في "الحوار الوطني"، و "تجاوز الأزمة"(2)...؟ تفاعلاً مع مقالةِ الأستاذ إلياس العماري في "السطور الماضية"، حول ذاتِ الموضوعِ أعلاه، أكدتُ إيجابيةَ "المبادرة" مع الأفكارِ والأماني المعبرِ عنها في مقالة السيد إلياس العماري، الداعيةِ إلى "حوارٍ وطني" وتجاوزِ "الأزمة القائمة"، بهدفِ "تشييد مشروع مجتمعي جماعي مغربي"، يعيدُ فتحَ آفاقَ النهضةِ والتقدمِ أمام المغاربة، يُبقي المغربَ في عصرهِ ويُجَنبُهُ مخاطرَ مزيدٍ مِنَ الانحصارِ والاستضعافِ والاستسلامِ للتغيِيراتِ القويةِ الجاريةِ في محيطه والعالم. لقد تساءلتُ في سطورِ المقالةِ الماضية؛ مَنْ سيحاورُ مَنْ؟ ... بل، وكيف أيضاً؟، موضحاً أنني لا أرومُ أبداً "تثبيط العزائم، ولا تعقيد الأمور" أكثرَ مما هي مُعقدة... لذلك بادرتُ بتسجيلِ إيجابيةَ الدعوةِ إلى هذا "الحوارٍ الوطني" في معطياتِ حالتِنا المغربيةِ وسياقِ تسارعِ مستجداتِ العواملِ الخارجية، وانتصرتُ لفكرةِ هذا الحوارِ الهادفةِ إلى إحياءِ فكرةَ الشروعِ في "تشييدِ مشروعٍ مجتمعي"، موثقٍ وموثوق، حيثُ الغاية الأسمى استعادة الإشعاع الحضاري للمغربِ ومعه استحقاق التحكمِ في زمامِ الأمور. وفي سطوري هذه، يَستوقفني هذا السؤال؛ مِنْ أين يُمكنُ أنْ تنطلقَ مبادرةُ هذا الحوار بأهدافه أعلاه؟ أَمِنَ الدولةُ أَمْ مِنَ المجتمع؟، وأتمنى (مِنَ الأماني طبعاً !) أنْ ينطلقَ ويَنبثقَ منهما معاً، وأنْ تُشكلَ فيه قراءةُ "مشروعِ الدولة النافذ" في الواقعِ؛ تحليلُهُ، مُساءلتُهُ وتقيِيمُه، مُنطلقَ الحوار المنشود... بيد أن مثل هذه الأماني تظل غالباً كذلك، مجرد أماني، خصوصاً وأن هناك مِنَ "الحاكمين" و"المتنفذين" مَنْ يواصلُ الاعتقادَ بأن "الأمور عادية"، وأن البلد على "السكة الصحيحة"، وأن كل "التوقعات متحكم فيها"، وأن "الدولةَ أقوى من أي وقتٍ مضى"...؟ أعودً للعنوانِ المنطلقِ منه عبر هذا السؤال؛ أي مشروعٍ مجتمعي مغربي جديرٍ بإطلاقِ نهضةٍ مغربيةٍ صحيحةٍ، عميقةٍ وشاملة، خَلاقةٍ وواعدة؟ لا شك أن "الاستحقاقَ النهضوي" الذي طُرِحَ كتحدي خلال القرن الماضي وقبله، لا يزالُ قائماً ومطروحاً حتى الآن، وإنْ كان قد استجد فينا مَنْ يعتبرُ المغربَ "ملحقة فرنسية غربية محسومة" أو "بلداً مفصولاً عن عمقه العربي"، تحت غطاءِ هوياتٍ حَارقةٍ، مُوقَظَةٍ ومُستعملةٍ باسمِ "الثنائياتِ المُفتعلة" و"تَقْنِيعِ الأُصولِ بالفروعِ"، وبالعرقِ واللسانِ أو الدينِ والأمة... وبالرغمِ من هذا وغيره، فقد ساد قُبيْلَ وإبانَ ومباشرةً بعد مسلسلِ "الاستقلالات" من الاستعمارِ المباشر، منتصفَ القرنِ الماضي، في المغربِ ودولِ المنطقةِ والقاراتِ الثلاث، توجهان فكريان وسياسيان اثنان؛ إنجاز "استحقاق التحرر الوطني" مقابلَ تَوَجهِ الاستسلامِ للخارجِ والتبعيةِ اللعينةِ له. في المغربِ أيضاً، تجاذب التوجهان، تصارعَا وتعايشَا، تحت عناوين فكريةٍ وسياسيةٍ وإيديولوجيةٍ مختلفة، وانتهى الأمرُ إلى "النموذج المجتمعي والتنموي القائم"، مشروعاً للدولةِ، مدعوماً من لَدُنِ التياراتِ المحافظةِ والمُسْتَغْرَبَةِ وكذا القوى المَصالحيةِ "الليبيراليةِ" و"الإسلاموية"، ومُباركاً من طرفِ "أغلبية مغلوبة" ومختلفِ المستفيدين- القُدامى والجدد"- ظرفياً أو استراتيجياً، من بقاءِ الأوضاعِ كما كانتْ، أو على ما هي عليه... وهكذا، نجد أنفسنا اليوم أمام حصيلةٍ تنمويةٍ، اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ وسياسية، إنْ كانتْ لا تُقلقُ كثيراً في حاضرِنا، فهي لا تضمنُ عدم تفاقمِ هذا القلقِ بِشتى المخاطرِ في المستقبل، بل وربما على الأمدِ القريبِ أيضاً. لا زلنا على صعيدِ الأمنِ الاقتصادي والتوازناتِ الماليةِ الأساسيةِ رَهائنَ هذه العائدات؛ الفلاحة التصديرية (المُبَذرَةِ للمياه والمُنْهِكَةِ للتربة)، الفوسفاط (مُعَرضٌ للاستنزاف)، تحويلات مغاربة العالم (غير مَضمونة الانتظام والاستقرار)، اتفاقية الصيد البحري (مُقابل أقل من نصف دولار للكيلو الواحد من السمك، هذَا عْلَى هَذَا)، استثمارات أجنبية مربحة للأجانب (أغلبُها استهلاكيات مرشحة للرحيل)، وبعضِ الصناعاتِ التحويليةِ أو التركيبيةِ، البسيطةِ أوِ الممنوحة، تُضافُ إليها مداخيلُ الضرائبِ والسياحةِ والصيدِ والصناعةِ التقليديةِ والفلاحاتِ الأخرى وما يُسمى بأنشطةِ اقتصاديات الظل (البَرَكَة دْ الله، وْصافي !)...؟ وبالمقابل، لا زلنا أيضاَ معتمدين على غيرِ أنفسِنا في توفيرِ عَدَدٍ مِنْ حاجيتنا في الكثيرِ "مِنَ الضرورياتِ والتكميلياتِ معاً، بما في ذلك الحبوب والبذور الموصولة بالأمنِ الغذائي في بلدٍ يُنعتُ بالفلاحي... وأمام هذه الحقائقِ الاقتصاديةِ والتجاريةِ الملموسة، لا عجب في أنْ يستمر العجزُ في ميزاننا التجاري بصفةٍ بنيويةٍ، بالتزامنِ مع موجاتِ التضخمِ والنقصِ في الاحتياطياتِ الماليةِ الدوليةِ، مع التفاقمِ المضطردِ لمعضلةِ الدين الخارجي، بصفةٍ تكادُ تكونُ "مؤقتاً دائماً" وقاتلة ...؟ ولن يُخفى على أحدٍ منا، مدى علاقة الأمن الاقتصادي بالأمنِ الاجتماعي والثقافي، وبالتالي بالاستقرارِ والاطمئنانِ السياسي والمجتمعي المستدامين... وحين يصبحُ الداخلُ مرهوناً بالخارج، تتغولُ "ديانة الاعتماد على الغير" والمُوالينَ له على حساب "عقيدة الاعتماد على الذات" والولاء للمغرب، فتصيرُ "الثروات الطبيعية" في خدمةِ الغيرِ ودولِه، و"الثروة البشرية" لا قيمةَ لها إلا بمقدارِ وحجمِ ما يسمحُ به هذا "المشروع والنموذج التنموي التبعي" للخارجِ وتوجهاتِه، مِنْ اختياراتٍ تبعيةٍ موجهةٍ في التربيةِ والتعليمِ والتكوينِ والتأهيلِ والسياساتِ الاقتصاديةِ والاجتماعية والثقافية، وفي كل مصالحِ الدولةِ ومناحي الحياةِ عموماً. لذلك، عِشْنا تلك الانحصاراتِ الاقتصاديةِ بكُلفتِها الاجتماعيةِ والسياسيةِ منذ ثمانينياتِ القرنِ الماضي، بتدخلِ مؤسساتِ الديْنِ والاستدانةِ الخارجية في شأننا الداخلي... وربما لذلك أيضاً، عَممَ "الملك الراحل" في آخرِ عمره وَأوْجِ نَباهَتِهِ نَذِيرَ "السكتة القلبية"، واستقدم مقاوماً وطنياً وقومياً نزيهاً واشتراكياً أممياً أصيلاً، من منافي سنواتِ الاستثناءِ والرصاص، كي يُبعدَ "مخاطر السكتة" ويُلَينَ "المفاصل الوطنية" بضمانِ "الانتقال السلس للمُلْك"، بإطلاقِ ديناميةِ 'الانصاف والمصالحة" حقوقياً وسياسياً، بالتحريكِ الدولي المُثمرِ لبعضِ ملفاتِنا الوطنيةِ الكبرى خارجياً، بِضَخ بعضِ الروحِ في بعضِ مكوناتِ الطبقاتِ الوسطى اجتماعياً، وبِفتحِ "نافذةِ الأمل" في وجهٍ مَنْ كان في "قاعةِ الإنتظار" مِن بعضِ الفاعلين مستعداً للاندماج في مشروعِ الدولة، وأمام المجتمعِ المغربي من جديد، استراتيجياً... مع معالجةِ كارثةِ الدين الخارجي ذات العلاقةِ الملموسةِ بالإملاءاتِ الأجنبيةِ تخصيصاً... اليوم، حيث لم يتبقَ لدينا ما نبيعُ للخارجِ ولا لِغيره، مِنْ قطاعاتٍ استراتيجيةٍ مُربحةٍ باسمِ "الخوصصة" و"تحرير السوق" أو" تنمية المنافسة"، تزامناً مع استنفاذِ ما تبقى من جرعةِ حياةٍ تبقتْ من أواخرِ عمرِ وأوجِ نَباهةِ الملكِ الراحلِ وتجربةِ المجاهدِ عبد الرحمان اليوسفي، قبيل انطلاقِ الحكومة الثانيةِ لحزب الخطيب والإسلام السياسي بالمغرب... اليوم، وفي سياقِ هذه الظروفِ والشروطِ والمعطيات، لا تُفارقني تساؤلات من هذا القبيل؛ أَلَا يزالُ أمامنا مُتسعٌ ما لمواصلةِ سياسةِ الترقيع...؟ أعني ترقيعَ المُرَقع في "المشروع والنموذج المجتمعي التبعي"، المعتمدِ والسائدِ والنافذِ منذ الاستقلال السياسي حتى الآن...؟ هل يستطيعُ غير المثقفِ، العضوي والجماعي، بَعْثَ السؤال النهضوي الحقيقي، والتوسل لمعالجته بالعلمِ والمعرفةِ والعقلانيةِ والإلتزام، وبالأفقِ المغربي والقومي والإنساني، الواعدِ والخلاق...؟ هل تكونُ الأحزابُ بلا أَدوارٍ واستقلاليةٍ ونُبْلٍ ومثقفين؟ والدولةُ والمجتمعُ بلا صُفْوَةٍ عالمةٍ أو نُخَبٍ وطنيةٍ نزيهة، مُنَوَرَةٍ ومُتَنَوِرةٍ ومُنَوِرَة، وازنةٍ ومستقلة، حُرةٍ ومُبدعةٍ، مبتكرةٍ ومُخترعة، ولادةٍ ووضاءة؟ وهل يكونُ الحاكمُ، ملكاً أو مُنتخباً، مهما عَظُمَتْ شرعيتُهُ ومشروعيتُهُ، قوتُهُ وحصافتُهُ، نزاهتُهُ والحاجةُ التاريخيةُ أوِ الظرفيةُ إليه، أكثرَ طَمْأنةً وطُمأنينةً واستئماناً على وطنه وشعبه والأجيالِ المقبلة، بلا "حاشيةٍ" نزيهةٍ وعالمة، صادقةٍ وذاتِ مصداقية، للتنويرِ ومِنْ المُنَورين حوله، بقيمِ العِفةِ والتواضعِ والحريةِ، وكذا بمبادئِ الإنصافِ والمساواةِ وتكافؤِ الفرص، من أجلِ "أعز ما يُطْلَب"...؟ وهل يتحققُ "أعَز ما يُطْلَب"، ولَوْ بعضه، بلا "حوارٍ وطني" دائمٍ ومستدامٍ، حتى مِنْ دون أزمةٍ ما أوِ انحصارٍ ما، والحالُ أن دَيْنَ وعهدَ واستحقاقَ استعادةِ "التحكمِ في زمامِ الأمور"، مع استرجاعِ دورِنا ومهامِنا في "الإشعاع الحضاري الإنساني"، الجهوي والكوني... والحالُ أن هذه "الأمانة العظمى" العابرة للأجيالِ والمصالحِ والظرفياتِ والزمن، ما زالتْ أبداً عن كاهلِنا أو مِنْ حول أعناقِنا، ولا مِنْ رؤوسِنا أو قلوبِنا المغربيةِ كلها، منذ حوالي 05 قرون ونيف...؟ أختمُ هذه السطور بهذه العبارات؛ لا أعتقدُ أنه قد يوجدُ في مضمارِ "المشروع المجتمعي والتنموي التبعي" نموذجاً مجتمعياً أحسنَ مما هو قائمٍ ونافذ الآن...؟ أما "المشروع البديل"، النهضوي العقلاني والتحرري، فيستلزمُ، مِنْ جملةِ ما يستلزمُ، تلك "الإرادات التي تثقبُ الجبال" في "القمة"، نُخَباً فكريةً وسياسيةً مُتنورةً وأصيلةً للتنويرِ والقيادةِ والبذلِ والعطاء في "الوسط"، وقوىً اجتماعيةً حيةً مُهيأةً ثقافياً للأنوارِ والإبداعِ والبناءِ في "السفوح"... وذلك بالموازاةِ مع وجودِ عوامل خارجيةٍ غير مُحبطة. وللموضوعِ بقية... والله المستعان.