ما الذي يجب استخلاصه من عدم فوز حزب العدالة والتنمية بمقعدي الجنوب في جولة الانتخابات الجزئية؟ هل يؤشر ذلك إلى تراجع طبيعي مرتبط بنسبة الإقبال العامة، أم أنه علامة وهن في جاذبية الحزب التي ظلت دائما تسعفه حتى في لحظات اشتداد القصف العشوائي للنيل من شعبيته المقلقة لأطراف عديدة؟ هل تخلت القاعدة الانتخابية عن فرس رهانها أم أن الفارس أوحى لعشاقه برغبته في الترجل والنزول؟ ومعناه أن الفرس/ المشروع لا يمكنه الانطلاق دون قائد أو قيادة ماهرة تقدر بتفان انتظارات المراهنين عليها. صحيح أن السياسة تقدير دقيق لميزان القوى؛ لكن إدراج القوى الجماهيرية كمكون أمر لازم في عملية الترجيح، ويبدو أن تفسيري للتراجع بدت ملامحه جلية، فهو منحاز إلى لوم الذات بدل الاستنجاد بالشماعة. إن أداءنا السياسي غدا سجين خيار أدمنه من قبلنا، فما أفاد التوافق "الديمقراطي" شيئا لأنه يتكئ على قسط وافر من حسن الظن يجهز على بعضه الآثم، إنه خيار التعايش مع الأضرار، وهو ناشئ بالأساس من بناء التحالفات بعيدا عن الجامع الإديولوجي، وما أفرزته إرادة الصناديق. لقد نشأ نزوع إلى اعتبار المنطق التدبيري الإجرائي معوضا عن الخسارة التصورية، فيتحول التشريع والتنفيذ إلى مجرد تعبيرات مفصولة عن المبادئ والخلفيات، وتفرع عن هذا المنحى احتفاء بالإجرائي الذي يوهم بالإنجاز في ظل محددات حكامة مفصولة عن القيمي الناظم. إن صفاء الانحياز كان وراء إقبال المواطنين الذين ما زالوا يحتفظون للحزب باحترام مقدر؛ لكنه ود عراه الالتباس بسبب عدم القدرة على تفسير اختياراتنا وما أملاها، ولأن ما آل إليه المشهد بعد التدافع لا يستجيب لمرادهم وكأن لسان حالهم يقول: طالبتمونا بتحدي الترغيب والترهيب ففعلنا، لكن استماتتكم لم تحاك استماتتنا، لقد بررتم التنازل بالخوف على القبيلة بدل الانتصار للأمة.!! شخصيا، واجهني البسطاء بأسئلة محرجة مرتبطة بالتحالف وتوزيع الحقائب وتصريحات مشوشة عبّرت بقصد أو دونه عن حرص على مشاركة لا مشروطة فتّت من عضد استماتة ضرورية أو صمت ممالئ يخشى التصريح بالمكنون المروج صمتا داخل الصفوف. إننا أمام مقاربتين: الأولى تؤكد على الثوابت في وحدة متجانسة متكاملة، والثانية تؤكد على الثوابت لكنها لا ترى بأسا في أن ينتقص ثابت الاختيار الديمقراطي ونواصل السعي التاريخي اللاحب إليه بالتدرج والحكمة والموعظة الحسنة، أي أن نستمر في تسول الديمقراطية مع الوفاء الكامل لباقي الثوابت. ما تغفله المقاربة الثانية أن منسوب الثقة في العملية السياسية يتآكل لصالح المقاربة المرعبة التي تتشكل في رحم الغضب والنزوع العدمي، ولذلك فالمقاربة المعتدلة هي الأولى لأنها ترفض التفتيت لبنية الثوابت المتناغمة. إن أحداث الحسيمة وما يشهده محيطنا الإقليمي من دعوات انفصال رعناء يدعونا إلى تجذير الاختيار الديمقراطي والكف عن التعاطي معه بفقه المخارج والحيل، لأنه لا حيلة مع المعقول. طبيعي جدا أن يحصد حزب العدالة والتنمية هزائم انتخابية؛ لأن الجماهير لا تقبل النزول عن سقف انتظاراتها، ولأنها تدرك أن عنفوان الخطاب السياسي المجيش للإرادة السياسية مصاب بالعطب، واللغة التواصلية المباشرة الفاضحة توارت لصالح لغة عالمة معيارية مهما حاولت اكتساب الحرارة النافذة لا تقنع لأن أجواء تشكيل المشهد السياسي بإخضاعه لعمليات شفط وترميم رسمي تضعف الثقة في الآتي وتحيي فكرة عدم تلازم الديمقراطية والتنمية. لم نر في حدود ما نعرفه زعامات سياسية تتشكل خارج رحم الهيئات السياسية إلا في مشهدنا السياسي، إنه تلقيح صناعي ببويضة افتراضية وماء سفاح سياسي ليولد القائد كامل الأوصاف من سلالة تقنوقراطية فريدة!!! هذا العبث المتنامي يخلق من جديد الخندق الفاصل للمجتمع عن الشأن العام، ويشيع حالة اليأس والاستقالة وتلوين الساحة بصباغة "ولاد عبد الواحد كلهم واحد"، وكلهم يبحثون عن الاستفادة والإثراء وإحياء منطق أنا وبعدي الطوفان. في خضم هذا التردي، ترتفع أصوات مشاغبة في بعض الهيئات داعية الى إحداث قطيعة مع لعنة الميلاد والتأسيس لنشأة شرعية تضمن النمو الطبيعي بعيدا عن الحقن والمنشطات، ولا بد في تقديري من تشجيعها عسى أن تقطع الطريق على ممارسي الجراحة التشويهية للمشهد السياسي. ستحصد الأحزاب الحريصة على استقلال إرادتها مزيدا من الهزائم لتطويع الرؤوس المتمنعة ولن تظفر بفوز إلا بأحد أمرين: أن تتلاشى وتنماع صلابتها المعتدلة أو تسلم جسدها لمباضع الجراحة التعديلية، أو تمانع شاهرة اعتدالها المحرج الفاضح لعملية زرع الأعضاء الغريبة.