حين رخصت إدارة السجن لنا بجهاز التلفاز، وأمام مشكل إغلاق الزنازن في المساء، قررنا التناوب بشكل ديمقراطي على هذا الجهاز ذي القيمة الكبيرة لدينا جميعا... خاصة بالنسبة لهواة الأفلام... في كل مساء كان "يتمتع" ب"صندوق العجب" عنبر من عنابرنا الأربعة...و بعد شهور قليلة سمحت لنا إدارة السجن بوضعه في "الكروا"/الممر، حتى تكون الفرجة جماعية. لكن الإقبال على التلفاز سيتلاشى مع الأيام، حين صار مصدر إزعاج بالنسبة للبعض منا... أما بالنسبة للبعض الآخر، فكان وسيلة إعلامية، ووسيلة لملء الفراغ والاستمتاع بالصورة... قصص كبيرة لنا مع جهاز التلفاز... لا تعد ولا تحصى... كانت القراءة المتعددة والمتنوعة، تشفي غليلنا بامتياز.. كنا نعيش لحظات ممتعة مع أبطال الروايات، والشعراء، وكتاب العلم والفكر. نتألم ونتعاطف مع من يشبه أوضاعنا بقليل أو بكثير، نتفاعل مع أحبائنا الطيبين وعشاق محنتنا. تذكرت تضامني الكبير مع الشاعر الأندلسي كارسيا لوركا الذي أعدم رميا بالرصاص (يوم 19 غشت 1936)، لا لشيء سوى لأنه فضل أن يعانق هموم إسبانيا في الحرب الأهلية بالشعر والأناشيد، في عهد اليمين الفاشي.. ذلك الذي تابعته من خلال أطوار رواية "هيجان" لصاحبها مارسيل أوكلاير. كانت آلة العود تؤنسني كثيرا.. تحثني كل يوم على متابعة التمارين الموسيقية وحفظ الأغاني... كنت أغني كلما شدني الشوق لعشاقي: أفديك بالروح يا وطني أفديك بالروحي والجسد ياما تعبنا، ياما هجرنا.. ياما تعبنا في الليالي هاده دموع الأمهات، لكل الأبرياء.. لكل الشهداء.. في دار المقري.. وتازمامارت.. في درب مولاي الشريف.. وقلعة مكونة في كل الدروب في كل السجون ياما تعبنا، ياما هجرنا.. ياما تعبنا في الليالي شفت القصيدة في عيون سعيدة والمدينة ومصانع كثيرة فين الحقيقة، فين الإنصاف فين زبيدة واشباضة وآيت الجيد وكل الرقاق ياما تعبنا، ياما هجرنا.. ياما تعبنا في الليالي افتش عنك في كل السجون وابحث عنك في كل الدروب فين المهدي، فين عمر والتهاني وكل الرفاق إنها إحدى المحاولات الغنائية التي كتبت كلماتها وقمت بتلحينها في السجن، لتصبح من بين الأغاني التي تؤرخ لمرحلة من مراحلي السجينة. ومع مطلع شهر ماي من سنة 1990، وصلنا خبر تأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، الذي جاء متزامنا مع تصاعد المطالبة بالإصلاح في مجالات حقوق الإنسان... لم نعقد أي آمال على المجلس، خاصة حين علمنا بنعت المناضل السرفاتي بالصهيوني... ومحاكمة مدير جريدة الطريق، والحكم عليه بأربعة أشهر نافذة... والحكم على مدير جريدة الأسبوع.. وبعد ذلك بقليل اعتقال رفيقنا الشهيد "آيت الجيد محمد بن عيسى"، ووصوله إلى سجن عين قادوس يوم 13 يوليوز.. كما تزامنت هذه الأحداث نفسها مع محاكمة رفاقنا "عبو سعيد" و"أمغار فريد" و"الدركال النبيه محمد علي" و"المحجوبي حميد" و"محمدين" و"قرطيط حسن" و"المسربس" و"الشريف"، حيث كانت الأحكام كالتالي: عبو والمحجوبي 5 سنوات نافذة لكل واحد، والباقي 3 سنوات لكل واحد منهم. كنا قد انتظرناهم منذ صباح 17 يوليوز، إلى الحادية عشرة ليلا، حين جاؤونا منهكين، يجرون وراءهم أحكاما ثقيلة، مستنكرين من الذي نطق بها، القاضي عبد النور الذي أصبح مختصا في المحاكمات السياسية في مدينة فاس، وفي ملف الطلبة القاعديين بوجه خاص. تميز شهر غشت، هو الآخر بأحداث استثنائية، مثل تدخل العراق في الكويت صباح اليوم الثاني من الشهر، استجابة لطلب بعض الثوريين في العراق، حسب صدام حسين، وأدان المغرب التدخل بشدة، عقب اجتماع مجلس الحكومة الذي ترأسه رسميا الملك، كما تعالت أصوات الإدانة من هنا وهناك أمام تعنت العراق. كما أسفرت قمة القاهرة على قرار حشد القوات العربية على الحدود السعودية. أما على الصعيد الاجتماعي، ومنذ بدء الموسم الجديد، لوحت الكنفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالإضراب العام، وهو ما ردت عليه الحكومة بعنف، مهددة بالاعتقال وبتهمة الإخلال بالأمن العام، كما هي العادة. أما رد المركزيتين، فكان حاسما فيما يتعلق بالتشبث بقرار الإضراب، حيث أعلنت استعدادها لخوض الإضراب، يوم 5 دجنبر رغم الترهيب والوعيد. كانت الأحداث تتعاقب علينا تباعا، ونحن نتابع الساحة السياسية المليئة بالنقاط الساخنة. نتألم تارة، ونصمد رغم عزلتنا السياسية، نعلن تضامننا اللامشروط مع كل قضايا شعبنا، نحافظ على شرارتنا، ونخوض الإضرابات عن الطعام، نصدر البيانات، ونحتج على كل الخروقات التي تمس جماهير شعبنا. هكذا خلدنا ذكرى الانتفاضة الفلسطينية يوم 9 دجنبر، ثم اليوم العالمي لحقوق الإنسان، يوم 10 دجنبر، والذي تزامن مع تقديم مشروع الميثاق الوطني لحقوق الإنسان الذي صادقت عليه 5 جمعيات ومنظمات حقوقية. وفي اليوم الموالي، كان موعدنا مع ذكرى استشهاد المناضلة التقدمية سعيدة المنبهي. على صعيد آخر، كان الاتحاد المغربي للشغل وكعادته مهادنا، حيث قبل بالحوار الذي كان قد جرى يوم السبت 9 دجنبر مع الحكومة. أما المركزيتان الداعيتان للإضراب فكانتا مصرتين على تنفيذ الإضراب العام يوم 14 دجنبر مهما كان الثمن. وهكذا كان.. في يوم الجمعة 14 دجنبر، دشنت النقابتان إضرابهما العام، وكان يوما مشهودا، إذ كنا نتابع ما يجري من وراء الأسوار، من خلال حالة الطوارئ التي تم الإعلان عنها داخل السجن، ومن خلال الأخبار التي كانت تصلنا عن طريق الحراس. و كما كان متوقعا، عاشت مدينة فاس انتفاضة حقيقية، شارك فيها آلاف المتظاهرين، مرددين شعارات مختلفة، تطالب بتحسين الوضعية الاجتماعية وإقرار الديمقراطية وحقوق الإنسان ببلادنا. كنا نتألم ونتحسر من داخل زنازننا، ونحن نستمع لبعض الطلقات والأعيرة النارية ولصوت الرصاص الحي، ضد متظاهرين بالقرب من الحي السكني عين قادوس المجاور للسجن. في غده، اشتد الحصار علينا و بدأت الأخبار تتوالى: أزيد من 30.000 مواطن شاركوا في انتفاضة فاس.. طنجة والرباط ومدن أخرى شاركت في الإضراب العام.. استشهادات، واعتقالات، وجرحى.. إلخ. وبعد ساعات معدودة، جاءت الحصيلة على الشكل التالي: سقوط 52 شهيدا، وما يزيد عن المائة من المعطوبين والجرحى، حسب ناطق رسمي باسم إحدى النقابات. أما عدد المعتقلين -حسب البلاغ الرسمي- ففاق 200 معتقلا، قدموا للمحاكمة يوم الاثنين 17 دجنبر، بدون تحقيق، وفي أجواء من الترهيب والتنكيل. في الوقت الذي لم يعترف بيان وزارة الداخلية، إلا بموت طفل واحد ورجل أمن. هكذا عاشت مدينة فاس، لما يزيد عن أسبوع، حالة طوارئ عمت المدينة. أما السجن، فضاق درعا بالمئات من المواطنين القاصرين، والشباب وحتى الشيوخ منهم. ونشير كذلك إلى محاكمة عبد الكريم غلاب، نظرا لمساندة جريدة العلم للإضراب العام، والقبض على بعض القياديين النقابيين بالمدينة، من بينهم حميد شباط وزوجته، والعلوي ثيتنا، ومحاكمة العشرات من أبناء مدينة فاس في محاكمات صورية، وزعت سنوات الحكم بسخاء، تراوحت بين سنة وسبع سنوات. لم تكن لنا أدنى رغبة للقيام بزيارة العائلة، نظرا للعسكرة التي كانت مضروبة حول السجن، ونظرا للأجواء المكهربة التي كنا نعيشها على المستوى النفسي. لم نجد بدا من التضامن مع الضحايا ببيانات استنكارية وإضرابات عن الطعام. هكذا إذا، ودعنا سنة 1990 بمرارة وحزن، وقليلا من الفرح والذكريات. سنة شهدت العديد من المستجدات على المستوى الوطني والعربي والدولي. كان انتصار المد الليبرالي المتوحش عبر العالم، وفشل المد الاشتراكي بداية أزمة حقيقية في الاتحاد السوفيتي الذي فشل في تطبيق البريسترويكا، وأزمات أخرى شهدتها العديد من الأنظمة الاشتراكية (بلونيا، ونيكاركوا، وألبانيا، ورومانيا، وأخيرا سقوط حائط برلين). عند اقتراب ليلة رأس السنة الميلادية، خلدت إلى الصمت في عدة لحظات لأكتب ولأغني ل"دجنبر الفاسي" أغنية لم تفارقني طوال مدة اعتقالي: طفل الحي نهض باكرا، طفل الحي صرخ عاليا، و صنع ملحمة.. مدينة فاس وردتي، مدينة فاس شمعتي، نسج كل خيوط الوعد بين الفقراء.. نسج كل خيوط الحب بين الفتيان والفتيات.. نسج خيوط العشق بين الشهداء.. و في الشوارع، كان يغني لقلب الوطن.. (...) المريزق في باحة الفسحة بسجن فاس