من رحم ألمانيا إبان الحرب العالمية الثانية، خرج المخرج المتمرد فولكر شلوندورف، حاملاً معه عددا من الأفلام والتي يعد أهمها وأشهرها فيلم الطبلة الصفيح Die Blechtrommel المأخوذ عن رواية بنفس الاسم لغونتر غراس. ولد شلوندورف في مدينة فيسبادن الألمانية، وانتقلت عائلته إلى فرنسا وهو في مراهقته، حيث تأثر بالمدارس الفرنسية الإخراجية، وعمل مساعد مخرج لكثير من المخرجين الفرنسيين المشهورين، أبناء الموجة الجديدة التي تمردت على الإتجهات السينمائية التقليدية أمثال لويس مال، وجان بيير ميلفيل وآلان ريزنيه، ثم تعاون مع المخرج الفرنسي جان دانيال بوليه في إخراج فيلم وثائقي بعنوان المتوسط Méditerranée عام 1963، وهو العمل الذي وصفه النقاد الفرنسيون آنذاك ب «شهب في سماء السينما الفرنسية»، و»تحفة فنية غير قابلة للتصنيف»، كما أضيف إلى الكتاب الأشهر «1001 فيلم يجب أن تراها قبل أن تموت»، والذي ساهم فيه أكثر من 70 ناقدا من حول العالم بمقالات نقدية عن أفضل أفلام – في نظرهم- أنتجت في تاريخ السينما العالمية. عاد شلوندورف إلى ألمانيا ليخرج فيلمه الأولال شابتورليسDer Junge Törless والذي حصل على سعفة مهرجان كان الذهبية عام 1966. السينما الألمانية الجديدة منذ فيلمه الأول بدا واضح تأثر شلوندورف بتيار السينما الألمانية الجديدة، وتمرده على المجتمع في ذلك الوقت، وبدا ذلك واضحاً من خلال فيلمه الثاني الدم والرعد Mord und Totschlag عام 1967، والذي تميز بموسيقى تصويرية مميزة ألفها بريان جونز مؤسس فريق الروك الأشهر الرولينج ستونز. في هذا العام، كان شلوندورف، ابن الثلاثين وقتها هو الألماني الوحيد الذي يمثل ألمانيا في مهرجان كان. بعد فيلمين يمثلان الثقافة المضادة، «الدم والرعد» 1967 و»مايكل كولهاس: المتمرد» 1969، صعد شلوندورف للنجاح العالمي بفيلم «شرف كاترينا بلوم المهدور»Die verlorene Ehre der Katharina Blum oder1975 والذي أنتجه وكتبه وأخرجه بالاشتراك مع زوجته وقتها مارجريت فون تروته. تدور قصة الفيلم حول كاترينا بلوم والتي تنقلب حياتها رأسا على عقب عندما تكتشف أن الرجل الذي أحبته وأقامت معه علاقة غرامية هو لص اشتبه في كونه إرهابيا. وفي تعليق لشلوندورف على الفيلم فيما بعد، شبه التعامل الإعلامي التحريضي مع قضية كاترينا بالموقف الإعلامي من حادثة 11 سبتمبر 2001 والذي أدى إلى شن الحرب على العراق، مما يظهر تشابه الأجواء السياسية في ألمانيا ذلك الوقت بالسياسة الأمريكية المكارثية. يعد فيلم «طبل الصفيح» Die Blechtrommel عام 1975 هو أنجح أفلام فولكر شلوندورف على الصعيدين النقدي والجماهيري، استغل المخرج المتمرد انشغال التيار الألماني السينمائي الجديد بألمانيا الواقعة تحت الحكم النازي، وضميره المؤرق بويلات الحرب العالمية الثانية والتي تسببت فيها ألمانيا، معبراً عن حالة التخبط التي عاشها المجتمع الألماني والفاشية المنتشرة بين أفراده، من خلال قصة أوسكار والذي يحصل على طبلة صفيح، كهدية عيد ميلاده الثالث ويقرر عندها ألا يكبر أبدا. الفيلم مأخوذ عن رواية غونتر غراس بنفس الاسم، وقد حقق نجاحا نقديا وجماهيريا كبيرا عند عرضه. تعرض فيلم «طبل الصفيح» لانتقادات من بعض الجهات المحافظة في مقاطعة أونتاريو الكندية، لما وصفته هيئة الرقابة هناك ب «مشاهد جنس صريحة بين قاصر وامرأة بالغة». كما تم وقف عرض الفيلم في ولاية أوكلاهوما الأمريكية لنفس الأسباب. جوائز المهرجانات على صعيد المهرجانات، فاز الطبلة الصفيح بالسعفة الذهبية في مهرجان كان عام 1979 مناصفة مع فيلم «القيامة الآن» Apocalypse Now لفرانيس فورد كوبولا. كما حاز الفيلم على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي. الجدير بالذكر أن قصة «طبل الصفيح» ظلت حبيسة درج غراس لسنوات، رفض خلالها منح حق تمثيلها على الشاشة الفضية حتى قابل شلوندورف والذي أقنعه بكونه جديراً بتحويل هذا العمل الثري إلى فيلم لا يقل ثراء، مما دفع غراس إلى أن يساعده شخصيا في كتابة الفيلم. كمعظم أبناء جيله، سحر شلوندورف بهوليوود وقرر تجريب حظه هناك من خلال عدة أفلام لم تحقق النجاح الكافي مثل سوان عاشقاً Eine Liebe von Swann1984 وقصة الخادمة The Handmaid›s Tale عام 1990 والمسافر The Voyager عام 1991. ربما كان فيلم موت بائع جائلDeath of a salesman والذي أخرجه شلوندورف للتليفزيون الأمريكي عام 1985 هو ثاني أعماله الناجحة. الفيلم مأخوذ عن مسرحية آرثر ميلر بنفس الاسم، وشارك في بطولته النجمان داستين هوفمان وجون مالكوفيتش. كما رشح شلوندورف لجائزة الإيمي عن إخراجه لهذا الفيلم بينما فاز هوفمان ومالكوفيتش بها لأدائهما الذي وصفه النقاد بأنه «أفضل ما يكون». عاد شلوندورف مثيراً للجدل في فيلمه «الغول» Der Unhold عام 1996 والذي قام ببطولته جون مالكوفيتش في دور رجل شاذ جنسيا يتم القبض عليه وإلقاؤه في معسكر نازي ليمارس نشاطه في اختطاف الأطفال بدعوى تجنيدهم في الجيش الآري، بينما يشبع رغباته الجنسية الشاذة في الحفاظ عليهم بالقرب منه. ويعد شلوندورف الفيلم بمثابة استكمال لرؤيته عن المجتمع الألماني إبان نهاية الحرب العالمية الثانية ويعتبره الجزء الثاني من الطبلة الصفيح. حاز الفيلم على قبول نقدي كبير وخاصة لموسيقى مايكل نايمان التصويرية المعبرة عن أحداث الفيلم والتي استعاد فيها شلوندورف اهتماماته الموسيقية كفيلمه السابق الدم والرعد. الأسلوب السينمائي يمتاز أسلوب شلوندورف الإخراجي بالغوص في أعماق الشخصيات، كما يعتمد على السرد بصورة أساسية. في أعماله تبدو معاناة الفرد انعكاس لانهيار وتفكك المجتمع، كما تؤرقه هو وجيله من أبناء الموجة الألمانية الجديدة، الحرب العالمية الثانية ومدى تأثيرها في تفتيت بنية المجتمع الألماني الحديث. وتنتمي معظم أفلامه لنوعية السريالية والكوميديا السوداء، فتراه في «موت بائع جائل» يسخر من الحلم الأمريكي بينما يهدم الآرية والاستعلاء المجتمعي النازي في العلبة الصفيح. يبدي النقاد إعجابهم أيضاً بانتصار أفلام شلوندورف للحق والعدالة، ومدافعته عن المهمشين. في فيلمه الحديث «دبلوماسية» 2014 يحكي شلوندورف عن واحد من أكثر الأحداث إثارة للجدل في تاريخ الحرب العالمية الثانية وهو رفض الجنرال ديتريتشفو نشوليتز تدمير العاصمة الفرنسية باريس بعدأن أمر هتلر بذلك في حالة اقتراب الحلفاء من الاستيلاء عليها. وهكذا يظل فولكر شلوندورف، المتمرد الأكبر، أسيراً لبلده صاحب التاريخ المزدحم والملتبس، متحرراً من قيود الأساليب الإخراجية العتيقة، وعاشقاً لكل ماهو مثير للجدل في الأعمال الأدبية.. الاحتكاك بالآخرين في لقاء له مع «دويتشه فيله» دعا فولكر شلوندورف جيل الشباب التوجه نحو العالمية مع الحفاظ على دور العرض المحلية. فقد شهدت فترة الستينات من القرن الماضي انتعاشاً ملحوظاً فيما يخص الفيلم الألماني الذي كان قد عانى من مرحلة ركود في حقبة الحرب العالمية امتد أيضاً إلى ما بعدها. إذ قام حينها مجموعة من المخرجين وصانعي الأفلام الألمان بإحداث ثورة في صناعة السينما الألمانية عرفت ب «الفيلم الألماني الجديد»، محاولين إعادة هيكلة السينما الألمانية ووضعها على المسار الصحيح. عن هذا يقول شلوندورف: «كان هدفنا السامي أن نرقى بالفن السابع إلى مكانة مرموقة». ومن هذا المنطلق يحاول شلوندورف دعم هذا المنحى وذلك عبر مشاركته في مهرجان الفيلم الألماني في لودفيغسهافن لصانعي الأفلام الشباب بفيلم «أولزان – الضوء المنسي». وعن تقييمه للسينما الألمانية في الوقت الحاضر يقول شلوندورف: «لقد تضاعف إنتاج الأفلام الألمانية حالياً ليصل ربما إلى العشرة أضعاف عما كان عليه في الماضي. وقد ساعدت أيضاً التقنيات الرقمية في ذلك. ولكننا نجد صعوبة في العثور على المُشاهد». ويرصد شلوندورف ظاهرة قلة دور العرض في ألمانيا، الأمر الذي دعاه إلى أن ينشط في هذا الاتجاه. في هذا الصدد يقول «من الضروري المحافظة على دور العرض السينمائي وخاصة في القرى والمدن الصغيرة عوضاً عن استبدالها بالحانات والمتاجر. فبالنسبة للكثيرين تعتبر قاعة السينما مكان للقاء والتبادل والمتعة المشتركة». الحفاظ على دور العرض ووجه شلوندورف نصيحة إلى صانعي الأفلام الشباب في ألمانيا يطالبهم فيها بجمع ما يستطيعون من الخبرات وخاصة في أمريكا المتفوقة في هذا المجال، كما حثهم على أن يخوضوا تجربة السوق الحرة بما فيها من منافسة وعناء ليعرفوا مدى «النعيم» الذي يتمتعون فيه بألمانيا، حسب تعيره. وأكد شلوندورف على أن «الفيلم يجب أن يكون متميزاً، صحيح أن جودة الفيلم العالية تفي بالغرض على الصعيد الألماني، ولكن إذا ما أراد المخرج أن يخطو باتجاه العالمية فعليه أن يجمع خبرات الآخرين «. السينمائي العاشق للأدب شلوندورف هو بلا شك أشهر المخرجين الألمان الأحياء وواحد من أكبرهم. توجت أفلامه بجوائز دولية عديدة، من أهمها سعفة «كان» الذهبية وجائزة الأوسكار لفيلمه الشهير «الطبل الصفيح». اليوم يحتفل شلوندروف بعيد ميلاده السبعين. في عام 1960 أخرج الشاب البالغ إحدى وعشرين سنة أول أفلامه القصيرة تحت اسم مستعار هو فولكر لوكي تحت عنوان «من يهمه الأمر؟». كان الفيلم يدور حول الجزائريين الذين يعيشون في فرانكفورت، غير أن سلطات الرقابة لم تسمح بعرض الفيلم بسبب «انحيازه ضد دولة صديقة». لماذا اهتم فولكر شلوندروف بفرنسا تحديداً وحربها الدائرة في الجزائر في أول أفلامه؟ الإجابة سهلة، إذا عرفنا أن شلوندورف كان قد سافر في منتصف الخمسينات إلى فرنسا في تبادل دراسي، ولم يلبث أن مكث هناك عشر سنوات. وهناك بدأ يدرس الإخراج السينمائي. فلم تكن في ألمانيا آنذاك معاهد سينمائية مرموقة، أما في باريس فقد تعلم حرفة الإخراج السينمائي على يد كبار مخرجي سينما «الموجة الجديدة» مثل جان بيير ميلفيل. وعندما أراد شلوندورف أن يخرج أول أفلامه عاد إلى ألمانيا، وهو يقول متذكراً تلك الفترة: «في الأسابيع الأولى بعد عودتي تعرفت إلى المخرج والكاتب ألكسندر كلوغه الذي أجّر لي شقته. ثم تعرفت بعد ذلك إلى المخرج فرنر هيرتسوغ وبيتر شاموني. كان هؤلاء مخرجين نظريين إلى حد كبير، قادمين من «مدرسة فرانكفورت» النقدية، ومتأثرين بعلم الاجتماع، ويريدون أن يكون للفيلم دور في المجتمع. أما أنا فكنت مخرجاً ذا توجه عملي.» الأدب والفن السابع أخرج شلوندورف أول أفلامه الروائية مستنداً على عمل أدبي للكاتب النمساوي روبرت موزيل، وهي رواية «الشاب تورليس». لم يكن سهلاً تحويل الرواية إلى فيلم، إلا أن شلوندورف فعل ذلك ببراعة مدهشة، أظهرت أسلوبه المميز الذي ينم عن فهم عميق للأصل الأدبي وإتقان تام من المخرج للأدوات السينمائية، إلى جانب تقديم المتعة والتسلية للمشاهد. منذ ذلك الحين أضحى شلوندورف مخرجاً متخصصاً في الأعمال الأدبية بعد أن عرف كيف يصالح بين فن الكلمة وفن الصورة. وفي عام 1975 أخرج شلوندورف فيلم «شرف كاترينا بلوم الضائع» الذي يستند على رواية هاينريش بُل ذات العنوان نفسه، والتي تدور أجواؤها في ظلال أحداث العنف التي قام بها الجيش الأحمر في ألمانيا السبعينات. شلوندورف يقرع «الطبل الصفيح» حقق فيلم «الطبل الصفيح» نجاحاً عالمياً ونال السعفة الذهبية في مهرجان كان 1979فولكر شلوندورف – ابن الطبيب الذي فقد أمه مبكراً في حادث سيارة مريع – كان من المولعين دوماً بالقراءة، وهو يذهب في كل مساء إلى الفراش وفي يده كتاب، أو كما قال يوماً: إن الأدب بالنسبة له يحتل نفس الدرجة من الأهمية كالسينما. لذلك كان الأدب بالنسبة له معيناً لا ينضب ينهل منه أفكاراً سينمائية جديدة، وهو ما حدث عام 1979 عندما تناول أشهر الروايات الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية، وهي رواية «الطبل الصفيح» للكاتب غونتر غراس. نال الفيلم إعجاب كل من شاهده، بمن فيهم الروائي غونتر غراس نفسه الذي يصعب إرضاؤه. حقق فيلم «الطبل الصفيح» أكبر نجاح دولي للسينما الألمانية الشابة كلها، وليس لشلوندورف فحسب، وحصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان وعلى جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، وبهذا الفيلم أضحى فولكر شلوندورف من مشاهير السينما الألمانية، وانضم إلى قائمة مخرجيها اللامعين مثل فاسبيندر وفيم فيندرس. بعد ذلك أخرج شلوندورف عدداً من الأفلام المستندة على روايات، لكنها لم تحقق النجاح الضخم الذي أصابه فيلم «الطبل الصفيح». ومن تلك الأعمال فيلم «هومو فابر» عن رواية ماكس فريش، وفيلم «التزوير» عن رواية نيكولاس بورن والتي تتناول أحداث الحرب الأهلية في لبنان. وقام شلوندورف بتصوير الفيلم وسط أهوال الحرب في لبنان عام 1981. وفي السنوات الأخيرة أخرج شلوندورف أفلاماً مهمة، مثل فيلمه «هدوء بعد الرصاصة» الذي تناول فيه موضوع الإرهاب، كما قدم دراسة مؤثرة عن الذنب والمسؤولية خلال حقبة النازية في فيلمه «اليوم التاسع»، وأخيراً فيلمه عن حركة تضامن في بولندا تحت عنوان «بطلة دانتسيغ». بهذا الفيلم عاد شلوندورف إلى مدينة دانتسيغ مرة أخرى التي كان قد صور فيها قبل ثلاثين عاماً أحداث «الطبل الصفيح». في العام الماضي أصدر فولكر شلوندورف سيرته الذاتية تحت عنوان: «الضوء والظلال والحركة»، لكن هذه السيرة لم تنته بعد، وما زالت السينما الألمانية تنتظر منه أفلاماً كبيرة مثل «الطبل الصفيح».