غير بعيد عن مدينة ميدلت الواقعة بين جبال الأطلس المتوسط، وتحديدا في الجماعة القروية "ميبلادن"، تعيش شابتان في عمر الزهور تأكلان الجيفة المتعفنة والديدان واللحم النيء. الشابتان تقطنان رفقة والدتهما الرحالة في خيمة مهترئة أكلتها أشعة الشمس الحارقة في فصل الصيف وأكوام الثلوج المتناثرة في فصل الشتاء القاسي بهذه الأنحاء. تحت شمس تفوق درجة حرارتها الخمسين، وبجبل يبعد عن المدينة سالفة الذكر بحوالي خمسة وعشرين كيلومترا، وبمكان يَصعب الوصول إليه، وعلى نباح كلاب مفترسة، استقبلتنا الأم رابحة أزلماض التي ترعى ابنيتها المصابتين بالتوحد ومرض عقلي داخل خيمتها التي تنبعث منها رائحة الدم واللحم المتعفن. "مرحبا بيكم جلسوا تشربوا أتاي"، هكذا استقبلت رابحة أزلماض، الأم التي تبلغ من العمر سبعا والأربعين عاما، فريق هسبريس بخيمتها التي تظهر وكأنها لاجئة بالمنطقة التي رأت بها نور الحياة وترعرعت وتزوجت بها وتصر على أن تقضي ما تبقى من سنوات حياتها بها. وبينما كان الغبار يتطاير في المكان ودرجات الحرارة مرتفعة جدا، كانت الأم تحاول وهي داخل خيمتها المهترئة أن تواسي نفسها وهي تنظر إلى ابنتيها وتتكلم بالأمازيغية، وتحاول تبرير غياب ابنها الأكبر المصاب بمرض عقلي جعل منه شخصا تائها وسط الجبال الشاهقة وحرمه من النوم والأكل ليل نهار مكتفيا بأكل بقايا لحم الجيفة والدود والحشرات الميتة. وعلى كرسي بلاستيكي جادت به محسنة من مدينة ميدلت عليها وبجانب ابنتيها، رقية التي تبلغ عشرين عاما من عمرها وفاضمة التي تخطت السابعة والعشرين، تجلس الأم في خيمة مصنوعة من بعض أكياس الخيش وأثواب بالية ممزقة تروي تفاصيل حياتها الصعبة. "اسمي أزلماض رابحة، أنا رحالة بالأطلس، منذ أن رأت عيناي النور وجدت والدي قد اتخذ هذا الأسلوب في العيش بسبب الجفاف والفقر"، وزادت قولها: "تضاعفت معاناتي بعد أن أنجبت أطفالا كلهم مصابين بالتوحد وبأمراض عقلية، بعضهم توفي.. حاليا، أعيش مع هاتين الفتاتين، وابني البكر غائب؛ لأن وضعه الصحي تأزم كثيرا، فهرب من الخيمة إلى وجهة غير معلومة.. وأكيد أنه سيعود إلى البيت بعد ثلاثة أيام، عندما يحس بالجوع ككل مرة سابقة"، تحكي الأم عن معاناتها في لقاء مع هسبريس. لقد حوّل مرض التوحد كل من رقية وفاضمة إلى فتاتين منغلقتين، ومنعهما من تكوين علاقات اجتماعية مع الآخرين، وحرمهما من تعلم اللغة والكلام، إلى جانب السلوك الغريب وعادات تصران على مزاولتها بشكل مستمر مثل أكل اللحم النيء والجيفة المتعفنة، وفِي حالة منعهما تصابان بالهستيريا والغضب الشديد. بكلمات متثاقلة تستطرد الأم في سرد مأساتها في اللقاء ذاته مع هسبريس: "مرضهما منعهما من التمييز بين الأشياء الجيدة وغيرها؛ فهما تصران على أكل اللحم النيء.. وقد أكلا أضحية العيد نيئة في يوم واحد، ناهيك عن الجيف المتعفنة التي يأكلانها باستمرار أمامي". شغف رؤية الدم يدفع الفتاتين إلى أكل كميات كبيرة من اللحوم النيئة، وفِي حالة عدم توفرها تبدأن بأكل أطراف جسدهما دون الشعور بالألم، تسترسل الأم: "حبهما لرؤية الدم أفقدهما القدرة على التحكم في نفسيهما، لهذا تقومان بجرح أطرافهما لا لشيء فقط رغبة في رؤية الدم وتذوقه". لا يهدئ من روعهما وحركتهما المفرطة وعدوانيتهما الزائدة سوى أدوية مهدئة خاصة بالأمراض العقلية والنفسية، تضيف الأم: "أجلب لهما دواء مهدئا من مستشفى الأمراض العقلية والنفسية بالراشدية، تأخذانه يوميا، لهذا تبدوان بحالة هادئة الْيَوْمَ". وعلى الرغم من قدرة الأم رابحة أزلماض الخارقة في حمل تفاصيل حياة مأساوية لا تطاق، فإن وهن جسدها أصبح عائقا أمام تحمل عبء الاعتناء بهما، تكمل الأم في سرد معاناتها: "لم أعد قادرة على تحمل الاعتناء بهما وجلب الماء من منطقة تبعد بستة كيلومترات؛ لأن جسدي لم يعد كالسابق، فأنا أبلغ الآن من العمر عتيا.. لكني سأرعاهما بكل ما أوتيت من قوة حتى آخر عمري". وفِي ظل غياب إمكانات مادية تعجل باستشفائهما من المرض العقلي الذي أصاب الفتاتين، تسلم رابحة أمرها ووهن جسدها ومعاناة فلذة كبدها لخالقها مقتنعة بأن "ما أصابهما هو ابتلاء من الله وأن الأنبياء قبلها عاشوا في الخيمة ولا عيب في ذلك، وكل ما تأمله هو استشفاء ابنتيها اللتين تعدان أملها الوحيد في الحياة". للتواصل مع رابحة أزلماض: 0615068098