أعلم أنك في المجلس الآن وحيد.. تحتسي كأس المرارة مستكينا.. تكره العتاب وتساقط أوراق الخريف.. كما تكره نقطة الصفر وتكره البسيط.. أعلم أنك تعودت إقامة العلالي وعدم رؤيتي.. ركوب "الكات كات" ومعانقة الماركات المسجلة.. ما أصعب الرجوع إلي بعد أن عانقت النجوم.. بعد أن نسيت اسمي وملامح وجهي.. أنت الآن خارج الأبعاد، تقاوم النزول، تقاوم فيك الاستبداد.. اسمك مكتوب بالأصفر تحت السطور.. مع وقف التنفيذ.. لم تعد تليق بك الأدوار ولم تعد تثق بك الدوائر.. تبدو بذلك خارج الجغرافية والتاريخ.. لم تعد تجدي معك الهتافات.. فبعنادك أخلفت الميعاد.. خسرت السباق.. خسرت الرهان.. خسرت البارحة.. خسرت اليوم.. كل الخواتم والنهايات تليق بك.. وكل الخطايا تناسبك.. كل أسماء الموتى أسماؤك.. تلهث الكلمات.. تئن المفردات.. يشكوك الأنين للنبيذ.. هل تتذكرني؟.. هل تذكرت حافية القدمين.. ومسلسل عازف الليل؟.. شعر المجنونة المكتوب خلف القضبان؟.. أتتذكر انقطاع الماء عنا حتى جفت الصنابير؟.. وانقطاع التيار حتى لا نتابع خبايا مسلسل السلاطين؟.. أتتذكر حينما كنا أشقياء نتسلق الجبال بحثا عن شيء نجهله.. نجمع الحجارة في الكف اليسرى نلقي بها إعلانا للحرب باليد اليمنى.. نجري وراء الشمس كي لا تغيب.. أتتذكر كلما دوت صفارات الإنذار معلنة شهر الإمساك.. ينتابنا الشعور بالخوف الشديد.. وكلما زلزلت الأرض تحت أقدامنا.. اعتقدنا أن الموت وشيك.. أتذكر عندما كنا صغارا نلهو بالأجراس.. نقرع الأبواب ونهرب خوفا من العقاب؟.. أتتذكر مطاردة رجال الدرك لنا في البر.. لا لشيء إلا لأن وجودنا كان يزعجهم.. ومطاردة الجنود الإسبان لنا في البحر لأننا لا نشبههم؟.. لا أظنك قد نسيتني يا رفيق.. وكيف تنساني وأنا من التأمت بمواويلها الجروح؟.. وعلمتك قراءة الحروف؟.. أنا من انحنت لكبريائها الشموع.. وبكت لكلماتها الدموع.. وجعلت الملائكة في شوارعي تطوف.. كيف تنساني يا مجنون.. وأنا من علمتك عد النجوم.. وعلمتك كيف تجعل العالم يصغي لك في هدوء؟.. كيف تنساني يا هذا وأنا من أسست بخيالي مملكة الجنون.. وأرست ظلال قضيتي في القارة العجوز.. أنا من لقنت كلارا الإسبانية كيف تعيد قراءة الخريطة.. كيف تكتب القصيدة بطعم الانتفاضة؟.. كن أقل حمقا.. كن أكثر تواضعا أرجوك.. لا تتحدى جنوني.. لا تجعل منه مدرسة تدمر الحدود.. ما لي أراك خطرا محدقا يا هذا؟.. تلتهمك الذكريات.. كما تلتهم قلب سيجارتك النيران.. وتلتهم قصائدي الإهمال.. تأخذك الأفكار بعيدا.. تلقي بك في يمي.. تبحث في صمت عن شيء يدلك على عنواني.. وأنا بجانبك كيف لك ألا تراني؟.. تتذكر شكلي بحثا عن المعاني.. بدهائك تحاول تجاهل اهتمامي.. بل تبحث لي عن زنزانة تؤويني.. وعن كلمات بها تقذفني.. تلقيني في آخر الممرات حتى لا أذكر سعادتك بالغبن.. يا من أخذه التعبير بعيدا عني.. كلامك لم يعد يجدي.. طلعتك لم تعد تهمني.. أنت الكاسر وأنت الخاسر.. أما أنا فما زلت على ذاك الأمل باقية.. تمضي ساعات أصلي من أجلك وللإله.. تمضي ساعات تحتقر فيها ذكائي.. تقاوم فيها ذكر اسمي.. كما تقاوم ما أسماه أبوك غدر الزمان.. ما لي أراك حائرا شاحب الوجه.. وأنت أعلم مني أن العياء والحزن لا يليق بك يا رفيقي؟.. أليس من أجلك انحنت الأشجار؟ وأقسمت بيمينها الأنهار؟.. أن تبايعك.. أن تعبدك.. أن تعشقك الفتيات؟.. لكن ما نسيت أن تخبرك به الأيام هو أن الدنيا مقامات وفصول.. وكل فصل فيها يحتمل الوجهين.. ما نسيت أن تخبرك به يا رفيقي هو وجود مجنونة مثلي.. لا أقبل مجاملة من قام بنسف أحلامي.. أعلم أن كلماتي لن تروقك.. وهي كالسهم يلقى عليك.. إلا أنها نابعة من أصدق قلب.. لم أجد كلمات أنسب من عباراتي.. أذكرك بما فعلته والأيام بي.. أعلم كما يعلم غيري أن حبك للسلطة والجاه يفوق عشقك لي.. كبرياؤك يفوق قدرتك على تحمل تساقط أوراق الخريف.. نسيت يا رفيقي أن بقاء الحال وهم من المحال.. فإن أصبحت بالنسبة لك أبعد ما يكون.. وتساقط أوراق الخريف أقسى ما يكون.. لا تسألني من أنت بالنسبة لي.. أرجوك. (يتبع).