لا أذكر منذ متى أطلقت عليّ هذه التسمية، لكنني كنت صغيرة؛ ربما في عمر خمس سنين؛ إذ بدأت أتابع الدروس بالكتّاب وظهرت عليّ مظاهر التميز الأولى من نجابة وأمانة وصدق. كبرت ووالدي لازال يصر على مناداتي بتلك التسمية. وكم كنت أتحرج من ذلك، خاصة أمام الضيوف. ليس فقط بسبب حساسية إخوتي من ذلك وشعورهم بالتمييز، ولكن أيضا لعلمي بأنني لست في تلك الصورة البريئة والمثالية التي رسمها عني... فقد كنت طفلة، وكباقي الأطفال لدي نصيبي من الشقاوة والأفكار الشيطانية ! كنت مفخرته الصغيرة وكانت ثقته بي كبيرة، فكلفني بعدة "مهام"؛ منها ملء الاستمارات الخاصة بالمعاملات المالية والإدارية... وربما إرضاء له سلكت شعبة الهندسة، فلطالما ردد هذه المهنة على مسامعي منذ طفولتي الأولى. عرفته صارما في صغري، كما حال باقي الآباء في ذلك العهد. رجل عصامي مكافح، نشأ يتيم الأب في قرية نائية، وقدم إلى العاصمة ليبني مستقبله... ولم أتعرف على جوانب شخصيته الأخرى إلا بعدما كبرت وكان قد تقاعد عن العمل. شخص ودود محب لكل الناس، يعرف الجميع ويسأل عن حال الجميع، رجل اجتماعي من الدرجة الأولى. بمجرد أن يتجاوز عتبة باب البيت صباح كل يوم، نراه يتبادل التحايا مع الجيران والأصدقاء من المارة، ونسمع رده عليهم: "الله يبارك فيك!"... فتضحك أختي وأضحك معها وتقول لي: "ها هو قد بدأ!". لم يكن له مستوى علمي يذكر، لكن توفرت لديه معرفة عميقة بالحياة، من خلال تجربته ومن خلال رحلاته الدائمة بفعل عمله الذي جعله ينتقل إلى مختلف أرجاء البلاد، يعاشر أصنافا كثيرة من سكانها، ويتعرف على أنماط متعددة من عيشها. تراه يجالس كبار الشخصيات فيستمتعون بحديثه؛ إذ كان ملما بمختلف القضايا وبارعا في الحكي. إضافة إلى تمتعه بحس فكاهي رفيع المستوى، ما نطلق عليه اليوم "الدرجة الثالثة". بعد أن تقاعد عن العمل، استمتعنا بحضوره معنا أكثر، وقد كانت له معنا جلستان لتجاذب أطراف الحديث: جلسة الشاي في العاشرة صباحا، وجلسة أخرى في الرابعة زوالا... غيض من فيض ! طريقته في الحكي دقيقة ومفصلة، تجمع بين وصف الأشخاص والأحداث والمكان والزمان، مع مختلف المؤثرات الضوئية والصوتية، كأنه سيناريو فيلم سينمائي جاهز للتصوير... أحيانا نستعجله في الحكي لمعرفة نهاية الموضوع بسرعة حتى نغادر إلى مشاغلنا، فينظر إلينا نظرة عتاب لقلة صبرنا، ثم يتابع حديثه حتى النهاية، كأن شيئا لم يكن! والدي العزيز.. بعد رحيلك، لم يعد أحد يناديني: "دياماندا"!