أحدهما خارج علاماتي، وهو ما يجسد الشخص الواقعي، والثاني داخل علاماتي، وهو ما تجسده الشخصية التي يتقمص دورها في الفيلم. ومن ثمّ، فإن انتقال الشخصيات من العالم الورقي التخييلي إلى العالم المرئي المجسد يفرض عليها التحول من منطق الكائن المتخيل إلى منطق الكائن المؤدي والمجسد لأدوار تحتاج إلى التفاعل والتحرك في مشاهد متنوعة تحول العناصر الساكنة في الخيال إلى لقطات تقطن العين وتملك الذهن وتشد أسر العقل والتفكير والانتباه. والشخصيات السينمائية ترتكز على الأداء والتمثيل عن طريق الصوت والصورة والحركة التي تنقلنا إلى عالم مجسد ومؤطر من لدن المخرج، الذي يسعى إلى تحويل الورقي إلى المعروض وفق اختياراته الخاصة وتوجيهاته الإيديولوجية. هذا النقل يفترض كشف العديد من الخصوصيات الإنسانية التي تكون مضمرة ومخفية بين سطور الكلمات والتعابير في الرواية، فالسينما باعتبارها فنا يقوم على الأداء "تحاول الكشف والتجسيد والإبراز لعديد من حالات الإنسان المؤدي، سواء كانت هذه العمليات معرفية (كالتفكير والخيال) أو وجدانية (كالخشية والقلق والحقد) أو اجتماعية (كالإعجاب والتعاطف) أو دافعية (كالرغبة في التمكن والإنجاز والتفوق والسيطرة) أو كانت غير ذلك من العمليات" (جلين ويلسون، سيكولوجية فنون الأداء، ترجمة: شاكر عبد الحميد، سلسلة عالم المعرفة الكويتية، عدد: 258 يونيو 2000، ص: 7). والممثل في السينما دائما ما يحاول تشخيص الأدوار بتلقائية وتفاعل كلي مع الدور الذي يؤديه، "فعلى الممثل أن يضبط نفسه وأن يهضم دوره (داخليا) ليعيده محققا من جانب شخصيته نفسها. وهكذا، نرى أنه إذا كان الممثل غالبا ما يمثل على المسرح فإنه على الشاشة إنما يبدع" (لو دوكا، تقنية السينما، ترجمة: فايزكم نقش، منشورات عويدات، بيروتلبنان، ط1 1972، ص: 86). إنه يذوب داخل الشخصية التي يؤدي دورها، أي أنه هناك نوع من التلبس يحدث عندما يضع الممثل نفسه كلية داخل الشخصية التي يقوم بها، أو يسمح فعلا للشخصية بأن تدخل إلى أعماق ذاته وإلى المدى الذي يشعر عنده بانفعالات هذه الشخصية. "إن الممثلين يقدمون قناة ما، يمكن التعبير من خلالها عن الانفعالات الخاصة بالشخصية التي يقومون بها، يحدث هذا على رغم أن هذه الانفعالات تكون مستمدة من المخزون الشخصي للانفعالات الخاصة بالممثل" (جلين ويلسون، سيكولوجية فنون الأداء، مرجع سابق، ص: 139). وبشكل ضمني يكون هناك نوع من الانصهار بين الانفعالات الخاصة بالشخصية، والانفعالات الخاصة بالممثل، ويكون هذا الأخير حجر الزاوية في الفيلم السينمائي "في بعده الجسدي كأداء، والروحي كهالة، والتواصلي كنظرة وحركة، والتفاعلي كممارسة وسلوك، والوظيفي كأداة درامية لتمرير الأفكار والمشاعر ضمن رؤيا إخراجية باعتبارها اجتهادا في اختيار موضع الكاميرا وفق محور رؤية مرغوب فيه تتحقق من خلال كيفية تحرك الممثلين والممثلات لسرد شيء محدد بناء على نظام تركيبي يعرف بنحو السينما" (عز الدين الوافي، مظاهر الاقتباس وإشكالاته "نجيب محفوظ نموذجا"، مجلة وشمة (مرجع سابق)، ص: 62). *أستاذ باحث في مجال الصور