اعتاد عدد من فقهاء المسلمين وبعض العلماء والأطباء والأكاديميين أن يزجوا بأنفسهم بمناسبة حلول كل شهر رمضان في غمار نقاش ساخن للبرهنة والتدليل على الفوائد الصحية التي يجنيها جسم الإنسان من وراء الامتناع عن الأكل والشراب، حيث لا يتأخرون عن القول بأن الصيام مصدر صحة وعافية وأنه عبادة شرعها الله عز وجل لأجل تحقيق توازن الروح والجسد وتنقية هذا الأخير من الكثير من السموم والفضلات. وهم في سعيهم الحثيث هذا لإخضاع الشريعة لامتحان العلم والمعرفة يبدون وكأنهم يغتنمون مجيئ رمضان لتقديم أدلة إضافية أخرى على صدق الإسلام وتفرده بكل ما فيه صلاح الإنسان وخيره وعافيته مؤكدين أن في الصوم مصلحة وعلاج للإنسان من كثير من الأمراض وتخليص له من عدد من الأعطاب وقد يستشهدون في هذا بشهادات وتجارب لأشخاص غير مسلمين خاضوا تجربة الصيام واكتشفوا منافعه التي لا تنضب في إطالة أمد الحياة وإسباغ نعمة الصحة والعافية عليهم. المؤكد أن نوايا هؤلاء العلماء حسنة، فذلك مما لا يخامرنا فيه شك، لكن مع ذلك فإننا لا نتفق على هذا هذا المنهج، لماذا؟ لأننا نظن أن هؤلاء العلماء يركبون مخاطرة كبرى حين يبادرون إلى تبني هذا المنطق الذي كاد يتحول إلى موضة لدى البعض الذي يحاول جاهدا هذا التمرين العلمي بأن يبرر طبيا جيولوجيا ورياضيا.. ديننا الإسلامي الحنيف، فالإسلام كدين نهائي ارتضاه الله للإنسانية قاطبة يبشر بنظام أخلاقي واجتماعي وسياسي واقتصادي أمثل، ويهتم بتنظيم كل مناحي الحياة لدى الإنسان سواء من خلال علاقته بالله عز وجل أو من حيث علاقته بغيره من بني البشر لا يحتاج لأن يقدم براهين أخرى على صدقه خصوصا تلك التي تنهل من معين العلم. فالعلم كما لن يجادل في ذلك أحد يتسم بصفة التقلب والتغير. نتائجه دائما غير ثابتة وغير نهائية، وما يبدو صحيحا اليوم قد يصبح غدا متجاوزا لذلك سيكون من باب المغامرة أو المجازفة أن نعاند لأجل إضفاء صبغة علمية أو صحية على كل الشعائر التي أتى بها ديننا الحنيف في زمن لا تستقر فيه العلوم على حال. الإسلام يدعو إلى العلم كما أنه يأمر المسلمين بطلبه من المهد إلى اللحد وإلى شد الرحال لأجله ولو إلى الصين، وهذا موقف إيجابي من العلم يكفي لرد حراب كل من يتهموننا بالجمود والتحجر. لذلك فبخصوص البحث في مسألة ما إذا كان للعبادات وضمنها صيام رمضان، بعد علمي لابد لنا أن ننبه أساسا إلى أن كل الشعائر التي فرضها الله تنشد تحقيق غاية من الغايات، وهي تتطلب لإنجازها بعض الجهد كدليل من المؤمن على إيجابيته وكتعبير إرادي من قبله على انصياعه لها وعلى امتثاله لكل ما أمرت به الشريعة الإسلامية. ورمضان قبل أن يكون متضمنا لمحاسن صحية وقبل أن يكون تمرينا صحيا يمكننا من إصلاح بعض أعطاب أجسادنا ويعيد إلينا مضاء قوانا الذهنية والعقلية ويصقل شخصيتنا ويعودنا على أداء الواجب، هو قبل كل شيء عبادة كباقي العبادات يستدعي الصبر والعزيمة والمبادرة من قبل المقبل عليه. وقد شرع أساسا لضخ مبادئ المواساة والتكافل والتآزر بين أفراد المجتمع حتى يكون كالبنيان المرصوص من خلال تحقيق التقارب بين أغنيائه وفقرائه وبين جياعه ومتخميه. إن من واجبنا كمسلمين أن ندرس تأثير الصيام على جسد الإنسان وأن ندرس كذلك تأثر مختلف الأمراض بالصيام حتى تكون معرفتنا بهذه العبادة معرفة دقيقة من الناحية الصحية تخضع للمعلومات والمعايير العلمية المتعارف عليها حاليا دون أن يسيطر علينا هاجس البحث عن الدلائل العلمية على صدق ديننا الحنيف فرمضان عبادة وشعيرة من شعائر الدين قبل أن يكون تمرينا صحيا أو إعجازا علميا، لا يعني هذا أن الصيام ليست له منافع أو محاسن بل هو ضروري لأجل تجديد الطاقة الأساسية للإنسان. ولكن فقط لا ينبغي تحميله عبئ الإثبات العلمي لصدق رسالة الإسلام، فالمعارف الطبية في تطور مستمر. ورمضان مستقر منذ سنه الله لأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. والثابت لا يمكن إخضاعه لمنطق المتحول. هذه فكرة أومضت لنا مع بداية هذا الشهر المبارك، فاللهم امنحنا إيمانا كإيمان العجائز.