عندما كانت تونس بؤرة التحول الديمقراطي بدايات سنة 2011 وبدايات الربيع الديمقراطي العربي في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، اهتزت معها السليمانية وأربيل من أول ما اهتز في العراق؛ اهتز شمال العراق على وقع أحلام التحرر والديمقراطية، فخلق حركية تشبه تلك التي عرفها المغرب مع شباب حركة 20 فبراير المجيدة. مشكلة دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط ليست هي الوحدة، الصنم الفكري والوجداني الذي يؤثث الضمائر والعقول ويُغَمِّمُ العيون للأسف الشديد. الهوس بالتوحيد والوحدة كرد فعل غريزي غير معقلن لواقعنا البئيس أهمل ما هو أهم لحياة الشعوب والأفراد: الحرية والكرامة والعدل والمساواة في الحقوق والواجبات. الاستبداد الديني رأى أن يوحدنا في رؤية الهلال لأشهر التقويم القمري ضدا على قواعد وسنن الكون وفيزيائه الفلكية، وأن يوحدنا في اللباس وفي المظهر وفي العقيدة وفي المذهب وفي حركات الصلاة ومنظور الحج، وخصوصا في طاعة أولياء الأمور والدعاء لهم. أما الاستبداد الثقافي في منطقتنا، المبني على الهوية اللغوية العربية "للأسف"، فقد قسا على كثير من المجموعات اللغوية والثقافية الأخرى المتأصلة فيها، من أمازيغ وكرد ونوبة وشركس وآشوريين، إلخ؛ بدرجات متفاوتة، من عدم الاعتراف الرسمي بالمكون اللغوي في المجتمع إلى القمع والتنكيل ونكران الوجود الهوياتي اللغوي. ورغم أن كردستان العراقإقليم يتمتع بحكمه الذاتي، إلا أنه لا يختلف في هيكليته البنيوية عن باقي مناطق العراق الخاضعة للحكم المركزي، ولا يختلف عن عموم ما هو كائن ومتاح في المنطقة بأسرها. خلال احتجاجات 2011 في شمال العراق قوبلت تظاهرات الطلبة والأساتذة بنفس التصعيد وبنفس العنف من قبل قوات الأمن التابعة للبشمركة، العنف الذي قوبلت به نفس الاحتجاجات في باقي الدول العربية وفي نفس الوقت. أيضا تبين أن الإقليم ليس سالما من علل وفيروسات العراق في كليته ولا المنطقة بأسرها، فحزب مسعود برزاني الذي يتزعم الإقليم، "الحزب الديمقراطي"، وتيار الرئيس العراقي السابق جلال الطالباني، "الاتحاد الوطني الكردستاني"، يهيمنان على حياة الإقليم السياسية والاقتصادية؛ كما أن معارضة ائتلافهما الحاكم والمهيمن لا تتمثل إلا في الاتحاد الإسلامي الكردستاني والجماعة الإسلامية الكردية ! شخصيا أومن بالاتحادات المدروسة التي تختارها الشعوب الراشدة الحرة ولا أومن بالوحدة المفروضة على الشعوب إما بريشة طوبوغرافي استعماري أو نزوة مستبد عربي يحن إلى عصر الإمبراطوريات وإخضاع الشعوب والأمم إليه بقوة البطش والسيف. معاناة الأكراد في شمال العراق وفي تركيا وفي إيران وفي سوريا خلال القرن الماضي، حيث الفاشيات القومية العسكرية والدينية تفننت في قهرهم وقمعهم والتنكيل بهم، لا يمكن أن تجعل شخصا سويا ومتوازنا غير مهتم لواقعهم ولا متبن لقضيتهم ولا متفهم لرغبتهم في الانعتاق والتحرر والعيش الكريم ككل الخلق. ولا يمكن أيضا لعاقل أن يفصل استفتاء انفصال إقليم كردستان العراق عن إحداثيات المنطقة كلها، الجيوسياسية والجيواستراتيجية، ولا يمكنه إلا أن يجد تماثلات بينه وبين انفصال جنوب السودان، ويجد مصلحة واستقرار دولة إسرائيل وسط محيط يراد له أن يظل مستبدا وغير مستقر. بطبيعتي متفائلة، ولكنني لا أظن أنه يمكننا أن نتفادى تفتيت كثير من الدول العربية، سواء في الشرق الأوسط أو شمال إفريقيا، التاريخ الإنساني سيرورة وجوهر الإنسان الحرية، وسيظل يبحث عنها ويحلم بها وإن قاربها بوسائل نتائجها عكسية في مرحلة ما أو مراحل تتخلل رحلة بحثه عنها. سوف نضطر بكل أسف إلى التعايش مع واقع جديد، قدمت له كل ديكتاتوريات المنطقة، العسكرية والمدنية، التي تعتبر نفسها دينية والأخرى العلمانية، المؤمنة بالتعددية الثقافية واللغوية في مجتمعها، والكافرة بها على السواء، منذ استقلالاتنا المفترضة عن الاحتلالات الغربية والاستعمارات. يظل الاستعمار الداخلي أخطر أنواع الاستعمارات وأشدها فتكا بالشعوب والمجتمعات. لكن كياناتنا الصغيرة المستقبلية بعد تذوق نشوة الانتصار والتحرر، على أساس المكون الثقافي والهوياتي، سوف تصطدم آمالها ورومانسيتها على صخور واقع العالم الذي يغلف وعود التحرر منتوجا تستهلكه الشعوب المقهورة وتدفع ثمنه أسرا للشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات، التي تعي كل المفاهيم والإدراكات وتسير بها رساميلها والكفاءات. واقعنا هش، وكياناتنا ضعيفة، إن لم تكن منعدمة المناعة، أمصالنا وتلقيحاتنا نفسها من صنع غيرنا، يزودنا بها متى شاء ويمنعها عنا متى شاء، وندفع له في كل الحالات الثمن الذي يشاء. للكيانات المستقلة مصير لن يختلف عن مصير دولة جنوب السودان، ما لم تغير هي نفسها من البداية ومن داخلها المعادلات. وللدول العربية المستبدة مصير العراق والسودان، ما لم تصلح نفسها وتستبق قدرها وتكتب تاريخها في واقع عالمي لا يؤمن إلا بالتكتلات الجهوية التي قوامها الاقتصاديات القوية والديمقراطيات.