جمعت كل شوقي وحنيني، رتبت محفظتي وعانقت مجددا رفاقي بسجن فاس، وأنا على متن سيارة السجن، في اتجاه السجن المركزي، لاجتياز امتحانات السلك الثالث.. كانت الرحلة ممتعة، حيث توقفنا بسيدي قاسم لتناول وجبة الفطور...قبل أن أحل ضيفا جديدا على رفاقي بحي الأحداث. كانت الساعة الثالثة بعد الزوال، يوم 27 ماي.. لما وصلت السجن المركزي. استقبال رائع، عناق حار... ولقاء يتجدد بين رفاق طيبين، تشعر في كل لحظة أنك جزء منهم ومن عائلاتهم، وكل عائلات المعتقلين السياسيين المعذبين مع فلذات أكبادهم.. لم تطل إقامتي هذه المرة بالسجن المركزي... كان لابد أن أعود في شهر يوليوز لحضور حفل سراح العديد من رفاق دربنا الأعزاء: أمغار فريد، وعلي الدرغال، والمحمدين، وقرطيط، ولمسربس، والشريف... كان ذلك يوم الأحد 19 يوليوز. لم تنقطع أخبار المفرج عنهم طوال الأسبوع، خاصة أصداء الاستقبال الرائع الذي خصصته ساكنة تاهلة لأبنائها، بمناسبة إطلاق سراح قرطيط حسن والمحمدين... في الساحة السياسية، كانت المطالبة بتوسيع مجال الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان، من المطالب الساخنة التي ميزت المرحلة، والتي توجت بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين في غشت 1991. كان الأموي خلف القضبان، وكانت الساحة السياسية والحقوقية تستعد لإطلاق مبادرة لجن دعم نوبير الأموي، من أجل إطلاق سراحه. من جهة أخرى، كان الاستعداد للاستفتاء حول الدستور بعد خطاب الملك الأخير بمناسبة ثورة الملك والشعب.. والذي جاء بعد قطع مسافة طويلة من ديناميكية حركة المطالبة بالإصلاحات السياسية والدستورية، انطلقت بمذكرة أولى، رفعها إلى القصر حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بدعم من منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، بتاريخ 3 أكتوبر 1991، والثانية رفعتها القوى السياسية الخمسة بتاريخ 19 يونيو، وجاءت بعد تأسيس الكتلة الديمقراطية في 17 ماي 1992، والتي ضمت حزب الاستقلال، والاتحاد الاشتراكي، للقوات الشعبية، والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وحزب التقدم والاشتراكية، ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي. كان للإعلان عن تشبث المغرب بحقوق الإنسان، كما هو متعارف عليها عالميا، في ديباجة الدستور، صداه داخل النقاشات التي أجريناها فيما بيننا... كما كانت نقاشات وأخبار اليساريين تخترقنا، خصوصا رهان تشكيل رد على "الكتلة الوطنية"، وتجميع مناضلي اليسار كلهم، ومحاولة استقطاب تيار الأموي، داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. كان النقاش الدائر حول "الملك يسود ولا يحكم"، وفصل السلط، واستقلال القضاء، وانتخابات ديمقراطية ونزيهة، وإطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين... بمثابة أرضية لتجميع اليساريين... ومطلبا حيويا للقوى الديمقراطية ببلادنا التي بدأت معالم وحدتها تتشكل منذ مطلع التسعينات، أي منذ تقديم ملتمس الرقابة ضد الحكومة في 04 ماي 1990، والتنسيق المشترك بين حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، وامتداداتهما الشبابية والنقابية في أهم المعارك والمطالب... كنا ننظر لهذه الديناميكية الجديدة بعين الرضا.. وكنا نتطلع بطموح مبالغ فيه، إلى اليسار الذي كنا نتمنى أن يجد له موقعا وازنا في الساحة السياسية الوطنية. لكن حالة التشتت والتمزق حالت دون تحقيق الأهداف المنشودة.. وهكذا، لم تتحول إرادة التجميع، منذ البداية، إلى قوة حقيقية. ربما كان سيكون صحيحا لو قام اليسار بتجميع ذاته، حتى ولو كانت ذاتا صغيرة، ينطلق بها لعمل مضبوط ومحدد الأهداف ومتناسقا على المستوى الوطني. لكن، ورغم انكسارات أحلامنا، واغتصاب طفولتنا، وعدم اندمال جروحنا، وتجرع مرارة تعذيبنا في "فيلا التجمعتي"، و"كوميسارية البطحاء" بفاس، و"درب مولاي الشريف" بالبيضاء... في أبريل ومارس ويونيو من سنة 1988، وسنوات سجننا الخمس في "عين قادوس" وسجون أخرى، وتنقلاتنا بين العديد من الدهاليز، ونحن لا نتجاوز السنوات الأولى من عقدنا الثاني... كبرت أحلامنا وازداد حبنا للوطن وتربته ومناخه وجغرافيته، وتعلمنا كيف نحيا من جديد لنبحث عن الخلاص بعيدا عن شغب ويوطوبيا الطلاب والتلاميذ والشبيبة والشعارات واليافطات... مع مرور السنين، ضمدنا جراحنا وتناسينا الماضي الأليم... واقتنعنا بضرورة الخروج من دوامته رغم أنه -وكما قال عبد اللطيف اللعبي- «لا وداع للأسر مادامت شوكته تنخر لحمنا وتدمي معيشنا اليومي...» لنكتشف أننا أمام انحسار للمد التقدمي والديمقراطي في العديد من بلدان العالم، بانعكاساته القوية علينا، واحتقان سياسي خطير، وأن القوى التي كنا ننتظر منها مصاحبة الآمال المنشودة، كان لها هي الأخرى دور كبير في زرع واستنبات بعض ما كنا نواجهه. وهو ما كان له تداعيات اجتماعية وسياسية وخيمة أكثر على العديد من التجارب التقدمية المستقلة... القاعدية وغيرها.. وكان أملنا كبيرا في تجربة رفاقنا وأطر حركتنا.. فمن خلف القضبان، اندفعنا بجرأة وحماس.. نزكي الحوار بين عموم المناضلين الديمقراطيين، في أفق بناء حركة تجميع اليسار.. لنلتحق بعد خروجنا من السجن بكوكبة.. "المستقلين"، ثم "الحركة من أجل الديمقراطية"... لم نكن نغير من إيماننا ومن ثقافتنا أي شيء.. أردنا أن نثبت للجميع أننا فعلا مستقلون.. وأننا لم نعد طلبة.. وأن مطالبنا تتلخص في الديمقراطية، وأن النضال من أجل الديمقراطية يتطلب حركة وديناميكية محددتين لبناء -وكما كنا نقول ذلك في أوانه- قنطرة للعبور الجماعي نحو إطار جبهوي أوسع، بمناضلاته وشبابه وببواديه وقراه... لكن للأسف تبخر حلمنا الكبير، ومضى كل واحد منا إلى غايته.. يبحث عن شظاياه هنا وهناك... ويحتمي بإخوته ورفاقه خوفا من المستقبل المجهول، ومن التغيير الذي لم نألفه... وهكذا سار يخترقنا العجز وهو ينمو ويكبر.. وسارت العواصف ترمي بنا خارج الزمن السياسي...حتى عدنا نكتفي بالذكريات ولا نستطع السيطرة على مصيرنا... نعم، تميزت تلك المرحلة بغياب النقد البناء لدى اليسار عموما، خصوصا بعد الهزات العنيفة التي شهدها المعسكر الشرقي، وفقدان حركة التحرر العربية أي منظور سياسي تقدمي لإنجاز مهام التغيير ببلدانها، بل تم تشويه الواقع والمعرفة العلمية وهو ما أدى إلى السقوط في الانتظارية والتجريبية... وهكذا افتقدت حركة التحرر المغربية هي الأخرى ابتكار شروط الفكر والممارسة وبناء الأخلاقيات الأساسية لمقومات التغيير، وفرز الأولويات... كانت الأجواء منفتحة نسبيا، تسمح بالتجميع والنقاش بين اليساريين.. للتداول فيما بينهم، في مصيرهم السياسي والاجتماعي والثقافي. وكانت غالبية المناضلين -القدامى منهم بشكل خاص- تبحث عن مخرج ينسيها قساوة التجربة وعذاب الماضي.. حماس، تواصل، وكفاح من جديد للانتفاع من المكاسب التي جاء بها أزيد من 30 سنة من النضال الدؤوب والمستمر ضد المستعمرين، والمعمرين الجدد، والخونة المتسلطين على ثروة البلاد وخيراتها، والمنفردين بالسلطة والعابثين بحقوق الناس... تجربة مثيرة وغنية، نموذج للتلاقي والانفتاح على الواقع المعيش، بفضاءاته الجميلة والمتوحشة، المطوقة بالتطرف الممزوج بالتقليد، والسلفية، والجهل، والحقد، والقسوة.. مخاض سياسي واجتماعي، تحولات جوهرية هنا وهناك في الداخل والخارج، بنيات اجتماعية واقتصادية جديدة، هدوء نسبي يسود بيوت العائلات اليسارية والتقدمية... ورجوع الخائبين لمسرح الأحداث بعد غياب طويل واحتفاظ بأسرار كثيرة عن القادة الثوريين، وعن مسؤولين مرموقين ومسعورين بشهوة السلطة. وفي موقف من الشك والحيرة، كان عشرات النساء والرجال يرسمون شكلا جديدا للوطن..من أجل كسب رهانات الواقع الجديد، ونسيان المواجع وامتدادات الرواسب والآمال الخائبة. هنا، يمكن الحديث عن محاولات التجميع التي تفاعلنا معها، من داخل السجن ومن خارجه. فترات من تاريخ هذه المحطة، تؤرخ لهيمنة الأصوات المناضلة والمثقفة، لملء الفراغ بالإحباطات الجديدة، والقرف والمرارة.. حتى الأذنين.. فبعد أن فشلت أحلامنا الثورية ودخلت عصر الحيض، ازداد التظافر والحلم والهذيان والصراع بين الذوات الموغلة في الرواسب العميقة حتى العظم... لم نصل بعد لاحترام بعضنا البعض وإعطاء الفردية الإنسانية قيمتها الإيجابية.. نعم الفردية الإنسانية، لإظهار ما تخفيه من جوهر عميق، ومن قيم المقاومة، وحرقة الأسئلة واحترام مسارات المناضلين واختياراتهم. كان المركز هو المبادر والمقرر في كل النقاشات... أما الهامش فكانت مهمته تجميع أكبر عدد ممكن من المناضلين المشتاقين لبعضهم البعض.. للرموز والشخوص، والعلامات، والماركات المسجلة!.. والأسماء المغرمة والمولوعة بالماضي، وبالذكريات، والأحلام والتواريخ، التي فقدت مع الزمان صلابة الأرض وليونة رمال البحر.. مازال الماضي بتقاطعاته جاثما على تراثنا.. والحاضر المتجدد متجمدا على الماضي يبحث عن أبطال جدد وعن أمجاد الماضي، وجراح الماضي، وخصومات الماضي، وحزازات الماضي... شخصيات مستعصية على الفهم، غير ثابتة، مجنونة أحيانا ورائدة أحيانا أخرى.. أما حلفاؤنا الموجودون في "روجستر" القوى التقدمية والديمقراطية، فلم يكونوا مؤهلين بعد للعمل إلى جانب شركاء جدد، رغم المحاولات الثائرة التي قام بها جزء من مكوناتنا... لم يستطيعوا تجاوز الأزمة، وإعادة حلم المستقبل، نتيجة التناقضات الداخلية التي حكمتها. إن الامتداد التاريخي لهذه القوى، وعناصر تفاعلها بين القطيعة مع تاريخها الوطني الكفاحي والاستمرار في نهج المصالحة مع الحكم من دون ضمانات ومن دون التشبث بالمبادئ السياسية والثوابت المبدئية لحماية هويتها وأنصارها، جعلها قوى مغلوبة على أمرها...هي الأخرى.. تنتظر ساعة الخلاص... وتراهن على المستقبل بكل ما قد يحمله من مفاجئات. كما أن ما قدمته القوى السياسية الديمقراطية والتقدمية ببلادنا -عبر نضالها المتواصل وتاريخها الدفين، المليء ببعض الانتصارات وبالعديد من الخيبات- من تضحيات من أجل دمقرطة النظام السياسي القائم، لم تستفد منه بعد، ولم تحقق إلا جزءا يسيرا مما ناضلت من أجله. ونحن نستعد لمغادرة السجن بعد قضاء المدة بكاملها، كانت مسألة ملامسة دور وطبيعة القوى السياسية، تبدو لنا مسألة مهمة، ملحة ومستعجلة، لمحاولة فهم ومعرفة تمظهرات الأزمة السياسية التي كان يعيشها مغرب بداية التسعينات، ولقياس مدى التحول داخل النظام السياسي المغربي، وخاصة على صعيد تحديد جوهر العلاقة القائمة بين مختلف الفاعلين السياسيين التقدميين والمؤسسة الملكية، وما يترتب عن ذلك من أزمة انعكست سلبا على العمل السياسي وعلى الممارسة السياسية نفسها، خاصة في غياب "التعاقد السياسي والاجتماعي"، وغياب من يقوم بإنجاز هذا المشروع. هكذا اكتشفنا أن الطريق مازالت أمامنا طويلة، وأن التجارب السابقة يجب التعامل معها بنوع من الموضوعية، من دون تقديس أو توظيف، باعتبارها تجارب أسست روحها (سواء في المغرب أو في غير المغرب)، في إطار البحث الدائم والمشروع عن الديمقراطية الضائعة في الحقلين السياسي والاجتماعي، مستعينة في ذلك بالعديد من الطروحات والأفكار التي أكد التاريخ صحة بعضها وخطأ بعضها الآخر... حين غادرنا السجن سنة 1993، كان المغرب يشهد العديد من محاولات التغيير.. لكن جيوب المقاومة وأصناف اللوبيات واجهت، وحاصرت واستنزفت كل بذور الآمال.. فبعد محاولة الانفراج السياسي في نسخته الأولى، عاد أعداء التغيير من جديد، ليقفوا بالمرصاد لكل محاولة فاعلة في التحول الاجتماعي..غير مبالين بتجليات ألازمة، وأبعادها الاجتماعية والاقتصادية على المواطنين.. ومحاصرين لآمال أوسع الجماهير التواقة للتغيير والإصلاح بوطننا الحبيب وتطلعات. هكذا استمرت الدولة المغربية في تسخير كل آلياتها السياسية والاقتصادية، من دون استشارة ولا تشاور.. وكان ذلك سببا في إضعاف القوى السياسية الديمقراطية والتقدمية وضرب مصداقية العمل السياسي. هذه التحولات، شكلت تراجعا حقيقيا، عطل العديد من الأوراش، وبين الهوة الفاصلة بين الدولة والمواطن.. و بدل مراجعة العديد من التجارب المناضلة والمحترمة، وبدل الوقوف عند الأخطاء المتكررة، وبدل النقد والنقد الذاتي... تاه النقاش في المتاهات وجلد الذات ونكران تضحيات العديد من المناضلين وعائلاتهم، لا لشيء إلا لكونهم اختاروا الاستمرارية في الحياة بدل الموت البطيء. المريزق بعد إطلاق سراحه استقبال المريزق من قبل سكان قريته "غفساي"