من الصعب أن تتناول في فيلم روائي حصيلة شخصية غيرت مجرى الحرب العالمية الثانية ومجرى العالم..كما هو الأمر بالنسبة لرئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل ما بين 1943 و1945. يعيد المخرج الأسترالي جوناتان تبليتسكي في فيلم "تشرشل" (يوليوز / 2017/ إنتاج اسكتلندي والمملكة المتحدة/ نوع السيرة الذاتية / دراما/ 105 دقيقة/ الميزانية 10 ملايين دولار) رسم اللحظات الفارقة في تطور الحرب العالمية الثانية وموقفه من الحرب والخطة التي أعدها بشكل جيد وتشبت بها في حين رفضها الحلفاء وعارضتها زوجته وأقرب المقربين إليه. ونستون تشرشل ليس وجها جديدا أو موضوعا جديدا في السينما، ولكن منذ 1951 حضرت صورته في العديد من الأفلام الروائية والوثائقية والمسلسلات إلى يومنا هذا... الصفعة مشهد يتأسس عليه الفيلم...مهابة المثقف والصحفي والخطيب الجيد ورئيس الوزراء الذي لا يكف عن التدخين ويتكلم بصوت جهوري ويفكر كما ينطق، ومنسجم تماما مع شخصيته وحركاته الدؤوبة... مشهد في وسط الفيلم وهو يتعرض لصفعة قوية من طرف زوجته.. الصفعة ليست صفعة عادية ولكنها صفعة حلفاء ومقربين، وهو الرجل الذي تجاوز الثمانين من العمر.. الصفعة تعبير عن الحالة النفسية الصعبة والعزلة التي أضحى يتخبط فيها وينستون تشرشل من تقديم خطته "أوفرلورد" لمحاربة الألمان. وقع الصفعة أكثر من التفكير في مجريات الحرب وقد مرت ثلاث سنين على بدايتها. يدخل تشرشل في حالة من معاقرة الخمر والإصرار بكل الطرق على أن خطته يمكن أن تقود إلى نجاح الحلفاء في صد النازية وفي صد تقدم هتلر. البحر والحرب: يبتدئ فيلم "تشرشل" بمشهد تشرشل وهو ينظر إلى البحر والأمواج كلها دماء عام 1943..حالة البحر وهو ملطخ بالدماء توشي بما آلت إليه أوضاع الحرب العالمية الثانية من دمار وتخريب وقتلى وجرحى. يرمي تشرشل قبعته في البحر.. ويبدأ في التفكير في إيجاد وسيلة لوقف مجازر الدم والحرب وأهوالها. تتحدد مشاهد البحر في أربعة مشاهد.. وكلها مشاهد هروب من ضيق النفس والبحث عن مكان يتيح إمكانية التأمل..وهو فرار اضطراري من لعنات المكاتب واللقاءات والأسفار الطويلة التي يقضيها تشرشل متنقلا ومتحملا لها في سيارته الصغيرة. يعيد البحر رسم صورة الحرب وأهوالها دون أن يظهر ولو مشهد واحد للحرب...الحرب تبقى في خلفية الأحداث رغم أنها حاضرة في التفاوضات بين الملك وروزفلت وجنرالات الإنجليز مع تشرشل وسير هذه المفاوضات بإقناعهم بخطته. يهرب الفيلم نحو البحر لينفتح على مكان بانورامي يتنسم فيه وينستون تشرشل ما الذي يمكن أن يفعله في إقناع الآخرين. تشرشل ولعبة الإقناع: تتصاعد وتيرة الأحداث ويظهر أقرب المقربين إلى تشرشل أن خطته غير مقبولة وغير منطقية وهي انتحار جماعي لجيوش الحلفاء.. ويعمد ويسافر تشرشل إلى شرحها للرئيس إيزنهاور وكبار الجنرالات وزوجته والمشتغلين معه في مكتبه، ويتلقى جواب الرفض وأن ما يحاول القيام به هو من ضروب العبث.. ولكن يصر تشرشل بشكل كبير ويستطيع أن يقنعهم الواحد تلو الآخر ويحوز إعجابهم وتقديرهم بقدرته على إيجاد الحلول والمخارج المتاحة وحكمته في تصيد أخطاء هتلر.. مرددا "لا تستسلم أبداً أبداً أبداً أبداً أبداً أبداً...". القواسم المشتركة يحمل الممثل العالمي بريان كوكس الشيء الكثير من شخصية وينستون تشرشل..بل يمكن أن يجزم البعض أن صورته هي طبق الأصل من تشرشل..كيف ذلك؟ بريان كوكس بجثته الضخمة وصوته الجهوري وحركته البطيئة حينما يكون في حالة ثمالة أو استرخاء وخفته وهو يفاوض ويسرع في الخطى لقضاء مآربه..بل قسماته وارتجاف أصابعه وعصاه التي يلوح بها في كل حين... نظرات تشرشل وصوته وإيماءاته وقدرة تماهي الممثل بريان كوكس مع الشخصية التي يؤديها حتى يعتقد البعض أننا أمام تشرشل نفسه في مذكراته وفي كتاباته..مشهد صباحي تهرع الزوجة ومعها معاونه لإيقاظه من ثمالاته ومن غيبوبته وهو ينام في غرفة صغيرة على مجموعة من الكتب والأوراق والخطط ويفاجئهم بأنه يفكر في الخطة أكثر من انغماسه في النوم. يرصد الفيلم خلال سنتين دأب تشرشل في ذهابه وإيابه وفي نظراته وفي تأمله وفي مشيته وفي لباسه لمعطفه الطويل الذي يلف جثته الضخمة، وفي حركاته التي يعيدها وفي دخان السيجار الذي لا يكاد يفارقه ليلا أو نهارا وهو يبلغ من العمر عتيا. يبرز اختيار المخرج الأسترالي الممثل بريان كوكس، الذي طغى على حضور باقي الممثلين، حتى غدت زوجته ميراندا رتشاردسون ومساعده جون سلاتيري ظلالا لما يقول وما يفعل. لماذا تشرشل؟ في ظل عولمة قاتلة وأشباه للزعماء وتحولات في مسارات الألفية الثالثة وتخييم هاجس الحروب في أكثر من منطقة في العالم يستدعي المخرج شخصية وينستون تشرشل..أولا لأنها شخصية الإجماع وشخصية تمتاز ببعد النظر والقدرة على التعاطي مع الإشكالات العويصة وإيجاد الحلول لها.. الفيلم باختصار هو تكريم لشخصية عالمية تمكن بقدرته الفكرية كمثقف نهم لا يكف عن فعل القراءة من وقف نزيف الحرب العالمية الثانية.. استحضار هذه الشخصية في هذا الوقت الراهن هو تعبير عن حال رجال الساسة وعدم قدرتهم على قيادة العالم كأشباه للرجال وللزعماء والدمى السياسية التي تتلاعب بمصائر الأرواح وتزج بالملايين في ويلات الحروب ونيرانها. يعيد الفيلم منح النموذج للرجل القادر على التفكير في أهوال الحروب وله من الحكمة والاتزان والإصرار الكبير على تتبع خطته التي قادت إلى إنهاء الحرب، كمثقف كبير. الاقتناص من السيرة الذاتية لا يحاول المخرج كتابة سيرة ذاتية كاملة، بل يحاول أن يرسم لحظة وموقفا تاريخيا مهما من تاريخ العالم وهو يخوض أكبر حروبه التدميرية.. الفيلم تعبير عن موقف رجل صارع من أجله خلال سنتين كاملتين حتى توقفت الحرب..وتعبير عن لحظة جوهرية في حياة أوربا والعالم وهو يتهاوى في حمامات الدم ويتصدى لها وينستون تشرشل بحكمته وقدرته البلاغية والخطابية ونظرته العميقة من خلال تجربته الطويلة.. تميز المخرج أنه ينآى عن كتابة سيرة ذاتية كاملة، ولكن يكتب موقفين من الحرب: حرب العالمية الثانية والحروب المدمرة سنة 2017 في كل من العراق واليمن وليبيا وسوريا... وهي حروب بالتفويض والإنابة وحروب المصالح والشركات المتعددة الجنسيات التي تبيع الموت لتجني الأرباح. يقتنص المخرج بذكائه موقفا تاريخيا مزدوجا لشخصية قوية تمت معارضته ومحاولة قتل خطته في المهد من قبل تجار الحرب، ولكن تشرشل استطاع أن يتغلب على المصاعب وعلى الاكراهات التي اعترضت سبيله. الصبية وعلامة النصر: يغوص الفيلم في الحالة النفسية والصراعات التي خاضها تشرشل وهو يكتب جزءا من السيرة العامة لرئيس الوزراء البريطاني..يخلف مشهد صغير في الفيلم تأثيرا قويا على شخصية تشرشل وهو عائد من المفاوضات مع إيزنهاور وجنرالات الحرب؛ تتوقف سيارته في زقاق ضيق ببطء أمام صبية يلعبون ويحملون علامة النصر لتشرشل.. مشهد يوقظ في الرجل فكرة المقاومة عند جنود ضحوا بكل شيء دفاعا عن المملكة المتحدة..يجيبهم الرجل بعلامة نصر مماثلة..ولكن الصورة التي ترتسم في العقل والقلب..العزيمة والإصرار وتبني خيار الهجوم والدفاع عن النفس. مشهد التصالح مع الذات في المشهد الأخير من الفيلم قبالة البحر وتشرشل يتأمل ويستمتع بالنسمات..تتحدث زوجته إليه قليلا وتعانقه في إيحاء لطلب السماح/ العفو عن الصفعة وعن عدم قدرتها على مجاراة حكمة الرجل ودهائه في إنهاء الحرب. تذهب زوجته وكعادة يكررها يدخن السيجار ويسير وهو يداعب قبعته بعصاه وينظر لأمواج وهي في حالة صفاء..تعبيرا عن وقف الحرب ووقف الدماء والأشلاء. يبرز انفتاح الفيلم ونهايته على البحر بين مشهدين، إذ يبتدئ بمزيج بين البحر والدماء، وينتهي بلون الصفاء وهو يعلو أمواج البحر، فيجد تشرشل سكينته وقدرته التأملية على العودة إلى الرجل المتزن..المثقف..القادر على استيعاب أسباب الحرب والتفكير في طريقة وخطة بديلة لإنهائها.. عظمة الزعماء في القدرة على إبداع السلام وليس في إشعال فتيل الحروب وإيقاظ نيران الكراهية والعنصرية والتطرف الأعمى. فلا غرابة أن يردد تشرشل عبارته الشهيرة: "إمبراطوريات المستقبل هي إمبراطوريات العقل..هذه ليست نهاية المطاف، ولا حتى بداية النهاية، لكنها ربما، نهاية البداية!".