تمكين المرأة: يُعد الأمر السامي الذي أعلنه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز بالسماح للمرأة السعودية بقيادة السيارات بداية من يونيو 2018، قرارًا ثوريًّا ينطوي على عدد كبير من الدلالات والتداعيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ إذ يرتبط القرار باتجاهات التحديث الاقتصادي والاجتماعي التي شهدتها المملكة في الأعوام الأخيرة، ورؤية 2030 التي ركزت على تمكين المرأة السعودية اقتصاديًّا واجتماعيًّا. يُمكن اعتبار قرار السماح للسيدات بقيادة السيارات بالمملكة العربية السعودية تطورًا هائلًا من حيث دلالاته الرمزية ومردوده على صورة المملكة إقليميًّا وعالميًّا، فطالما كان موضوع السماح للمرأة السعودية بالقيادة مثار جدل واسع النطاق إقليميًّا ودوليًّا نتيجة ارتباطه بأبعاد متعددة دينية واجتماعية وأيديولوجية، كما تعددت المطالبات به من جانب كثيرٍ من الشخصيات والمؤسسات في الداخل والخارج. ويعني ذلك أن القرار لم يكن مفاجئًا تمامًا لمتابعي الشأن السعودي، إذ تسارعت وتيرة القرارات التي تُعزز من دور المرأة وحضورها بشكل كبير في الآونة الأخيرة اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، وهو ما يؤكد أهمية القرار. فقد عين الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، الأميرة الدكتورة الجوهرة بنت فهد بن محمد آل سعود مديرةً لجامعة الأميرة عام 2007، وفي عام 2009 تم تعيين نورة الفايز بمرتبة نائب وزير لوزير التربية والتعليم لشؤون البنات بوصفها أول سعودية تحتل هذا المنصب العالي، وسبق هذه القرارات تعيين 6 مستشارات في عام 2005 كمستشارات متفرغات في مجلس الشورى. وفي عام 2011 حصلت المرأة السعودية على حق الانتخاب والترشح في المجالس البلدية، وهو ما طُبق بالفعل في عهد الملك سلمان، في ديسمبر 2015. واستمر زخم تمكين المرأة مع تولي الملك سلمان سدة الحكم، وتبلور ذلك من خلال جهود ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أيضًا، فكانت المرأة السعودية حاضرة بقوة في رؤية 2030، باعتبارها ركنًا رئيسيًّا فيها، وكان السماح للسيدات بحضور الاحتفالات السعودية في الاستاد الرياضي للمرة الأولى خلال احتفالات اليوم الوطني مؤشرًا مهمًّا في هذا الاتجاه. تأثيرات متعددة: تتمثل أهم تأثيرات وتداعيات قرار السماح للسيدات في المملكة العربية السعودية بقيادة السيارات فيما يلي: 1- تعزيز الصورة الدولية للمملكة: أثار القرار ترحيبًا واسعًا في الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية؛ حيث أدى إلى تعزيز موقف الجهات والشخصيات المؤيدة للسعودية داخل أروقة صنع القرار الغربية، كما ساهم بصورة واضحة في تحسين صورة المملكة، خاصة ما يتعلق بقضايا الحريات التي تكفلها الدولة السعودية. وبدت مؤشرات هذا الترحيب واضحة في موقف الخارجية الأمريكية المرحب بالقرار، والتداول الإعلامي الإيجابي في صحف ومواقع إخبارية مهمة مثل "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست". 2- الحد من تكاليف اقتصاديات الانتقال: تؤكد المؤشرات الأولية عدة مكاسب اقتصادية سوف تترتب على القرار، ومنها: الحد من استقدام السائقين الوافدين، وتوفير عوائد مرتباتهم لصالح الأسر السعودية، بالإضافة إلى توفير مصاريف الاستقدام والتأشيرات والإقامات والسكن. وتشير البيانات إلى أن الأسر السعودية تنفق ما يزيد على 25 مليار ريال رواتب سنوية للسائقين الأجانب، حيث يوجد نحو 1.3 مليون سائق، وفق النشرة الإحصائية لسوق العمل بالمملكة خلال الربع الأول من 2017. 3- توسيع مشاركة المرأة في سوق العمل: يتيح القرار فرصًا أكبر ومشاركة أوسع للمرأة في سوق العمل، فقيادة المرأة للسيارة أحد المعوقات التي تُواجه المرأة العاملة، وبالتالي يقلل من فرصة إسهام المرأة في التنمية الوطنية. ومن ثمَّ سيدعم القرار تنفيذ رؤية المملكة 2030 بمشاركة أوسع للسيدات في سوق العمل، أخذًا في الاعتبار أن المرأة السعودية تمثل نحو 49.6% من المتخرجين الجامعيين بالمملكة، في الوقت الذي لا يشكلن فيه سوى 16% فقط من الأيدي العاملة. 4- زيادة الطلب على السيارات: من جانب آخر سيكون للقرار تأثيرات إيجابية على مبيعات السيارات وشركات التأمين، فهي المستفيد الأكبر من بين القطاعات الاقتصادية بصورة مباشرة، فمع بداية دخول القرار حيز التنفيذ منتصف العام المقبل سيكون هناك طلب ضخم على قطاع السيارات، وعلى قطاع التأمين المرتبط بها. 5- دعم التحولات الاجتماعية: يُعد الانفتاح الاجتماعي ضرورة لا غنى عنها من أجل الخطط الاقتصادية الجديدة التي تحتل قطاعات السياحة والخدمات والترفيه موقعًا مهمًّا فيها، وسيدعم القرار الأخير الحريات الاجتماعية، ويقدم صورة للخارج بأن هناك تحولًا مجتمعيًّا ملموسًا يحدث في الداخل السعودي. حيث واجهت خطط المملكة لتطوير منتجعات على نحو 50 جزيرة تقع قبالة سواحل المملكة على البحر الأحمر، تشكيكًا في قدرة هذه المشاريع على مواجهة التحفظات المجتمعية، ومن ثمّ فهذا القرار يقدم بداية الضمانات اللازمة، ومؤشر على أن انفتاحًا مجتمعيًّا بدأ بوضوح. ومن جانب آخر فإن قيادة المرأة للسيارة تعني بالضرورة تغيرات اجتماعية ضخمة في نمط الحياة، فيما يخص توسيع حضورها الاجتماعي ودورها، ويهيئ المجتمع لقبول المزيد من التغيرات. والنتائج الاجتماعية الإيجابية قد تكون من العوامل الدافعة نحو إقناع القطاعات الأكثر تحفظًا بالقرار، والحد من بعض تهديدات الجرائم -مثل: الاختطاف، والعنف ضد الأطفال- التي قد تنتج من جانب بعض السائقين الوافدين. مواجهة الأصوات المتشددة: كانت هناك خطوات باتجاه الانفتاح المجتمعي خلال السنوات الأخيرة، لكن أهمية الخطوة الجديدة تتمثل في مواصلة المملكة العربية السعودية اتجاهات التحديث والانفتاح المجتمعي، وبث رسائل حاسمة تجاه القيادات المحرضة دينيًّا من خلال عدد من الإجراءات بحق شخصيات دعوية متشددة، وتؤكد هذه الإجراءات أن المملكة ستتعامل بحزم مع أي محاولات للتحريض الديني. ودعمت المؤسسة الدينية الرسمية القرار من خلال تأكيد هيئة كبار العلماء "أن خادم الحرمين الشريفين يتوخى مصلحة بلاده وشعبه في ضوء ما تقرره الشريعة الإسلامية"، ومع ذلك من المتوقع أن تتبلور حركة رافضة من قبل شخصيات دينية قد تتجه للمعارضة بسبب إصدارهم سابقًا فتاوى شرعية رافضة للقرار. كما ستستغل الجماعات الأكثر تشددًا والتنظيمات الإرهابية القرار لتكثيف جرعات استقطاب الغاضبين والرافضين، والتحريض ضد سياسات الدولة السعودية تحت لافتة دينية. ومن المرجح أن تقوم الحكومة السعودية بمواجهة المخالفين والمعارضين للقرار بالتوازي مع تعزيز سياسات مكافحة التطرف من خلال المؤسسات الوطنية. ختامًا، يمكن قراءة القرار السعودي على أنه تطبيق لنموذج "الإصلاح من أعلى"، وهي سمة النظام السعودي في العديد من تفاعلاته، حيث تقوم القيادة السعودية بتعزيز اتجاهات التحديث والتطوير، وتقوم بتوسيع هوامش الحريات المُجتمعية من خلال القرارات الملكية. من جانب آخر فإن القرار دليل قاطع على أن المملكة تمر بتحولات كبرى سريعة وحاسمة، ويبدو أن القرار ستتبعه تغييرات أخرى قادمة في اتجاه توسيع الحريات الاجتماعية، ومن شأنه أن يدعم وبقوة الجهود التي ينتهجها الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان لدفع المملكة نحو بناء نموذج جاذب على المستوى الإقليمي والعالمي. *مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة