شكلت الهجرة إلى بلاد "العم سام" حُلما راود الكثيرين من مختلف بقاع العالم، لكونها أرضا تُتيح فرص الارتقاء الاجتماعي والبحث العلمي والتفوق الأكاديمي للجميع بغض النظر عن الانتماءات الدينية والعرقية واللغوية. وقد ساعد على ترسيخ هذه الفكرة العديد من النماذج الفكرية والفنية والرياضية، التي اتخذت من بلاد "تمثال الحرية" منصتها للتفوق والإبداع. كما ساهمت وسائل الإعلام واستوديوهات هوليود في تشكيل تصور خاص عن العيش والحياة في الولاياتالأمريكية حتى أصبحت الهجرة إلى هناك حلما قبل كل شيء. بالمقابل، اعتبرت أمريكا الهجرة والمهاجرين مصدر غنى وتنوع، ومشتلا خصبا للعديد من الموهوبين والطاقات في كل الميادين. ومع تراكمات سياسات الهجرة وأثرها في الحياة الأمريكية، أصبح ملف الهجرة زاوية مهمة في نقاشات ساخنة للأحزاب السياسية واللوبيات الاقتصادية، بل أصبح ورقة انتخابية، وهو ما جعل الرئيس الحالي للولايات الأمريكية دونالد ترامب يؤكد في كل خرجاته الإعلامية أثناء الحملة الانتخابية على عزمه بناء حائط حدودي مع المكسيك يمنع الهجرة غير الشرعية ويحُد من الجريمة، كما لوح بطرد 11 مليون مهاجر غير شرعي. وقد لقيت السياسة الحمائية أو "أمريكا أولا"، التي أعلنها ترامب، قبولا لدى المواطن الأمريكي المرهق من تداعيات الأزمة الاقتصادية، ونقلت المهاجر من مصدر غنى إلى مصدر قلق وإزعاج وسارق لفرص عمل الأمريكيين! أكثر من هذا، فبعد مرور أسبوع واحد فقط على تنصيبه رئيسا لأمريكا، سيُصْدر دونالد ترامب في 27 يناير 2017 "مرسوما تنفيذيا" يمنع بموجبه مواطني سبع دول إسلامية من دخول أمريكا، وهو القرار الذي أثار موجة كبيرة من الاستنكار والانتقاد، وصلت إلى القبضة الحديدية بين القضاء الفيدرالي والرئيس الأمريكي، بالإضافة إلى استنكار كبير من طرف فعاليات حقوقية ومهنية وإعلامية وأكاديمية مرموقة. موجة الانتقادات هاته ستُواكبها انتقادات أخرى بخصوص الحائط الحدودي بين أمريكاوالمكسيك من حيث دواعيه وتكاليف إنجازه! وسيزداد ملف الهجرة اشتعالا بإعلان الرئيس ترامب في غشت 2017 عن مبادرة لتقليص عدد المستفيدين من نظام القرعة السنوية "الكْرين كارد" المعمول به منذ سنة 1995 في إطار تنويع الهجرة نحو أمريكا. من جهته، أبرز ترامب بعض حسنات هذا التقليص، حيث أوضح بأنه سيقوي تنافسية الاقتصاد الأمريكي وسيفتح مجال الهجرة أمام "العمال المتأهلين" فقط، وسيسمح بتدبير ميزانية المساعدات الاجتماعية، وقبل هذا سيحد من منافسة المهاجرين للعمال الأمريكيين في سوق العمل وتدني الأجور. لكنها حسنات لم تقنع بعض حُكام الولايات، التي تعتمد في اقتصادها على اليد العاملة المهاجرة، خاصة في ميداني الفلاحة والخدمات، بالإضافة إلى مجال الصناعة، مما يجعل موضوع إعادة هيكلة يانصيب "الكرين كارد" معركة تشريعية وحقوقية وإعلامية كبيرة ستعرفها الساحة الأمريكية في المستقبل القريب. ولم تقف "ماكينة" ترامب عند هذا الحد، بل ستُدْخل إلى حلبة الصراع السياسي، القريب من الشعبوية، مصير أكثر من 800 ألف مستفيد من برنامج "ديكا" بوضعه حدا لهذا البرنامج يوم 5 غشت 2017، وحدد مدة ستة أشهر للكونغرس من أجل إيجاد حل بديل لهذا البرنامج. وبرنامج "ديكا" أطلقه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما سنة 2012 من أجل حماية الأطفال القاصرين المرافقين لآبائهم المهاجرين غير الشرعيين من الطرد، لكن بشروط، منها، مثلا، أن يوجدوا بأمريكا قبل 2007 أو يبلغوا من العمر أقل من 15 سنة، مع ضرورة نظافة سجلهم العدلي. وهو برنامج يُتيح للأطفال الذين ترعرعوا بأمريكا متابعة الدراسة وكذا العمل لأنهم لا يعرفون أمة أخرى غير الأمة الأمريكية. ونُذكر بأن الرئيس السابق أوباما أصدر هذا البرنامج بمرسوم رئاسي بعد أن عجز الكونغرس عن المصادقة على قانون يتضمن التنمية والإغاثة والتربية للمهاجرين القاصرين، أو ما يُعرف اختصارا ب"دْريم أكت"، وهو قانون لم تتم المصادقة عليه منذ 2001، لذلك فالمستفيدون من برنامج "ديكا" يُطلق عليهم اسم "الحالمين". وقد عبر كل من الرئيس دونالد ترامب ووزير العدل الأمريكي جيف سيسيون، بلغة قوية، بأن "الحالمين" مهاجرون غير شرعيين، وبالتالي فهم يضايقون المواطنين الأمريكيين في فرص العمل، فيما عبر بول راين، رئيس البرلمان، عن رغبته في الوصول إلى توافق من أجل حل تشريعي دائم. " ديكا" أو"دريم أكت" سيكون موضع سجال سياسي وقانوني بين الجمهوريين والديمقراطيين، قُطبي الحياة السياسية، وستختلف التبريرات حسب المصالح الانتخابية وكذا الاقتصادية! في نفس السياق، عبر أوباما عن امتعاضه من إيقاف برنامج "ديكا"، ونفس الاتجاه ذهبت إليه كبريات المنابر الإعلامية الأمريكية، أما مارك زوكربيرغ (مؤسس الفايسبوك) فقد اعتبره "يوما حزينا"، كما خرج طلاب مدينة دينيفر بكولورادو من أقسام الدراسة احتجاجا على قرار ترامب بوقف برنامج "ديكا". ويبدو أن الرئيس الأمريكي ترامب ماض في تنزيل مقومات السياسة الحمائية أو "أمريكا أولا" على مقاسات معينة خاصة بسياسته الجديدة للهجرة، كان قد أعلنها في حملته الانتخابية ولم تمنعه من ذلك إكراهات الممارسة السياسية أو الاصطدام مع المنظمات الحقوقية والخصوم السياسيين. فهل سياسة الإدارة الأمريكيةالجديدة في مجال الهجرة، التي تعتمد على معايير التضييق والتقليص والتراجع عن طريق إعادة النظر في كل القنوات والممرات القانونية الخاصة بالدخول والعيش بأمريكا، بدءا من يانصيب "الكرين كارد" وبرنامج "دريم أكت" و"ديكا" ونظام التأشيرات وغيرها تُمثل اغتيالا للحلم الأمريكي؟ وهل هي إعلان عن نهاية فترة اعتبرت فيها أمريكا أرضا للحرية والتضامن والعدالة واستقبال المهاجرين واللاجئين؟ أم نعيش بداية العد العكسي "لإعلان الحرب" على الحُلم الأمريكي؟